المشهد “الإسرائيلي” تشرين الأول / اكتوبر 2022

د.عدنان أبو عامر

المقدمة:

شهدت دولة الاحتلال خلال شهر أكتوبر العديد من التفاعلات السياسية، لعل أهمها: ذهابها إلى صناديق الاقتراع للمرة الخامسة خلال أقل من أربع سنوات فقط، وسط استقطاب حزبي غير مسبوق؛ مما يفسح المجال لاستكشاف السيناريوهات المحتملة، بجانب اشتعال الأوضاع في الضفة الغربية، لاسيما مع سلسلة اغتيالات طالت قادة “عرين الأسود”، واستمرار الهجمات الفدائية الفلسطينية، فضلًا عن حالة من التوتر الدبلوماسي “الإسرائيلي” مع أربع دول، مما كشف عن إخفاق سياسي كبير في مختلف القارات، لكن مستجدا مهماً شهده أواخر أكتوبر تمثل بزيارة وصفها “الإسرائيليون” بأنها “تاريخية” لوزير الحرب “غانتس” إلى أنقرة، لإتمام تطبيع العلاقات معها.

  • سيناريوهات الانتخابات:

من المتوقع أن يصدر هذا المشهد عقب ذهاب “الإسرائيليين” إلى صناديق الاقتراع، وسط استطلاعات لا تمنح أياً من المعسكرين المتنافسين القدرة الحاسمة على تشكيل حكومة بأريحية نسبية، بل إن التقديرات في معظمها تذهب باتجاه جملة من السيناريوهات ليس بينها ما ذكر أعلاه، والحديث يدور تحديدًا بين معسكر رئيس الحكومة “يائير لابيد”، ومعسكر زعيم المعارضة “بنيامين نتنياهو”.

استعرضت وسائل الإعلام ومراكز البحث خلال الساعات الأخيرة جملة سيناريوهات: أولها تشكيل حكومة يمينية ضيقة بقيادة “نتنياهو”، وهذا فرصه معقولة في حال حصلت الأحزاب الأربعة المؤيدة لهوهي: “الليكود” و”الصهيونية الدينية” و”شاس” و”يهودوت هتوراه” معًا على 61 صوتاً أو أكثر، وثانيها تشكيل حكومة وحدة برئاسة “نتنياهو” مع “بيني غانتس”، وفرصه ضعيفة، فالأول وعد في عدة حملات انتخابية بأنه سيشكل حكومة “يمينية” فقط، وفي الممارسة العملية فضّل تشكيل حكومة وحدة مع يسار الوسط، وهذه المرة فإن “غانتس” تعهد بعدم الوقوع في مغامرة أخرى مع “نتنياهو”.

أما السيناريو الثالث؛ فيتمثل بتشكيل حكومة برئاسة “لابيد” بدعم خارجي من الأحزاب العربية، وفرصه ضعيفة جداً، خاصة عقب تصريحه بأنها لن تكون في حكومته تحت أي ظرف، وعلى الورق لا يزال قادراً على تشكيل حكومة أقلية بدعم خارجي منها إن تجاوزت نسبة الحسم، ورابعها تشكيل حكومة وحدة بين “لابيد” والمنشقين عن “الليكود والحريديم”، وفرصه منخفضة إلى صفر، فإذا فشل “نتنياهو” بتحصيل 61 مقعدًا، فإنه سيسمح ل”لابيد” أن يظل رئيسًا لحكومة انتقالية، وسيكون هدفه محاولة تفكيك “الليكود”؛ للانضمام إليه؛ بينما يتمثل السيناريو الخامس في تشكيل حكومة بقيادة “غانتس” مع الأحزاب “الأرثوذكسية”، وفرصه منخفضة للغاية، رغم أنه في الأشهر الأخيرة شنّ حملة لتشكيل حكومة مع واحد أو أكثر من الأحزاب المعارضة، قاصدًا المتدينين، وبات يجري حوارات مع ممثليهم ويزور مدارس يهودية، ومنازل حاخامية مهمة.

إن هذه السيناريوهات جديرة بالدراسة والتأمل، لكن يفضل الانتظار إلى صباح اليوم التالي للانتخابات كي تتضح موازين الأحزاب بالأرقام الدقيقة، وحينها سيعرف “الإسرائيليون” هل سيكونون أمام واحد من هذه السيناريوهات، أم إنهم سيذهبون إلى سيناريو سادس يخشونه وهو الجولة السادسة من الانتخابات المبكرة!

  • استئناف الاغتيالات:

زعم الاحتلال أنه حقق إنجازًا أمنيًا وعسكريًا باغتياله مقاتلي “عرين الأسود” في نابلس، إلا أنًّ التخوف السياسي والميداني في أوساطه لا يزال قائما، لأن ما حصل يمكن اعتباره إنجازًا “مؤقتًا”، حيث سيطر المسلحون من نابلس على جدول الأعمال العام في الساحة الفلسطينية، وبعكس ما أراده الاحتلال، فقد اكتسب هؤلاء الشهداء شهرة كبيرة في الإعلام الفلسطيني والعربي، وأصبحوا رمزًا للبطولة الفلسطينية ضد “إسرائيل.”

رصد “الإسرائيليون” ما قالوا إنه حجم المشاركة الجماهيرية الفلسطينية الواسعة لجنازات شهداء نابلس، ومن المحتمل أن يشكل استشهادهم قدرًا كبيرًا من الحافز بين الشباب للانضمام إليهم، ويبقى السؤال الكبير الذي لا يزال قائمًا دون إجابة واضحة أمام أجهزة الأمن “الإسرائيلية”: كيف سيؤثر الضرر الناجم عن استشهاد مقاتلي “العرين” على مستوى الهجمات ضد الأهداف “الإسرائيلية”، وانضمام الشباب الآخرين.

ما زال لدى جهزة الأمن “الإسرائيلية” جملة تساؤلات حساسة وحرجة، بعد أن أتمت مهمتها بتصفية كوادر “العرين”، ومنها: هل سيؤدي ما حصل إلى ردع الفلسطينيين، أم أن الرغبة بالانتقام ستجلب المزيد منهم إلى الشوارع، لأن ما حصل في الجنازات الأخيرة يعني أن ظاهرة “عرين الأسود” اكتسبت موجات واسعة التأييد في أوساط الجمهور الفلسطيني، وهذا لوحده يشكل أكبر صداع ل”إسرائيل”، المتمثل بالخوف الدائم من صحوة شعبية فلسطينية واسعة النطاق ضدها.

بالتزامن مع القلق “الإسرائيلي” من تبعات اغتيالات نابلس، فقد رصد الاحتلال عشرين عملية إطلاق نار خلال شهر ونصف فقط؛ ضد مواقع “إسرائيلية” عسكرية واستيطانية في الضفة الغربية، مما مثّل نوعًا مختلفًا من التحدي للمنظومة الأمنية “الإسرائيلية”، عقب ما نفذته المقاومة من هجمات ناجحة.

كشف التقييم “الإسرائيلي” لهذه الظاهرة في شمال الضفة الغربية عن مجموعة من الشبان الفلسطينيين الذين يعملون بشكل شبه منتظم، وحصلوا على أسلحة من جميع المنظمات، ومن وقت لآخر، تنجح هجماتهم، وتكون نتائجها مميتة، وهذا واقع يصعب على جهاز الأمن “الإسرائيلي” هضمه، خاصة عندما أضرت سلسلة العمليات بأمن المستوطنين الذين يتنقلون على طرقات الضفة الغربية.

لم يتأخر الاعتراف “الإسرائيلي” في الإعلان عن أن الاعتقالات المستهدفة والغارات المتكررة على نابلس لم تحسن الوضع الأمني كثيرًا، لاسيما باتجاه الجنود والمستوطنين، مما دفع الجيش إلى محاصرتها، وتفتيشها، فانتقلت الهجمات من المستوطنات والطرق إلى مداخلها، مما منح الاحتلال تعمقًا لافتًا في تحصيل المزيد من المعلومات الاستخباراتية كما لم تكن موجودة قبل أسابيع، لكن تنفيذ عمليتين فدائيتين في الخليل وأريحا بعد تلك الاغتيالات شكل خيبة أمل “إسرائيلية”.

  • أزمات دبلوماسية

يميل التوجه “الإسرائيلي” إلى توثيق العلاقات مع العديد من دول العالم، لكنها تخوض في الآونة الأخيرة عددًا من الأزمات السياسية، وفي عدد من القارات، وبصورة متزامنة، مما كشف عن إخفاق دبلوماسي لافت.

بدأ التوتر شرقاً مع روسيا، عقب حرب أوكرانيا، وصلت آخر محطاته في الإدانة العلنية للقصف الروسي على كييف، مما دفع “الإسرائيليين” إلى توقع نشوب مواجهة حادة مع “بوتين”، حيث ردت سفارته في تل أبيب، على إدانة “لابيد” للهجوم الصاروخي على أوكرانيا، فيما ظهرت أصوات “إسرائيلية” تطالب بتقديم مساعدة عسكرية للأوكرانيين بعد الهجوم الروسي، لكن تل أبيب تعارض ذلك خشية ردّ فعل موسكو عليها، مع أن التوتر آخذ بالتصاعد بسبب الانحياز “الإسرائيلي” المتجه نحو تبني الموقف الغربي، مما قد يترك آثاره على العمليات “الإسرائيلية” في عمق سوريا لمهاجمة القواعد الإيرانية.

انتقالًا للغرب، فقد ظهرت بوادر أزمة دبلوماسية مع بولندا، وتتلخص في أن أجهزة أمن الاحتلال كلفت من قبل الحكومة بمرافقة “الإسرائيليين” المسافرين إلى بولندا لزيارة مواقع المحرقة، مما أثار غضب السلطات هناك؛ لأن ذلك يعني عدم الثقة بإجراءاتها الأمنية، وفي الوقت ذاته، فإن مشاهد الحراس “الإسرائيليين” بأسلحتهم تستفز البولنديين، حتى أن نائب وزير الخارجية البولندي اتهم السفير “الإسرائيلي” بتضليل الجمهور، واستدعي لتوضيح الموقف له، مع العلم أن “إسرائيل” دأبت على تنظيم هذه الرحلات إلى بولندا منذ 40 عامًا، ووصلت ذروتها إلى مشاركة 40 ألفًا في كل عام، لكن توجه الاحتلال إلى إلغاء هذه الرحلات كرسالة احتجاجية، استفز الأوساط “الإسرائيلية”؛ لاعتبار القرار مكافأة لمنكري المحرقة، على حد زعمها، مع العلم أنه في الصيف الماضي استأنفت الدولتان علاقاتهما المتوترة، عقب خلافات على قانون بولندي يحدّ من دعاوى الملكية من قبل الناجين من الهولوكوست، ما تسبب بمواجهة حادة بينهما.

وصولًا إلى أقصى الغرب، فقد تصاعدت أزمة خفية مع كندا على خلفية قرار تخفيض تعزيز الحماية الأمنية لسفارة الاحتلال في العاصمة أوتاوا، ورغم محاولاته تثنيها عن القرار، لكنهم يرفضون وضع حارس أمن شخصي للسفير “الإسرائيلي” “رونان هوفمان” منذ عام، ولا يستجيبون لطلب كبار المسؤولين “الإسرائيليين” بالاجتماع، وتسوية الأمر، وقد اعتبر “الإسرائيليون” أنهم أمام توتر دبلوماسي غير عادي مع صديقتهم المقربة كندا على خلفية قرارها “المحيّر” خفض مستوى الأمن لسفارتهم لديها، وزعموا أن هناك خطر وقوع هجمات معادية ضد السفارة، لكن وزارة الخارجية الكندية ترفض زيادة الأمن في السفارة، رغم الطلبات المتكررة من “إسرائيل” بشأن ذلك خلال السنوات الثلاث الماضية، بالإضافة إلى ذلك قرر الكنديون خفض التصنيف الأمني لرئيس البعثة الدبلوماسية “الإسرائيلية”، وتشمل الحراسة الشخصية على مدار الساعة، وقد سبق نشر منشورات على مواقع التواصل الكندية لنشطاء يعارضون السياسة “الإسرائيلية” تجاه الفلسطينيين، تظهر خرائط بها موقع السفارة، وصورًا لممرها، ووصلت السفارة تهديدات على صندوق بريدها الصوتي.

يضاف إلى ما سبق، بالذهاب بعيدًا إلى أقصى جنوب شرق الكرة الأرضية، فقد شكل قرار أستراليا المفاجئ بإلغاء اعترافها بالقدس المحتلة عاصمة للاحتلال انتكاسة سياسية ودبلوماسية له، لأنه يعتبر استراليا “أكثر الدول الصديقة له في جنوب شرق آسيا”؛ مما وضع علامات استفهام حول عدم تنبؤ المحافل السياسية “الإسرائيلية” بمثل هذا القرار قبل وقت كاف.

لم يتردد “الإسرائيليون” في وصف الخطوة الأسترالية بأنها “خيانة كاملة ل”إسرائيل”، وطعنة بالسكين في قلبها”، وتشكل إضرارًا بشدة بالثقة بين حليفين تقليديين، بعد أن وقفت أستراليا خلف سلسلة من السياسات الداعمة ل”إسرائيل” في المحافل الدولية، أهمها تصويتها الدائم في الأمم المتحدة.

اختار الاحتلال أن يحمّل قرار أستراليا الأخير لوزيرة الخارجية الجديدة “بيني وونغ”، بجانب الضغوط الشديدة والمستمرة من “الجناح اليساري لحزب العمال”، الذي أهمل الاحتلال العلاقات معه لسنوات طويلة، رغم أنهم لم يعربوا عن أي تعاطف خاص مع “إسرائيل”، مما قد يدفعهما إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

  • التقارب مع أنقرة:

مقابل توتر العلاقات “الإسرائيلية” مع عدد من عواصم العالم، لكن زيارة وزير الحرب “غانتس” إلى تركيا، شكل استدارة وصفها الاحتلال بأنها “تاريخية” في العلاقة معها، بعد التطبيع الذي بدأ بينهما منذ أشهر عقب أكثر من عقد على شبه القطيعة التي سادت علاقاتهما، منذ حادثة أسطول الحرية عام 2010 قبالة شواطئ غزة.

إن اللافت في زيارة “غانتس”، أنه بعكس الشخصيات “الإسرائيلية” الأخرى التي زارت تركيا سابقاً، أو اجتمعت مع كبار المسؤولين الأتراك منذ بداية التطبيع الحالي بينهما، فإنه شخصية معروفة بوضوح لدى نظرائه الأتراك، سواءً بسبب منصبه الحالي وزيرًا للحرب، أو بسبب مناصبه السابقة، لا سيما قيادته لجيش الاحتلال، في وقت هاجمت فيه تركيا ذات الجيش، الذي اتهمته بارتكاب أعمال إجرامية ضد الفلسطينيين بطريقة قاسية، لا سيما في حرب 2014 على قطاع غزة.

أكثر من ذلك، فإن لقاء “غانتس” مع نظيره التركي “خلوصي أكار”، ورغبة الرئيس “رجب طيب أردوغان” شخصياً بلقائه على نحو لم يكن مدرجًا على جدول أعمال الزيارة، لعله زاد بنظر كثير من “الإسرائيليين” أهمية عن لقاء “لابيد- أردوغان”، ربما لأن “غانتس” بحث مع مضيفيه ملفات تفصيلية تهم الجانبين، أهمها زيادة النفوذ الإيراني في شمال العراق وشمال شرق سوريا، والدعم التركي “الإسرائيلي” المشترك لأذربيجان، وجهود “إسرائيل” لتطويق الأزمة بين تركيا مع اليونان وقبرص، والموقف من حماس، ووجودها على الأراضي التركية، رغم عدم خروج مزيد من المعلومات، حتى الآن، حول ما اتفق الجانبان بشأنه، أو اختلفا عليه.

صحيح أن نتائج زيارة “غانتس” إلى تركيا قد تتجسد في الأيام القادمة، لكن من الواضح أنها أذابت الجليد في علاقاتهما، في ظل سعي دوائر صنع القرار فيهما؛ لمحاولة إخراج العلاقة من أدنى مستوى لها، من خلال العمل على تكثيف عملهما، والتعامل مع عدة قنوات سياسية وأمنية.

الخاتمة:

تكشف السطور السابقة أن المشهد “الإسرائيلي” خلال أكتوبر حفل بالعديد من التطورات الداخلية والخارجية، ويتوقع أن تترك تأثيراتها على ذات المشهد خلال الأيام والأسابيع القادمة، لاسيما وأن جميعها أحداث متفاعلة، ولم تطوِ صفحتها بعد؛ فالانتخابات “الإسرائيلية” يفترض أن تعلن نتائجها بالتزامن مع صدور هذا التقرير، وأحداث الضفة الغربية والهجمات الفدائية تتصدر عناوين الأخبار “الإسرائيلية”، ونقاشات المستويات الأمنية والعسكرية.

في الوقت ذاته، فإن العلاقات الخارجية للاحتلال قد تتأثر بالضرورة بمآلات تشكيل الحكومة القادمة، لاسيما مع صدور تحذيرات إقليمية ودولية من ضمّ “متطرفين يمينيين” إليها؛ لأن ذلك سينذر بإضرار كبير بعلاقات الاحتلال مع بعض العواصم الإقليمية التي طبّعت معه، وصولًا إلى عواصم داعمة له في المنظومة الغربية، واستئناف تدريجي في العلاقات مع تركيا، وإن كان “الإسرائيليون” تسود لديهم قناعة بأن استدارتها الأخيرة لم تكن إلا لمصالح انتخابية بحتة، متعلقة برغبتها بتحسين اقتصادها، وتصفير مشاكلها الخارجية، وليس بالضرورة تراجعًا عن مبادئها ونظرتها للاحتلال!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى