المرحلة الثانية لاتّفاق وقف الحرب على غزّة.. المنظور الإسرائيليّ وخيارات المقاومة

تتعمّد “إسرائيل” التلكّؤ في تطبيق التزاماتها وفق ما نصّ عليه اتفاق وقف الحرب على غزة، انطلاقًا من خطّة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فإلى جانب استمرار الخروقات الإسرائيلية وتوسيع مساحة الخط الأصفر التي يسيطر عليها جيش الاحتلال، تعمل “إسرائيل” جاهدة لوضع العراقيل أمام الانتقال إلى المرحلة الثانية، بل تحاول أن تفرض واقعًا من جانب واحد من خلال الإعلان عن نيّتها فتح معبر رفح باتجاه واحد لخروج أهالي القطاع، وكذلك وضع شروط متعلقة بشكل وطبيعة ومهامّ قوة الاستقرار الدوليّة المزمع إنشاؤها.

في المقابل التزمت المقاومة الفلسطينية بكل ما يترتب عليها في المرحلة الأولى، وسلّمت جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء منهم والأموات، ولم يتبقَّ إلا جثة شرطي إسرائيلي واحد، وذلك رغم ضعف الإمكانيّات وسوء الظروف الميدانيّة المرتبطة بعمليّة البحث عن جثث الأسرى في قطاع غزة.

التلكّؤ الإسرائيلي يأتي في ظلّ حديث أمريكي عن ترتيبات يتمّ التحضير لها مع نهاية العام الجاري، للإعلان عن الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، وتشكيل مجلس السلام برئاسة ترامب، إلى جانب تشكيل قوة السلام الدولية، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول مصير الاتفاق في حال عدم الالتزام الإسرائيلي، ومحاولة فرض واقع على المقاومة الفلسطينية بخلاف ما تم الاتفاق عليه.

يسعى مركز رؤية للتنمية السياسية في اسطنبول لاستقراء آراء عدد من الخبراء السياسيين، لفهم المنظور الإسرائيلي لمستقبل الاتفاق، وبالتحديد الانتقال لمرحلته الثانية، وطبيعة الدور الذي يمكن أن يؤدّيه الوسطاء في ضمان تطبيق الاتفاق، إلى جانب الخيارات التي تمتلكها المقاومة في ظل هذا التعقيد.

وقد تم استعراض الآراء من خلال المحاور والأسئلة التالية:

  • كيف نفهم السلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بالانتقال إلى المرحلة الثانية لوقف الحرب، وما هي سيناريوهات الاتفاق المستقبلية؟
  • ما الدور الذي يمكن أن يؤدّيه الوسطاء والضامنون للانتقال إلى المرحلة الثانية؟ وهل يمكن أن تنجح مصر والدول الوسيطة في تفعيل لجنة إدارة غزة؟
  • ما واقعيّة الخيارات الإسرائيلية على الأرض فيما يتعلق بخلق نموذجين في غزة؛ منطقة معمّرة تحت الاحتلال ومنطقة محرومة تحت سيطرة حماس؟
  • ما خيارات حماس والمقاومة في منع العودة إلى الحرب، أو التلاعب في مراحل الاتفاق؟

ويمكن تلخيص آراء الخبراء بما يلي:

  • يستند المنظور الإسرائيلي إلى ثلاثة محدّدات؛ الأول الائتلافي الداخلي للحكومة متمثّلًا في ضغط اليمين المتطرف وتهديدات بقائه فيها. الثاني حسابات التفاوض؛ انطلاقًا من البقاء على الأرض داخل الخط الأصفر وربطه بسحب سلاح المقاومة. والثالث حسابات بنيوية استعمارية، تقوم على معادلة جديدة بمنع وجود كيان فلسطيني قابل للحياة مقابل تحكم أمني واقتصادي بعيد الأمد.
  • تخشى “إسرائيل” من تحوّل الانتقال إلى المرحلة الثانية إلى التزام تام بوقف الحرب، هذا يتعارض مع رؤيتها الإستراتيجية القائمة على مبدأ التفريغ عبر التهجير.
  • ما زالت “إسرائيل” تتمسك بالمسار العسكري في غزة ضمن حالة إقليمية تصل إلى الجبهة اللبنانية أو التصعيد مع إيران، ما يعني أنّ “إسرائيل” حتى اللحظة غير جاهزة للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة.
  • الرغبة الأمريكية لتسكين المنطقة حاضرة وبقوة، بالتالي دور الوسطاء هو الحاسم في شكل السلوك المستقبلي لنتنياهو تجاه العودة إلى الحرب أو الالتزام ببنود الاتفاق.
  • يعتمد تأثير دور الوسطاء على الإرادة السياسيّة الأمريكيّة تحديدًا. حتّى الآن لا تتوفّر إرادة أمريكية لإجبار “إسرائيل” على الالتزام التام بوقف الحرب، بدليل حجم الخروقات الإسرائيلية وعدم إيفائها بكل ما يرتبط بالمرحلة الأولى.
  • تُستخدم مقترحات التقسيم الجغرافي لغزة (المنطقة الخضراء أو الحمراء) كورقة سياسية تهدف إلى إبقاء الوضع معلقًا. ذلك لأن تطبيق هذه المقترحات يواجه تحدّيات معقّدة، أبرزها البنية الاجتماعية لسكان القطاع، والرفض المصري، بالإضافة إلى العقبات الزمنية، والاحتياج إلى تمويل ضخم لتغطية التكاليف المالية.
  • لم يعد سيناريو العودة إلى شكل الحرب الذي ساد على مدار العامين الماضيين مطروحًا. المقاومة لديها قرار بعدم الاستجابة لاستفزازات “إسرائيل”. ومع ذلك، يجب الانتباه إلى دوافع نتنياهو واليمين المتطرف المستمرة في البحث عن مبررات لإطالة أمد الحرب.
  • الخيار الأمثل لحماس والمقاومة في هذه المرحلة هو التوافق فلسطينيًا، عبر خلق توازن ما بين تشكيل لجنة لإدارة غزة، وامتلاك أدوات مخاطبة العالم بلغة المصالح والاستقرار في الشرق الأوسط، واستعادة الضغط الدولي لإجبار أمريكا و”إسرائيل” على السير في المسار السياسي، وتنفيذ بنود الاتفاق دون العودة للحرب.

أحمد الطناني، كاتب وباحث في الشأن السياسي، غزة

تتعامل “إسرائيل” مع المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار باعتبارها مسارًا قابلًا للتعطيل، وتربطه بقضايا جانبية تمنحها قدرة واسعة على المناورة، خصوصًا في عام الانتخابات الذي يحاول فيه نتنياهو الحفاظ على حالة “اللا سلم واللا حرب” لتعزيز موقعه السياسي. كما تستغل تل أبيب هذا التعطيل لتكريس وجودها العسكري داخل غزة واستكمال مشروع إعادة صياغة القطاع سياسيًا واجتماعيًا بما يضعف المجتمع ويمنع إعادة بناء المقاومة. وتخشى الحكومة أن يؤدي الانتقال للمرحلة الثانية إلى وقف الحرب وعودة الإعمار، وهو ما يناقض رؤيتها القاضية بإبقاء غزة غير قابلة للحياة لدفع سكانها نحو “الهجرة الطوعية”.

وفي الوقت نفسه، تعمل “إسرائيل” على تفريغ الاتفاق من روحه وتحويله إلى عملية استسلام تدريجي للمقاومة، عبر دمج أدوات القوة الناعمة والخشنة وإعادة هيكلة الداخل الفلسطيني، وطرح قوة دولية بشروط إسرائيلية، وإدارة مدنية بتفويض خارجي يتجاهل الإرادة الفلسطينية. وترى أن الوقت لصالحها في ظل عجز الوسطاء وعدم رغبة واشنطن في تجدد القتال، ما يسمح لها باستخدام ذرائع متعددة لإدامة التعطيل. وفي المقابل، يُعد الضغط الوسطاء، خصوصًا على الولايات المتحدة، الوسيلة الوحيدة لدفع “إسرائيل” إلى الالتزام بالاتفاق، بالتوازي مع صياغة رؤية فلسطينية موحدة تحفظ المكتسبات وتمنع تحويل “مجلس السلام” أو القوة الدولية إلى أدوات انتداب جديدة.

وتحاول “إسرائيل” إعادة تدوير مشاريع قديمة مثل “الفقاعات الإنسانية” و”البلدات المؤقتة”، رغم صعوبة تنفيذها على أرض الواقع بسبب التماسك الاجتماعي في غزة، وكلفة بنائها، ورفض مصر لها خشية تكريس تقسيم دائم للقطاع. ويكشف ذلك غياب حلول واقعية لدى تل أبيب سوى استثمار الوقت لإبقاء القطاع في حالة انهيار طويل، فيما يشكّل تفعيل لجنة إدارة غزة خطوة مركزية لسحب الذرائع الإسرائيلية، رغم التردد القائم لدى قيادة السلطة وتأثيره على قدرة مصر على حسم هذا الملف.

أمّا المقاومة، فتركّز على تجنّب الاستفزازات وضبط النفس لتفويت الفرصة على “إسرائيل” لإعادة إشعال الحرب، مع الاستفادة من التواصل مع الوسطاء لحماية الموقف الفلسطيني في ملفات القوة الدولية، السلاح، المسار السياسي، ووحدة النظام السياسي. وفي حال استمرار المماطلة الإسرائيلية، يمكن للمقاومة الدفع نحو نقل ملفات الحكم إلى جهات مجتمع مدني داخل القطاع بالتعاون مع المجتمع الدولي، لفرض واقع إداري جديد يمنع الاحتلال من استخدام هذا الملف ذريعةً لأي عدوان واسع، ويجبر الأطراف على التعامل مع ترتيبات اليوم التالي بصورة أكثر جدية.

د. حسن لافي باحث ومختص بالشأن الإسرائيلي، غزة

ذهبت “إسرائيل” إلى الاتفاق مرغمه تحت الضغط الأمريكي، الذي استشعر خطورة حالة الغضب الدولي والشعبي تجاه ممارسات “إسرائيل”.

الخطة الأساسية لـ “إسرائيل” هي السيطرة والاحتلال والتهجير. وهنا يبرز السبب الحقيقي لعدم التزامها في الانتقال إلى المرحلة الثانية، كون تلك المرحلة تتناقض مع الخطة الأساسية الإسرائيلية، وهنا تسعى “إسرائيل” إلى تحويل الاتفاق إلى مجرد عملية تبادل أسرى، دون أي استحقاقات نحو الإعمار والانسحاب وتشكيل لجنة إدارية في غزة.

فيما يتعلق بالسيناريوهات المستقبلية، فهي تتركز في ثلاثة سيناريوهات:

أولًا، أن تنجح “إسرائيل” في إبقاء الاتفاق في مرحلته الأولى، دون الانتقال إلى بقية المراحل، وتبدأ في فرض واقع جديد في غزة، عنوانه السيطرة الكاملة في المناطق الشرقية والجنوبية وأجزاء من الشمالية ما وراء الخط الأصفر، وإبقاء المناطق الغربية ساحة عمليات أمنية وعسكرية كلما اقتضت الحاجة تحت عنوان حرية العمل العسكري الإسرائيلي. مع توقف كامل لعملية الإعمار والإيواء، إلا من بعض المعسكرات في مناطق السيطرة الإسرائيلية لتهجير الناس عبر مطار رامون وغيرها من الممرات.

ثانيًا، العودة إلى الحرب، وهذا سيناريو قد يتحقق برغم وجود إرادة أمريكية ودولية تحول دون حدوثه، إلا أنّ حجم الخروقات الإسرائيلية واليأس لدى الناس في غزة، قد يشكل ضغطًا كبيرًا على حركة حماس ليكون لديها رد على الإسرائيلي بشكل عسكري.

ثالثًا، أن ينجح الوسطاء وخاصة الأمريكي في إقناع “إسرائيل” للانتقال إلى المرحلة الثانية، حتى لو كان بشكل بطيء وتدريجي، مع تغيير بعض البنود عمليًا لصالح “إسرائيل” خاصة ما يتعلق بحرية العمل العسكري في غزة وقضية نزع سلاح المقاومة.

بناءً على هذه السيناريوهات، يصبح الدور المحوري للوسطاء هو الأهم. ويجب أن يتركز في ممارسة الضغط الأمريكي على “إسرائيل” لإجبارها على الالتزام الكامل بالاتفاقيات الموقعة. ولتحقيق ذلك، يُطالب الوسطاء بتقديم رؤية شاملة، مُرفقة بخطة تنفيذية تفصيلية ومجدولة زمنيًا، تمنع أي طرف من التهرّب من التزاماته.

يجب ألّا يعيق رفض “إسرائيل” للانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق تشكيل اللجنة الإدارية. بل يجب أن يكون تشكيلها قرارًا فلسطينيًا داخليًا مستقلًا، يهدف إلى فتح آفاق جديدة لغزة أمام العالم والإقليم. وينبغي اتخاذ هذا القرار الفلسطيني بالتشاور مع الأشقاء العرب، وتحديدًا مصر وقطر. وتعتبر الظروف مهيّأةً حاليًا لنجاح الدور المصري في هذا المسعى، نظرًا لوجود توافق فلسطيني يمكن البناء عليه لإتمام تشكيل اللجنة.

يتمثّل الخيار الأمثل لحماس في تحقيق التوافق الفلسطيني الشامل على رؤية موحّدة. شريطة أن تحقق التوازن بين الطموحات والوقائع على الأرض، وأن تتوافق مع مصالح الإقليم، وأن تمتلك الأدوات اللازمة لمخاطبة المجتمع الدولي بلغة المصالح والاستقرار في الشرق الأوسط. هذا التوافق سيؤدي إلى استعادة الضغط الدولي، الذي سيجبر بدوره الولايات المتحدة على إرغام “إسرائيل” على المضي قدمًا في المسار السياسي وتنفيذ باقي بنود الاتفاق دون العودة إلى الحرب.

د. شادي الشرفا، أكاديمي ومختص بالشأن الإسرائيلي، القدس

السلوك الإسرائيلي يأتي ضمن ثلاث طبقات من الحسابات؛ الأول حساب استقرار الائتلاف الحكومي الداخلي، والمتمثل في تهديد اليمين المتطرف بالانسحاب، وهو ما يعني هزيمة سياسية. الثاني يتمثل بالحسابات التفاوضية، وبالتالي البقاء الإسرائيلي على الأرض وخصوصًا في منطقة شرق غزة وداخل الخط الأصفر الذي يشكل أكثر من 50% من مساحة قطاع غزة، ويمثل ورقة قوة إسرائيلية للمناورة وفرض الاشتراطات في كل المراحل اللاحقة، ويمكّنها من ربط الانسحابات بقضية سحب سلاح المقاومة. والثالث يتمثل بالحسابات الاستعمارية، بمعنى فرض واقع جديد دائم في غزة، يمنع وجود كيان فلسطيني قابل للحياة من جانب، ومن جانب آخر تحكم أمني واقتصادي بكل ما يرتبط بغزة على الأمد البعيد.

أما السيناريوهات المتوقعة خلال هذه المرحلة، فإن السيناريو الأول ينطلق من معادلة اللا سلم واللا حرب، مع الاستمرار في تنفيذ ضربات عسكرية هنا وهناك، وإبقاء الاتفاق مجمدًا ضمن المرحلة الأولى لفترة طويلة، مع إمكانية الدخول في تنفيذ انتقائي من المرحلة الثانية، بفعل ضغط عربي إقليمي وأمريكي. لكن في هذه الحالة ستحاول “إسرائيل” الذهاب إلى هذا الأمر بما يخدم أهدافها، من خلال الإبقاء على بعض الجيوب للتواجد الإسرائيلي على الأرض بحيث تشكل مرتكزات قوة لها داخل القطاع. أما السيناريو الثاني فهو الانهيار التام للاتفاق، إذا ما قرر الائتلاف اليميني أن يقلب كل الأوراق. والسيناريو المرجح باعتقادي في المدى القصير هو أن تحاول “إسرائيل” التعامل مع فكرة إطالة مدة المرحلة الأولى والتلاعب بإيقاع المرحلة الثانية وتنفيذ عمليات تصعيد منتقاة تخدم أهدافًا سياسية وأمنية.

إن نجاح دور الوسطاء الإقليميين، بمن فيهم الولايات المتحدة كضامن للاتفاق، مرهون بتوافر الإرادة السياسية. الدليل على غياب هذه الإرادة حتى الآن هو استمرار الخروقات الإسرائيلية المكثفة، وعدم تنفيذ “إسرائيل” للعديد من تفاهمات المرحلة الأولى بشكل كامل. لذا، يتوجب على الوسطاء تفعيل لجنة الرقابة الدولية التي أقرها مجلس الأمن وفقًا للاتفاق. بما يحدّ من الخروقات الإسرائيلية، ويضمن تنفيذ البنود المتفق عليها، خاصة الشق الإنساني، ويعمل بفعالية على تثبيت وقف إطلاق النار.

قد تعمل “إسرائيل” على فرض طرحها حول خلق نموذجين في القطاع؛ منطقة خضراء ومنطقة حمراء، بالاستفادة من واقع التدمير والنزوح. ولكن على المدى المتوسط والبعيد سيواجه هذا الطرح صعوبات، إذ سيشكل نموذجًا للفصل العنصري في القطاع، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي، وبالتالي سيواجه برفض من الشعب الفلسطيني وعلى المستوى العالمي أيضًا. إضافة إلى حاجة هذا النموذج إلى توفير حماية وأمن للمنطقة الخضراء المعمرة، وهذا غير ممكن في ظل وجود منطقة ثانية تبقى غير معمرة وترزح تحت واقع إنساني صعب. ما تريده “إسرائيل” هو بنية استعمارية جديدة، دون أن يكون هناك أي بنية سياسية فلسطينية.

على الرغم من طرح مصر فكرة تشكيل لجنة إدارية ولجنة تكنوقراط فلسطينية، وتوافق الفصائل على أسماء أعضاء اللجنة الإدارية المقترحة (وعددها 15 عضوًا)، فإن تفعيلها يصطدم بفيتو إسرائيلي-أمريكي. وباعتقادنا، يظلّ نجاح أي نموذج إداري مرهونًا بتوافر شرطين أساسيين: أولًا، توافق فلسطيني حقيقي على “برنامج الحد الأدنى”؛ تجنبًا لتحول اللجنة إلى أداة للصراع الداخلي. وثانيًا، دعم عربي إقليمي فاعل لفرضها على “إسرائيل”، وهو الدعم الذي لا يتوفّر حاليًا. يجب التأكيد على أن تكون هذه اللجنة مرحلة انتقالية تهدف للتمهيد لسيطرة فلسطينيّة كاملة، وألّا تتحول إلى مرحلة إدارية دائمة تستغل لإدامة الانقسام السياسي أو تخدم فرض “إسرائيل” لحكم عسكري لاحقًا. لذا، لم ينضج التوجّه لتشكيلها بعد.

رغم أن خيارات حماس ما زالت محدودة، وتعتمد على التحركات السياسية والموقف الأمريكي تجاه الضغط على “إسرائيل” لتنفيذ الاتفاق، فإنّ المطلوب الآن هو الابتعاد عن الخيارات العسكرية والتحول نحو مسار سياسي فلسطيني. يهدف هذا المسار إلى كسر الجمود عبر: تشكيل لجنة إدارية مرحلية لغزة ضمن رؤية ربطها بالضفة، وتفعيل منظمة التحرير على أسس تمثيلية أوسع، وإدارة الخطاب السياسي الفلسطيني للتخلص من حالة الانقسام، واستغلال القانون الدولي لتعزيز السيادة ورفض التقسيمات الإسرائيلية.

د. رائد نعيرات، أستاذ العلوم السياسيّة، جامعة النجاح الوطنية، نابلس

ما زالت “إسرائيل” تتمسّك بالمسار العسكري في غزة ضمن حالة إقليميّة أبعد من جغرافية غزة نفسها، وتعتبر باقي الجبهات جاهزة لاستئناف العمليات العسكرية فيها كما هو الحال على الجبهة الشمالية أو الحرب على إيران. ما يقودنا لاستنتاج أنّ “إسرائيل” حتى اللحظة غير جاهزة للتوصل إلى تسوية سياسيّة شاملة فيما يتعلق بملف غزة، وإنّما تضع العراقيل بهدف استكشاف الخيارات الإسرائيلية على كلّ الجبهات وهل فعلًا ستذهب للخيار العسكري مرّة أخرى، والثاني محاولة كسب الوقت، فالنظرة الواقعية داخل “إسرائيل” أنها باتت متحررة من القيود التي كانت موجودة في ظل الحرب المكثفة على القطاع، وأن الظروف الآن أكثر ملاءمة لإمكانية التحرك ببطء خصوصًا بعد استعادة الأسرى الإسرائيليين. تسعى “إسرائيل” للاستناد إلى مبدأ أنّ استمرار وجودها العسكري وتمسكها بأوراق القوة على الأرض يمنحها قدرة أكبر على التفاوض والحصول على مكاسب. هنا يبرز الدور الحيوي للوسطاء والضامنين للاتفاق، من خلال ممارسة الضغط على الولايات المتحدة لتفعيل أدواتها لإجبار “إسرائيل” على الالتزام الفوري بما تم الاتفاق عليه؛ إذ بدون هذا الضغط، لن يكون هناك أي انتقال إلى المراحل المستقبلية من الاتفاق.

خيارات المقاومة تنطلق من إنقاذ الشعب الفلسطيني في غزة من حرب الإبادة ومن واقع المجاعة ومنع التهجير، بالتالي الخيارات ستكون محصورة في الصمود ومحاولة وقف حالة النزيف داخل المجتمع، وقد تُجبر المقاومة في نهاية المطاف، إلى خيارات صعبة، تتمثل بالمواجهة إذا ما توصّلت إلى قناعة باستنفاد كل الخيارات السياسية، ورفض “إسرائيل” المطلق التعامل مع أي مواقف إقليمية أو عربية لتثبيت وقف الحرب.

د. أيمن يوسف، أستاذ العلوم السياسية الجامعة الأمريكية، جنين

هناك تلكؤ إسرائيلي واضح لعدم الذهاب إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، الهدف منه ابتزاز للمقاومة الفلسطينية ولحماس على وجه التحديد للضغط عليها حول ملف السلاح، وبالتالي القفز عن الاستحقاقات المرتبطة بالمرحلة الأولى من انسحاب إسرائيلي إلى الخط الأحمر، والالتزام بفتح المعابر وإدخال المساعدات، إلى ملف سحب السلاح. كما تعمل “إسرائيل” على تأخير ملف تشكيل القوة الدولية لمراقبة تنفيذ الاتفاق، بحيث تعيد صياغة مهامها بما يمكن أن يحقق لها المشاركة في ملف نزع السلاح، وتدمير البنية التحتية للمقاومة، كأداة تنفيذية وليس كجهة رقابية على الاتفاق. هذا يذكرنا بذات المنهجية الإسرائيلية مع منظمة التحرير عقب اتفاق أوسلو، والذي عرف في ذلك الوقت باتفاقية المراحل، حيث تهربت “إسرائيل” من تنفيذ باقي الالتزامات في ظل خلق واقع استيطاني عزز أوراقها حتى يومنا الحالي.

خيارات الوسطاء محدودة وتنحصر في محاولة التأثير على الموقف الأمريكي لمتابعة تنفيذ الاتفاق والضغط على “إسرائيل” للالتزام. وهذا منوط بطبيعة الظروف السياسية التي قد توفر بيئة تساعد بذلك، وفي حال عدم توفر البيئة فالأمر يبقى مرتبطًا بالإرادة السياسية المرتهنة بكثير من الحسابات. وهذا ينطبق على الخيارات السياسية للمقاومة الفلسطينية التي تعتبر ضيقة إلا إذا استطاعت حماس نقل ثقل الملف السياسي ليصبح ملفًا فلسطينيًّا، يُجمع عليه الكل الفلسطيني، وإعادة بلورة رؤية فلسطينية شاملة تمكنها من توحيد الخطاب والتمثيل السياسي ويضع الجميع أمام مسؤولياته، ولكن في ظلّ حالة عدم التوافق حتى الآن، يبدو أنّ هذا الخيار غير فعال بانتظار أي متغيرات سياسية فلسطينية داخلية.

بالمجمل هناك عدم رضا مصري عن السلوك الإسرائيلي، فمصر ترغب أن يكون هناك قوة سلام دولية وليست قوة استقرار، كما ترغب بوجود دور فلسطيني مباشر حتى في المراحل الأولى من الاتفاق.

ياسر أبو هين، كاتب ومحلل سياسي، غزة

تثبت المؤشرات أنّ “إسرائيل” تحاول تعطيل اتفاق وقف إطلاق النار، الذي التزمت المقاومة بشكل كامل في تنفيذ كل ما يقع عليها من التزامات في المرحلة الأولى منه، في المقابل تقوم “إسرائيل” بكل ما بوسعها لخرق الاتفاق عبر التصعيد الميداني، وعدم الالتزام بالبنود المتفق عليها سواء ما يرتبط بإدخال المساعدات، أو عمليات الاغتيال الممنهجة والمقصودة، أو توسيع المنطقة الصفراء. هذا السلوك يمكن تفسيره بأنّ نتنياهو، وحكومته، يحاول إيجاد مبرر لعدم الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، في محاولة لتعزيز شعبية تيّاره داخل شريحة اليمين المتطرّف، تمهيدًا للانتخابات المقبلة، وحماية ائتلافه الحكومي.

فيما يخص مستقبل الاتفاق، يبدو أننا أمام سيناريوهين رئيسيْن: الأوّل، استبعاد العودة للحرب بالشكل السابق، حيث إنّ قرار المقاومة الفلسطينية هو عدم الانجرار إلى ردود فعل تجاه استفزازات الاحتلال. أما السيناريو الثاني فهو خطر تفجير الاتفاق، ورغم أن حظوظه قليلة، إلا أنّه لا يمكن إغفاله، نظرًا لاستمرار دفع نتنياهو واليمين المتطرف باتجاهه تحت ذرائع متعددة، ومحاولتهم تعقيد كل مرحلة من مراحل الاتفاق بهدف تثبيت واقع إسرائيلي طويل الأمد في غزة.

للوسطاء دور أبرز وأكبر في تثبيت اتفاق وقف الحرب، لامتلاكهم المفاتيح الضامنة لذلك. لذا، إذا توفرت الإرادة السياسية لتفعيل الأوراق الضاغطة على إسرائيل، يمكن منعها من العودة إلى الحرب. هنا، يبرز الثقل المصري، النابع من قضايا الأمن القومي ورفض خطط التهجير، إضافة إلى الثقل التركي في العلاقة مع الإدارة الأمريكية الحالية. يمكن للولايات المتحدة، إذا أراد ترامب ذلك، أن تحشر نتنياهو في الزاوية وتلزمه بتنفيذ المراحل المتبقية من الاتفاق. وعلى ما يبدو، فإن الرغبة الأمريكية لتسكين المنطقة وتصفير الصراعات فيها حاضرة بقوة. بالتالي، فإن دور الوسطاء هو الحاسم في تحديد سلوك نتنياهو المستقبلي تجاه الالتزام ببنود الاتفاق أو العودة للحرب.

يعدّ الطرح الإسرائيلي حول إقامة “منطقة خضراء” و “منطقة حمراء” في غزة قابًلا للتطبيق نظريًا، وقد تمضي “إسرائيل” في تنفيذه إذا توافق مع الرغبة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بإنشاء نماذج لمدن مُعاد إعمارها ضمن مناطق السيطرة الإسرائيلية. لقد هيّأت إسرائيل جغرافية غزة لمثل هذه الطروحات، ومن المحتمل أن تبدأ بوضع أسس عملية لهذا المسار عبر الإعمار الجزئي أو توفير مقومات الحياة الأساسية كنواة، بهدف ترغيب واستقطاب المواطنين الفلسطينيين للعيش فيها وفقًا للشروط الإسرائيلية. في المقابل، تسعى “إسرائيل” لخلق نموذج معاكس ومُدمّر في “المنطقة الحمراء” تحت سيطرة حماس؛ كأسلوب ضغط عبر الحصار والتأثير على الحاضنة الشعبية، لدفع الثمن الجماعي. ومع ذلك، يبقى النجاح الإستراتيجي لهذا النموذج مرتهنًا بخضوعه للكثير من المتغيرات السياسية والميدانية.

قدرة مصر على إنجاح إقامة لجنة إدارية لقطاع غزة، تحتاج إلى احتضان عربي إقليمي، لأنّ نجاح ذلك يعني إفشال الخطة الإسرائيلية للإبقاء على حالة الفراغ، وتقديم بدائل لا تتواءم مع الرغبة والأهداف الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق باستمرار حالة الفصل ما بين الضفة وغزة، لأنّ “إسرائيل” ستبقى مستفيدة من هذا الأمر، وتعمل على تعزيزه عبر خلق كنتونات جغرافية وديموغرافية داخل الضفة وداخل غزة والفصل بينهما. مصر لديها من الخبرة والمعرفة القوية بالقضية الفلسطينية ما يمكنها من تحقيق نجاح في كسر الهدف الإسرائيلي، ومصر قادرة على ذلك معتمدة على قوتها بالعلاقة مع الإدارة الأمريكية والعلاقة الإقليمية، وكون حركة حماس وافقت على الأطروحة المصرية، هذا يعني أن مصر تملك الكثير الذي يمكنها من خلاله  الاستمرار لإتمام تشكيل هذه اللجنة لتولي مهامها، باعتبارها لجنة إدارية مرحلية تؤسس لمرحلة فلسطينية قادمة.

خيارات حماس تبقى محصورة في مواصلة المسار السياسي بالاستناد للموقف العربي الإقليمي الوسيط، خصوصًا ما بعد تسليم الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى