المبادرات الشبابية في القدس: الوجه الآخر للحياة تحت الاحتلال
شباب مقدسي في رحلة تِجوال سياحية للتعرّف على المعالم التاريخية للبلدة القديمة في القدس ضمن مبادرة "جولات مقدسية "التي تنظمها مؤسسة الرؤيا الفلسطينية –تصوير مؤسسة الرؤيا الفلسطينية.(حصري)
تستعصي الحياة تحت الاحتلال على الوصف أو ربما على الفهم، فأن يُسلب الإنسان حريته يعني أن يُسلب مثاله القيميّ الأسمى الذي يكون به "إنساناً"، غير أن الحياة في مدينة القدس "المُحتلة" أشد وطأة، فالمدينة المقدّسة باتت تُهوّد اليوم أكثر من أي وقت مضى، وقد تعدت سياسات التهويد الاسرائيلية مرحلة "سلب الأرض" بالتوسّع الاستيطاني ومصادرة الأراضي، وطمس ملامح الهُوية العربية للمدينة، إلى مرحلة "سلب الإنسان" من خلال ممارسة كل أشكال التضييق على المواطن المقدسي من تطويق للتجمعات السكنية ومنعها من التوسع أو إبقاء فلسطيني مدينة القدس في حالة عزلة عن باقي أبناء الشعب الفلسطيني، وسحب الهويات الاسرائيلية من المواطنين العرب في القدس، وإصدار عدة قوانين تعجيزية في مجال الترخيص والبناء، وفرض الضرائب الباهظة، الأمر الذي قد يُضطر به المواطن المقدسي للخروج مُرغماً من أرضه (مركز المعلومات الوطني الفلسطيني-وفا، 2013).
أدرك الشباب المقدسيّ أن المعركة الأولى هي اليوم "للإنسان" في القدس، وأن أحد أهم أبجديات الانتصار في هذه المعركة، هي تحصين الجبهة الداخلية للمجتمع المقدسي، وتعزيز قدرة هذا المجتمع على إنتاج الفرد الواعي لذاته، المتمسك بهُويته، والقادر على إقامة شبكة من العلاقات السوية التي تُنميّ المجتمع، وتزيد من جهوزية أفراده لمقاومة أساليب الاحتلال ووسائله في هدر إنسانية المقدسي واقتلاعه من أرضه، فسعى هذا الشباب بجهود خلاّقة لتحقيق حياة أفضل للفلسطيني في القدس، ورسم وجه آخر للحياة تحت الاحتلال، يبتعد في ملامحه عن محورية المعاناة في حياة الإنسان المُحتَل، ويتمثل قيم الأمل والعمل لتعزيز قيم الإنسانية وخلق فرص حقيقية للشباب، بما يدعم استعدادهم النفسي ويقوي إمكاناتهم المادية، ليكونوا أكثر قدرة على الصمود. وقد تمثلت هذه الجهود في إطلاق عدة مبادرات وأنشطة شبابية ومشاريع تطوعية شملت ميادين مختلفة وغطت جلّ شرائح المجتمع المقدسيّ.
"إن نمو الأفكار وتطورها إلى مشاريع ومبادرات ليس وليد لحظة التنفيذ، فالأفكار الريادية لن يؤمن بها الناس، إلا إذا مرت بمراحل إعداد تتطلب بذل الكثير من الجهد والوقت، وتذليل للصعوبات، وقتل كل المخاوف والأصوات المثبطة التي قد تشكل حائلاً دون تنفيذها". هكذا بدأت آية جوهر إحدى مؤسسي مبادرة "شباب البلد" حديثها عن نشاط "أطول سلسلة للقراءة حول سور القدس"، أبرز نشاطات هذه المبادرة، والذي جاء احتفالاً بالذكرى السنوية الأولى لإنشاء مكتبة جبل المُكبر العامة. و لم تتوقف أهمية هذا النشاط على كونه الأول والأضخم من نوعه في مدينة القدس؛ فهو إلى جانب الأصداء القوية التي خلّفها على الصعيدين الفلسطيني والعربي، وانتقال فكرة سلاسل القراءة إلى عدة مناطق فلسطينية ودول عربية كالأردن والجزائر والمغرب (جوهر، 2016)، فإنه يرصد عزيمة الشباب المقدسي وإرادته. إن مبادرة "شباب البلد" التي بدأت بثمانية أشخاص فقط في أواخر العام 2012 وبإمكانات مادية متواضعة، استطاعت أن تؤسس أكبر مكتبة شبابية عامة في القدس بعد أقل من ثلاث شهور على تأسيسها (المصدر السابق). كما تمكنت هذه المبادرة الشبابية من جمع أكثر من 8 آلاف قارئ من مختلف الأعمار والفئات المجتمعية طوقوا بكتبهم سور القدس (التحرير، 2014).
وحول الصعوبات التي واجهت مبادرة "شباب البلد" في التحضير والإعداد لفعالية "أطول سلسلة للقراءة حول سور القدس" أظهرت جوهر بين ثنايا حديثها حنكة الشباب المقدسي وقدرته على تجاوز العقبات، فقالت: "لا شك أن الاحتلال شكّل العقبة الأساسية الكُبرى في وجه نشاطات المبادرة، فمن الصعب جداَ تجميع عدد كبير من الناس في مكان عام لتنفيذ مبادرة ما دون تدخل من قوات الاحتلال قد يُفضي إلى إلغائها أو تعرّض المشاركين فيها للمساءلة والاعتقال، في هذا الإطار تمت الاستعانة بذوي الخبرة والاختصاص من محامين وقانونين لتوفير الغطاء القانوني اللازم لإتمام المبادرة" (جوهر، 2016).
أسيل عيسى 21 عاماً طالبة جامعية وناشطة في عدة مبادرات شبابية في القدس وفي مخيم شعفاط ، وعضو فاعل في نادي زدني الثقافي، ترى أن المبادرات الشبابية هي الحل الأمثل لإنقاذ الشباب المقدسي من حالة الضياع التي يعيشها اليوم. فحالة التهميش المتعمد، وضبابية الرؤية وقلة الوعي عند الشباب المقدسي، والتي تترجم في غالب الأحيان بترك مقاعد الدراسة والعمل في بعض المهن البسيطة للحصول مبكراً على المال، فالشباب في القدس لا يعرف حقوقه بدايةً، ولا يعرف من أين يحصل عليها، نظراً لسياسات الاحتلال المستمرة للتنصل من حقوق المواطنين العرب في القدس، ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية (المصدر السابق).
هذا الوضع العام للشباب في القدس، دفع عيسى للمشاركة في تأسيس "سلسلة تنوين المسجد الأقصى" والتي تهدف لبث الوعي وفتح آفاق جديدة لحياة أفضل، من خلال تشجيع الشباب على القراءة. فالقراءة حسب عيسى "هي أول خطوات التغيير، وأقلها ألماً". وتُضيف عيسى: "لا يمكن أن يتخلّص الشباب الفلسطيني من التبعية للمُحتل دون أن يمتلئ بذاته الثقافية والوطنية أولاً، وأن يتولد لديه وعي كامل بكل العناصر المحددة لهويته، لذلك تم اختيار المسجد الأقصى كمكان يجتمع فيه الشباب ليقرأ ويتحاور ويتجاوز بقراءته حدود الحروف والكلم إلى قراءة المكان، فيدرك قيمة هذه الأرض التاريخية ويُعيد للمسجد الأقصى دوره المركزي في عملية البناء الحضاري …كنا كثيراً ما نتبع سلاسل القراءة في المسجد الأقصى بجولات سياحية للتعرّف على المناطق التاريخية في البلدة القديمة في القدس".
وتجدر أهمية الإشارة إلى الدور المحوري الذي يلعبه نادي زدني الثقافي في كسر حالة العزلة التي يعيشها الشباب في مدينة القدس، وإعادة توجيه الأنظار لقضية القدس كقضية مركزية تهم كل أبناء الشعب الفلسطيني بما فيهم أبناء المدينة المقدسة، فقد تعمّد القائمون على "مُلتقى الطريق إلى القدس" أن يُقام في مدينة رام الله ليتّمكن كل الشباب الفلسطيني المُهتم من حضوره، وهو مُلتقى ناقش فيه الشباب الواقع الذي تعيشه مدينة القدس المحتلة بدءاً من العامل الديموغرافي الساعي لتقليل عدد السكان العرب في المدينة مروراً بمخططات التهويد وآليات استعمار العقول (شبكة القدس الإخبارية، 2013).
أما على الصعيد الإنساني وبالتحديد في مخيم شعفاط، فقد ساهمت مبادرة "مهرجان العيد" الذي ينظمه شباب المخيّم في عيدي الفطر والأضحى منذ العام 2012 (عيسى، 2016) في تخفيف الأحوال الإنسانية الصعبة التي يعيشها أهالي المخيم بما يتضمنه من فقرات ترفيهية ووصلات فنية ومسابقات وألعاب. فالمخيّم الذي يفتقر لبعض أساسيات الحياة الإنسانية يفتقر أيضاً لوسائل الترفيه اللازمة لبناء نفسية الطفل السليمة.
لا يمكن الحديث عن المبادرات الشبابية في القدس دون التعريج مطولاً عند الجهود التي تبذلها منظمة "الرؤيا الفلسطينية" في هذا المجال، فقد تم تأسيس المنظمة لتُلبي حاجات ُملحة لدى مجموعة من الشباب الفلسطيني في إيجاد مساحة حقيقية للتعبير عن أنفسهم، ورغبتهم في بناء مجتمع فلسطيني يعلو فيه صوت الشباب للتغيير والأفضل (مركز الرؤية الفلسطيني، 2010). وتؤمن المنظمة بأن الشباب الفلسطيني قادر على أن يعمل سوياً من أجل التنمية الاجتماعية والاقتصادية (شمسة، 2016). كما تتميز بارتكازها على قاعدية الاتصال الدائم والمستمر بالمجتمع المحلي، مما وفّر لها خاصية هامة تتمثل في تلّمس واقع الشباب واحتياجاته على مختلف الأصعدة، بحيث تعمل المؤسسة وبالتعاون مع المؤسسات المحلية والخارجية على تقديم الخدمات المنسجمة ودورها في المجتمع بما يتلاءم والاحتياج الحقيقي للمواطن.
ويتصدر المشروع الوطني وتعزيز الهُوية الفلسطينية عند الشباب سُلم أولويات مؤسسة الرؤيا الفلسطينية، فهي وإن كانت تقدم خدمات شبابية في مختلف المناطق الفلسطينية بما في ذلك الضفة الغربية والداخل الفلسطيني إلا أنها اتخذت من مدينة القدس مقراً لها باعتبارها "العاصمة الأبدية لفلسطين ومنبع الهوية ومصدر الأصالة. وتسعى "الرؤيا الفلسطينية" أيضاً لتحقيق الريادة المُجتمعية للشباب من خلال تنمية مهاراتهم، ومساعدتهم في بناء ذواتهم، وتطوير مواهبهم، وخدمة وتنمية مجتمعهم من خلال اعتمادها منهج surface learning" " أو التعّلم من خلال الخدمة" (شمسة، 2016). فالمؤسسة تسعى لخلق "إنسان الواجب" بكل ما يتسم به من روح إيجابية فاعلة من خلال إشراك الشباب في بعض المبادرات التي تخدم مناطق السكن في بعض الأحياء مثل سلوان وجبل المكبر وجبل الزيتون والبلدة القديمة أو تساهم في القضاء على بعض مظاهر الفساد المجتمعي (المصدر السابق).
يواصل الشباب المقدسي العمل حتى في أشد الظروف صعوبة وخطراً، فلم تثنِهم ممارسات الاحتلال وسياسات القتل المُتعمد التي انتهجها الاحتلال بحق أهالي القدس في انتفاضة القدس عن أداء رسالتهم، وفي هذا السياق أطلقت منظمة "الرؤيا الفلسطينية" مبادرة إلكترونية بهاشتاج "#متخافش،#لا لتفريغ القدس" بهدف تشجيع المواطنين المقدسيين على عدم الخروج من منازلهم وعدم إفراغ المدينة من سكانها العرب.
قائمة المراجع:
- الرؤيا الفلسطينية (2015)، حملة "متخافش، لا لتفريغ القدس". تم الاستيراد من الرؤيا الفلسطينية http://www.palvision.ps/static.php?lang=2&id=19
- القدس الاخبارية (6 يوليو، 2013)، " الطريق إلى القدس، عنوان ملتقى شبابي في رام الله". تم الاستيراد من شبكة القدس الاخباريةhttp://www.qudsn.ps/article/20664
- أسيل عيسى (28 مارس، 2016)، "أهمية المبادرات الشبابية في تنمية المجتمع المقدسي".(الباحثة، المحاور)
- الرؤيا الفلسطينية (2015)، " المبادرات الشبابية" تم الاستيراد من الرؤيا الفلسطينية- الموقع الالكترونيhttp://www.palvision.ps/static.php?lang=2&id=19
- آية جوهر(30 مارس، 2016)، "مباردة أبناء البلد".( الباحثة، المحاور)
- ياوطن (13 ابريل،2013)، "سلسلة تنوين المسجد الأقصى". تم الاستيراد من ياوطن-كفر قاسمhttps://youtu.be/3TNJXFlcXik
- باسم بني شمسه(26 مارس، 2016)، "دور مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في دعم المبادرات الشبابية في القدس".(الباحثة، المحاور)
- القدس الاخبارية (16مارس، 2014)، " أطول سلسلة بشرية حول سور القدس…للقراءة والصمود". تم الاستيراد من شبكة القدس الاخباريةhttp://www.qudsn.ps/article/39508
- الرؤيا الفلسطينية، "من نحن".تم الاستيراد من مؤسسة الرؤيا الفلسطينيةhttp://www.palvision.ps/static.php?lang=2&id=7
- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني-وفا (2013)،"وسائل تهويد القدس". تم الاستيراد من مركز المعلومات الوطني الفلسطيني-وفاhttp://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=3586
- موقع همة (مارس، 2013)، مبادرة أبناء البلد- جبل المكبر. تم الاستيراد من موقع همةhttp://www.hemmeh.ps/organization/75