العمالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر في ظل كورونا… وتجليات الأزمة الوطنية الفلسطينية

لتحميل الملف اضغط هنا

الكاتب : مراد أبو البها

لم تكن أراضي السلطة الفلسطينية بمنأى عن جائحة كورونا التي ضربت أغلب دول العالم، فعلى الرغم من محدودية تنقل الفلسطينيين وسفرهم حول العالم بفعل قيود الحركة التي يفرضها الاحتلال، إلا أن الفيروس ألقى ظلاله الثقيلة على مدينة بيت لحم، جنوبي الضفة الغربية. وذلك بعد إعلانٍ صادر عن وزيرة الصحة الفلسطينية مي الكيله يوم الخميس الموافق 5\3\2020 تؤكد فيه خبر إصابة سبعة فلسطينيين من المدينة بعدوى الفيروس،[1] وذلك بعد مخالطتهم وفداً سياحياً يونانياً كان قد أقام في أحد فنادق المدينة، وتبين لاحقاً بعد عودة أعضاء الوفد إلى بلادهم أن عدداً منهم مصابٌ بالفيروس.

وفي مساء اليوم نفسه بدأت السلطة الفلسطينية إجراءاتها لمواجهة الأزمة. إذ أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، البدء بتنفيذ إجراءات حالة الطوارئ وذلك تطبيقاً للمرسوم الرئاسي الصادر عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس والخاص بإعلان حالة الطوارئ في الضفة الغربية وقطاع غزة مدة شهر كامل[2]. وقد تضمنت الإجراءات إغلاق للمؤسسات التعليمية والدينية ومنع التجمعات وإلغاء حجوزات الفنادق للسياح وغيرها من الإجراءات، والتي اعتبرت بداية الطريق لمواجهة الجائحة.

ولعل أغلب الفلسطينيين قد تفهموا الإجراءات المتخذة آنذاك، ووجدوا وجاهة في تبرير الحكومة الفلسطينية في تشديد إجراءاتها، وذلك لضعف الإمكانات الفلسطينية، وتحديداً الصحية منها لمواجهة خطر تفشي الفيروس بالساحة الفلسطينية.

 فالقطاع الصحي الفلسطيني يعاني عجزاً في عدد الأطباء العاملين فيه خلافاً للمقاييس العالمية،  فعدد أجهزة التنفس الصناعي لا يزيد في مجمل المستشفيات الفلسطينية الخاص منها والحكومي عن 219 جهازاً[3]، وهذا عدد لا يكفي أصلاً لتغطية حاجة الفلسطينيين اليومية، مما يدفع الحكومة الفلسطينية بشكل دوري إلى تحويل الكثير من المرضى الفلسطينيين إلى مستشفيات الداخل المحتل، أو إلى دول صديقة.

ولم تمض أيام قليلة على إعلان الحكومة الفلسطينية البدء بتطبيق إجراءات حالة الطوارئ، حتى بدأت حالات الإصابة بالفيروس تظهر بشكل متفرق في مدن وقرى فلسطينية مختلفة، مما اضطر رئيس الوزراء للخروج مرة أخرى مساء 22\3 لإعلان إجراءات أخرى أكثر تشدداً تضمنت فعلياً إغلاقاً شاملاً ومنع الحركة والتنقل بين محافظات الضفة الغربية نهائياً، ومنع وصول سكان القرى والمخيمات لمراكز المدن باستثناء حالات محددة ولاعتبارات خاصة. وضمن الإجراءات الجديدة التي أعلنتها الحكومة، تقرر إخضاع كل القادمين من خارج البلاد للحجر الإجباري مدة 14 يوماً في مراكز الحجر كل في مدينته. ووجه اشتية حديثه للعمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مطالباً إياهم بعدم التنقل بين أراضي السلطة الفلسطينية والداخل.[4]

وفي نظرة إحصائية سريعة على حالات الإصابة في فلسطين ومصدر انتقال العدوى لها، فإن وزارة الصحة الفلسطينية تتحدث عن أن 66.3% من مجمل الإصابات والبالغ عددها 507 إصابات حتى وقت إعداد هذا التقرير، يعود مصدرها إلى العمال الفلسطينيين الذي نقلوا العدوى من أماكن عملهم في الداخل الفلسطيني المحتل إلى أراضي السلطة الفلسطينية. وأن ما نسبته 77% من مجمل الإصابات في فلسطين مصدرها دولة الاحتلال بشكل عام.[5] وسيناقش التقرير أزمة العمالة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948 في ظل أزمة كورونا.

عدوى كورونا.. وخاصرة فلسطين الضعيفة

تعتبر العمالة الفلسطينية في دولة الاحتلال الخاصرة الضعيفة التي يمكن للمرض أن يتسلل من خلالها إلى أراضي السلطة الفلسطينية، خاصة وأن الفيروس قد انتشر بشكل ملحوظ في دولة الاحتلال ووصل إليها بشكل طبيعي كما هو حال باقي دول العالم المستقرة التي يتنقل أفرادها بين الدول بشكل كبير. حيث وصل عدد الإصابات في دولة الاحتلال إلى 15870 إصابة حتى وقت إعداد هذا التقرير[6].

العمالة الفلسطينية في الداخل المحتل مثار نقاش قديم وطويل في الساحة الفلسطينية، إذ لا تملك ابتداءً أي جهة رسمية فلسطينية أرقاماً دقيقة لأعداد العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل، إذ يتحدث آخر تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عن حجم الأيدي العاملة الفلسطينية، فيذكر التقرير أن عدد الأيدي العاملة الفلسطينية عام 2019 وصل إلى 877 ألف عامل، يعمل قرابة 133 ألف منهم بشكل منتظم بالداخل المحتل من خلال تصاريح خاصة،[7] ناهيك عن وجود آلاف أخرى  -بعض الإحصائيات غير الرسمية تتحدث عن وجود أكثر من 60 ألف[8]– من العمال الذين يتنقلون للعمل بالمستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية والداخل المحتل بالتهريب.

وفي نظرة تاريخية سريعة لقضية العمالة الفلسطينية بالداخل المحتل يظهر أنه وفي أعقاب حرب عام 1967 بلغت إحصائيات البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة مستويات قياسية، إذ تشير الأرقام إلى أن ما بين 40 إلى 50% من الأيدي العاملة الفلسطينية قد عانت من مشكلة البطالة في ذلك الوقت. هذه الأرقام دفعت الحاكم العسكري آنذاك للبحث عن حلول للمشكلة حتى لا تتفاقم الأمور إلى انفجار أمني، وقرر السماح لأعداد معينة من العمال بالدخول إلى دولة الاحتلال للمساهمة في أعمال شق الطرق وتعبيدها[9].

 وللتخفيف من حالة البطالة تم تقسيم العمال للعمل يومين أو ثلاثة بالأسبوع بالتناوب، غير أن الأمور ما لبثت أن خرجت عن السيطرة، وبدأ العمال الفلسطينيون بالدخول “تهريباً” إلى دولة الاحتلال، ما دفع اللجنة الوزارية للاقتصاد في دولة الاحتلال في 14 تموز 1968  إلى الموافقة على اقتراح وزير الدفاع آنذاك موشيه ديان بالسماح للعمال الفلسطينيين بالعمل في دولة الاحتلال، طالما هناك نقص وحاجة لأيدي عاملة في دولة الاحتلال.[10]

يقول الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة آنذاك رفائيل فيردي، أنهم ما داموا تحت سيطرتنا فيجب أن نسعى لأن يعم الهدوء، وذلك لعدم قيام تحريض سياسي واجتماعي، أي أن الهدف للاحتلال آنذاك كان رفع المستوى المعيشي للسكان الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال حتى لا يحدث الانفجار من جهة، ومن جهة أخرى حتى يشعر الفلسطيني بحجم خسارته إذا ما قرر المساعدة في أية أعمال فدائية مقاومة لمشروع الاحتلال.[11]

ومع توقيع اتفاقية أوسلو أصبح دخول العمال إلى دولة الاحتلال مرتبطًا بالحصول على تصريح خاص، من شروطه ألا يكون العامل قد تعرّض للأسر في قضية أمنية نسبت إليه، وألا يكون أحد أفراد عائلته قد قضى فترة في الأسر كذلك، وبالطبع ألا يكون العامل منتمياً لأي فصيل سياسي فلسطيني، ما يعني أن الشروط هي شروط “أمنية” بحتة. غير أن تلك القوانين والاشتراطات لم تمنع عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الدخول تهريباً إلى الداخل المحتل أو إلى المستوطنات للعمل.[12]

ويفضل رأس المال والحكومة في دولة الاحتلال العمالة الفلسطينية كونها عمالة مرنة، حيث يعمل العمال في الصباح ويعودون في المساء إلى منازلهم، وفائض عملهم يخدم الاقتصاد لديهم، إذ إن نفقات الفلسطينيين ومصاريفهم تعود إلى اقتصاد دولة الاحتلال، الذي ألحق الاقتصاد الفلسطيني باقتصاده منذ احتلال عام 1967. [13] كما أن الحرفية العالية للعامل الفلسطيني وانخفاض الكلفة المالية مقارنة بالعمالة في نفس دولة

الاحتلال أوتلك العمالة المستوردة من الخارج، كلها عوامل تساهم في تفضيل العامل الفلسطيني على غيره في دولة الاحتلال.

ويعمل قرابة ثلثي العمال الفلسطينيين في دولة الاحتلال في قطاع البناء والإنشاءات، وهم يشكلون بذلك ثلث القوة العاملة في هذا القطاع، والذي يسهم بنسبة 11% من الناتج المحلي الإجمالي في دولة الاحتلال، أي ما يعادل 43 مليار دولار سنوياً.[14] في حين يعمل قرابة 13% من العاملين في المصانع والمحاجر، وقرابة 11% يعملون في الفنادق والمطاعم، و9% من العاملين في مجال الزراعة.[15]

وينتهك الاحتلال حقوق العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، إذ إن نقابة العمال في دولة الاحتلال والتي تُسمى “هستدروت”، تفرض على العمال الفلسطينيين العاملين في الداخل المحتل رسوم اشتراك شهرية تشكّل ما نسبته 8% من راتب العامل الشهري، في المقابل لا تقدم ال”هستدورت” أي شيء للعامل الفلسطيني. كما يُستغل العامل الفلسطيني بمبلغ 93 شيقلا أي ما يعادل 26.5 دولار شهرياً تقتطع منه رسوماً للتأمين والتي لا تنعكس خدماتها على العامل الفلسطيني. ناهيك عن الفئة الأكثر انتفاعاً من شقاء العمال الفلسطينيين، وهم المهربون وسماسرة التصاريح، والذين يدفع لهم قرابة ثلث العمال الفلسطينيين مبلغ 2500  شيقل ما يعادل 715 دولاراً شهرياً[16]. في تجارة تشكل سوقاً سوداء لتصاريح العمل بالداخل المحتل.. وغيرها من القضايا التي هي بحاجة فعلاً للمتابعة من قبل جسم نقابي قوي.

الحكومة الفلسطينية: محاذير الاقتصاد في مواجهة العدوى

ومع بداية ظهور أولى الإصابات بفيروس كورونا في الأراضي الفلسطينية، وفي ظل المخاوف الفلسطينية بشكل عام من انتقال عدوى الفيروس إلى الداخل الفلسطيني من جهة دولة الاحتلال. ترددت الحكومة الفلسطينية في بداية الأمر من اتخاذ إجراءات أو تدابير تذهب باتجاه منع العمال الفلسطينيين من التوجه إلى أماكن عملهم في داخل دولة الاحتلال، فالمعروف أن العمالة الفلسطينية بالداخل المحتل تسهم بشكل كبير في تحريك عجلة الاقتصاد الفلسطيني. إذ يدور الحديث هنا عن أرقام غير رسمية عن أن قرابة 40% [17]من الاقتصاد الفلسطيني أو يزيد، مدخوله من نتاج العمال الفلسطينيين بالداخل المحتل.

 ولعل الحكومة الفلسطينية وجدت مخرجاً لمعضلة اتخاذ قرار منع العمال من التوجه إلى الداخل المحتل، في قرار صادر عن وزير الأمن الإسرائيلي نفتالي بينت في 18\3، يشدد فيه على أنه يتوجب على العمال الفلسطينيين الراغبين بالعودة إلى أماكن عملهم بالداخل المحتل، يتوجب عليهم المبيت في أماكن عملهم في دولة الاحتلال مدة شهرين كاملين دون العودة إلى أماكن سكناهم في المدن والقرى الفلسطينية.[18] وبهذا الإعلان وجدت السلطة الفلسطينية مخرجاً لها من هذه الأزمة.

وطالبت السلطة بدورها دولة الاحتلال بتأمين مأوى ملائم للعمال، بالإضافة إلى المطالبة بتوفير الرعاية الصحية لمن يصاب بكورونا منهم. غير أن دولة الاحتلال لم تلتزم باتّفاقها مع السلطة الفلسطينية، فلم يجد العمال مأوًى مناسباً لهم، وأجبروا على افتراش الأرض والحدائق والمنشآت والدفيئات الزراعية، بل وأكثر من ذلك إذ ألقت قوات الاحتلال بعاملين فلسطينيين بشكل متتابع على حاجز بيت سيرا غربي رام الله، بسبب ظهور بعض أعراض تشير إلى إصابتهما بفيروس كورونا، وتبين لاحقاً عدم إصابتهما بالفيروس.[19]

قسم كبير من العمال، والذين خرجوا للعمل في إسرائيل على مضض، بعد أن قام أرباب عملهم الإسرائيليين بتهديدهم بإلغاء تصاريحهم، في حال عدم حضورهم إلى أماكن عملهم، وفي ظل عدم توفير مأوى مناسب لهم للإقامة بالداخل المحتل للفترة المتفق عليها سابقاً. قرروا العودة يومياً إلى منازلهم في الضفة المُحتلة، وبما أن الحواجز مغلقة؛ لم يجدوا سبيلاً سوى التسلل يومياً عبر فتحات في الجدار الفاصل بين الضفة الغربية ودولة الاحتلال.[20]

وقد سهلت دولة الاحتلال خلال أزمة كورونا عمليات تهريب العمال إلى إسرائيل، ورعتها عبر مافيات التهريب وسماسرة العمال، في حين كانت سابقاً تشدد من إجراءاتها الأمنية على تهريب العمال وكافحت الظاهرة بشكل كبير، ويمكن فهم سلوك الاحتلال من باب المحافظة على الوضع القائم، وضمان عدم تفجر الأوضاع في الضفة نتيجة الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي[21]. إذ تشير تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفسطيني إلى أن خسائر الاقتصاد الفلسطيني ستقارب2.5  مليار دولار[22]، وأن الناتج المحلي الإجمالي سيسجل تراجعاً بنسبة 14%. كما تشير الإحصائيات أنه وفي ظل الإغلاق الداخلي الذي فرضته الحكومة الفلسطينية بفعل فايروس كورونا فإن عدد المنشآت التي مازالت تمارس أعمالها في أراضي السلطة الفلسطينية هو37336  منشأة. أي ما نسبته  26.2% من إجمالي المنشآت. وتشغل هذه المنشآت قرابة 105 آلاف عاملٍ من أصل 425 ألف عامل.  أي ما نسبته 24.8% من إجمالي عدد العاملين الفلسطينيين بالضفة الغربية وقطاع غزة.[23]

وعمد الاحتلال في السنوات الماضية من خلال الإدارة المدنية ومنسقها على حملات لرفع المنع الأمني ومنح تسهيلات للعمال، ورفعت أعداد تصاريح العمل الممنوحة للعمال؛ من أجل السيطرة على الوضع الأمني من خلال إلحاق أكبر عدد من الشباب الفلسطيني للعمل في في دولة الاحتلال والارتهان للتصاريح والموافقة الأمنية ومنظومة العمل لدى الاحتلال لأغراض أمنية تفضي إلى الحفاظ على الاستقرار والهدوء وعدم تصاعد عمليات المقاومة التي علت موجتها في الأعوام 2015-2017 .[24]

وفي تلك الأثناء، أُعلن في دولة الاحتلال عن تفشي فيروس كورونا في مصنع للدجاج بالمنطقة الصناعية المسماة عطروت بالداخل المحتل، والذي يعمل به عدد كبير من العمال الفلسطينيين، تبين لاحقاً إصابة جزء كبير منهم بالعدوى.[25] وكان عدد من هؤلاء العمال قد عادوا مرات عدة إلى أماكن سكناهم بالضفة قبل الإعلان، ونقلوا العدوى إلى عائلاتهم بفعل ذلك، حتى أن حالة الوفاة الفلسطينية الأولى بسبب الفيروس، كانت لوالدة أحد العاملين في ذلك المصنع وقد نقل لها نجلها العدوى، وتوفيت بالمرض[26].

هنا اختلفت الصورة تماما، وبدأت أرقام المصابين في الضفة بالارتفاع بعد أن كان عددهم محدوداً، وخرجت الأصوات في الشارع الفلسطيني، تطالب العمال بالعودة فوراً إلى الضفة الغربية، وحجر أنفسهم طوعاً في منازلهم. واستمر الجدل بالساحة الفلسطينية بين المبرر للعمال ذهابهم للعمل بالداخل جلباً لقوت أبنائهم من جهة، وكونهم ركيزة أساسية للاقتصاد الفلسطيني من جهة أخرى.

في حين ذهبت أصوات أخرى في الشارع الفلسطيني إلى رفض هذا المنطق جملة وتفصيلاً، معتبرة أن محاربة وصول المرض إلى الساحة الفلسطينية أولوية المرحلة. وعلى السلطة توفير بدائل للعمال الفلسطينيين وتقديم المساعدة لهم لحين انتهاء الجائحة[27].

وهنا بدأت حكاية أخرى أكثر تعقيداً، فالسلطة الفلسطينية بدأت تطلق نداءاتها للعمال الفلسطينيين بضرورة العودة إلى مدنهم وقراهم، وأصدرت قرارات للأجهزة الأمنية بضرورة منع العمال من التنقل اليومي بين المدن والقرى الفلسطينية والداخل المحتل[28].

وهنا يبدو واضحاً عدم قدرة السلطة الفلسطينية ميدانياً على ضبط نقاط العبور المنتشرة على طول الخط الفاصل بين دولة الاحتلال والقرى والمدن الفلسطينية المتاخمة. إذ يتحدث رئيس الوزراء الفلسطيني هنا عن وجود 310 أمكنة [29] –ولعل الرقم أكبر من ذلك- على شكل معابر أو نقاط تهريب يدخل أو يتهرب من خلالها العمال الفلسطينيون العاملون بالداخل المحتل، وهذا بحد ذاته يجعل من إمكانية تطبيق قرارات منع التنقل اليومي للعمال الفلسطينيين شبه مستحيلة.

وقد اتهم رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية إسرائيل بإعطاء الأولوية لاقتصادها على حساب صحة الناس. وقال اشتية: إن الفجوة الحقيقية في المعركة الفلسطينية ضد انتشار فيروس كورونا هي الاحتلال الإسرائيلي، وأن مستوطناته وحواجزه وجميع إجراءاته تحاول إحباط جهودنا لحماية شعبنا. وأن اقتصاد إسرائيل ليس أغلى من حياة أبنائنا.[30]

في حين رفضت دولة الاحتلال هذه الاتهامات، ووفقاً لتقارير نشرتها القناة 12 الإسرائيلية، أرسلت الحكومة الإسرائيلية رسائل قوية جدًا إلى كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية، بما في ذلك اشتية، محذرة من أنه إذا استمرت مثل هذه الاتهامات، فإن إسرائيل ستتخذ إجراءات بشأن التنسيق الأمني وحرية الحركة للأجهزة الأمنية الفلسطينية.[31]

إجراءات الحكومة الفلسطينية..نجاحات وإخفاقات

يبدو واضحاً في سياق العرض السابق لإشكالية العمالة الفلسطينية في الداخل المحتل وأثرها في نقل عدوى فيروس كورونا إلى المدن والقرى الفلسطينية، أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية في ظل حالة الطوارئ المعلنة قد ساهمت فعلاً في الحد من انتشار الفيروس داخلياً في الأراضي الفلسطينية، وأن حجم القيود المفروضة على التنقل والحركة والإغلاق شبه الشامل، حتى مع قلة حالات الإصابة بالفيروس قد آتى أكله. غير أن الإمكانيات اللوجستية المحدودة، وقلة الخبرة الإدارية لأجهزة الأمن الفلسطينية في فرض إغلاقات شاملة من هذا النوع، والسيطرة الأمنية الفعلية للاحتلال على الأرض، جعل منع تنقل العمال الفلسطينيين بين دولة الاحتلال ومدن وقرى الضفة الغربية أمراً شبه مستحيل.

فالإجراءات الحكومية المتخذة قد ساهمت إلى حد ما في منع تفشي المرض، ولكنها لم تتمكن من منع وصوله ابتداءً إلى الأراضي الفلسطينية، وذلك بفعل حركة المسافرين في بداية الأزمة من جهة، ومن جهة أخرى بفعل حركة العمال الفلسطينيين المتواصلة والكبيرة بين دولة الاحتلال ومدنهم وقراهم من جهة أخرى، وهو ما كان السبب الأكبر في نقل العدوى إلى الأراضي الفلسطينية.

ومن جهة أخرى يظهر القصور الحاصل في الساحة الفلسطينية والذي تتحمله الحكومة الفلسطينية بالأساس، في إيصال رسائل توعوية للمواطن الفلسطيني حول إشكالية الفيروس بشكل عام، والمقصود هنا ليست تلك الرسائل التي حرصت كل الجهات الفلسطينية على بثها للمواطن عن طرق الوقاية من الفيروس باستخدام المعقمات والحرص على النظافة الشخصية وقلة المخالطة وما إلى ذلك.

بل المقصود هنا تلك الرسائل المتعلقة بثقافة المرض والمريض والعدوى، فالطريقة التي تعاملت بها غالبية المواطنين مع المصابين وناقلي العدوي وتحديداً العمال منهم، تظهر بها واضحةً جليةً تلك النظرة التي تُجرم الشخص وتحمله مسؤوليةً فوق طاقته، وتجعل منه عدواً للمجتمع والمحيط بشكل عام. ففي ظل هذا الحال كيف يمكن لشخص ما أن يتقبل وضعه في خانة من هذا النوع إذا ما ظهر فعلاً أنه يحمل الفيروس؟!.

وكاتب التقرير هنا يقف شاهداً على الطريقة التي تعاملت بها أجهزة الأمن الفلسطينية مع حالة المصاب الذي ألقت به قوات الاحتلال على حاجز بيت سيرا لشبهة إصابته بالفيروس، كيف أن موكباً كبيراً جداً من سيارات أجهزة الأمن وسيارات الإسعاف قامت بنقله من المكان الذي ألقته فيه قوات الاحتلال إلى مكان الفحص في مدينة رام الله، وما رافق ذلك من إطلاق تلك السيارات صافاراتها على طول طريق يمر بعدد كبير من القرى الفلسطينية، وفي موكب مرعب جعل كل من شاهده يتحدث عن حالة العامل المنقول ودخوله للعمل بالداخل المحتل واستهتاره وخطره على المجتمع وغير ذلك.

هذا الواقع لم يجعل من العامل الفلسطيني بشكل عام، في ظل تفشي الفيروس في دولة الاحتلال، حريصاً على معرفة وضعه الصحي بالأساس إذا ما كان مصاباً أو معافى خوفاً من نظرة المجتمع له بعد ذلك. وهذا ما صعّب بالأساس مهمة الحكومة والأمن ولجان الطوارىء في تعاملها مع العامل الفلسطيني، وشكلت بالنهاية فكرة التهرُّب والملاحقة للعمال وهم بعشرات الآلاف أثناء تنقلهم اليومي بين دولة الاحتلال والمدن والقرى الفلسطينية.

خاتمة..

في النهاية تبدو واضحة تلك الجهود الحكومية الفلسطينية التي بذلت من قبيل فرض الإغلاقات الداخلية لمنع تفشي الفيروس، على الرغم من تهميش قطاعات كبيرة في الساحة الفلسطينية من المشاركة في جهود محاصرة الوباء، والتي كان يمكن لمساهمتها أن تخفف العبء وتقلل الخسائر. غير أن نقطة الضعف في الإجراءات الميدانية للسلطة أنها تركزت داخل التجمعات الفلسطينية، التي كان فيها انتشار الفايروس محدودا. في حين لم يكن لدى السلطة سياسة واضحة وحاسمة في المسببات الخارجية للفايروس. وخاصة المعابر مع دولة الاحتلال وفتحات التهريب بين المدن والقرى الفلسطينية والداخل الفلسطيني المحتل.

 ويظهر بالسياق مدى ضعف وهشاشة الاقتصاد الفلسطيني والذي ترفده العمالة الفلسطينية بالداخل المحتل ب 40% من مدخولاته، وهي الأرقام التي وقفت عائقاً في وجه الحكومة الفلسطينية لاتخاذ إجراءات حاسمة تجاه حركة العمال منذ بداية الأزمة.

ولعل مشكلة العمالة الفلسطينية بالداخل المحتل تعبر بالأساس عن قصور وطني فلسطيني، إذ كيف يمكن لشعب يقع تحت نير الاحتلال ويناضل ويكافح على مدار عقود طويلة للتحرر والانعتاق من ظلمه، بالمقابل لم تتمكن فصائله الوطنية وحكومته عبر تلك العقود من إيجاد حلول اقتصادية تتحرر بها من قيود الحاجة لهذه العمالة. وهذا سؤال كبير بحاجة إلى إجابات من الحكومة والفصائل.

وإلى أن تجد الحركة الوطنية الفلسطينية الحلول المطلوبة لإنهاء ظاهرة العمالة الفلسطينية في دولة الاحتلال ومستوطناته المقامة بالضفة، فلا أقل من وجود جسم نقابي يتابع شؤون العمال ويحصّل حقوقهم المسلوبة.

[1] سكاي نيوز عربية. 7 إصابات بفيروس كورونا في بيت لحم.. ووزارة الصحة تدعو للهدوء. 5\3\2020.

https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1326052-7-إصابات-بفيروس-كورونا-بيت-لحم-ووزارة-الصحة-تدعو-للهدوء

[2] وكالة الأنباء الفلسطينية وفا. رئيس الوزراء يعلن البدء بتنفيذ إجراءات حالة الطوارئ في فلسطين. 5\3\2020.

www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=LV4qu3a871532594889aLV4qu3

[3] مركز راشيل كوري لحقوق الإنسان. فلسطين : نقص كبير في أجهزة التنفس والكادر الطبي لمحاربة كورونا. 22\3\2020.

rachelcenter.ps/news.php?action=view&id=52150

[4] موقع جريدة القدس الفلسطينية. اشتية: لا تخرجوا من منازلكم لـ 14 يومًا. 22\3\2020.

http://www.alquds.com/articles/1584876754443156900/

[5] موقع فايروس كورونا فلسطين. تاريخ الدخول 30\4\2020.

https://www.corona.ps/details

[6] جوجل نيوز، كورونا فيروس. تاريخ الدخول 30\4\2020.

https://news.google.com/covid19/map?hl=en-US&gl=US&ceid=US%3Aen&mid=%2Fm%2F03spz

[7] موقع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. الإحصاء الفلسطيني يصدر بياناً صحفياً حول نتائج مسح القوى العاملة في فلسطيني. 13\2\2020.

www.pcbs.gov.ps/portals/_pcbs/PressRelease/Press_Ar_13-2-2020-LF2019-ar.pdf

[8] أبو عامر، عدنان. هل تقضي إسرائيل وأزمة كورونا على الاقتصاد الفلسطيني. 17\3\2020.

https://www.trtarabi.com/opinion/هل-تقضي-إسرائيل-وأزمة-كورونا-على-الاقتصاد-الفلسطيني-25465

[9] شرارة، رند. مشكلة العمال الفسطينيين في إسرائيل. مجلة إشراقات فلسطينية. المجلد 22، العدد 86، ربيع 2011، ص 199.

shorturl.at/suzE1

[10] المصدر السابق.

[11] المصدر السابق.

[12] عراف سهى. كورونا: معركة على العمال الفلسطينيين. 16\4\2020.

https://www.arab48.com/فلسطينيات/دراسات-وتقارير/2020/04/16/العمال-الفلسطينيون-بين-أزمة-كورونا-واستغلال-الاحتلال

[13] عز الدين، أحمد. سياسات إسرائيل تجاه العمال الفلسطينيين، ثالوث العنصرية، الفايروس، الجوع. نيسان 2020.

سياسات إسرائيل اتجاه العمال الفلسطينيين: ثالوث العنصرية، والفايروس، والجوع

[14] موقع مونتي كارلو الدولية، إسرائيل توفر مساكن للعمال الفلسطينيين. 23\3\2020.

https://www.mc-doualiya.com/articles/20200323-إسرائيل-توفر-مساكن-للعمال-الفلسطينيين

[15] عراف، سهى.كورونا معركة على العمال الفلسطينيين 16\4\2020.

https://www.arab48.com/فلسطينيات/دراسات-وتقارير/2020/04/16/العمال-الفلسطينيون-بين-أزمة-كورونا-واستغلال-الاحتلال

[16] عراف، سهى. صراع إسرائيل والسلطة على العمال الفلسطينيين. 19\4\2020. موقع عرب 48.

https://www.arab48.com/فلسطينيات/دراسات-وتقارير/2020/04/19/خاص-|-صراع-إسرائيل-والسلطة-على-العمال-الفلسطينيين

[17] السلام الاقتصادي، تبعية الاقتصاد الفلسطيني من المعونات لإسرائيل. 31\12\2017.

shorturl.at/emDFO

[18] موقع بي نيوز. كيف ساهمت عودة العمال من إسرائيل في تفشي الوباء. 17\4\2020.

shorturl.at/aoNP8

[19] موقع عرب 48. غانم يفضح عنصرية الاحتلال منذ ارتفاع حرارته حتى إلقائه قرب حاجز بيت سيرا. 24\3\2020 .

shorturl.at/vyD49

[20] عراف، سهى. صراع إسرائيل والسلطة على العمال الفلسطينيين. 19\4\2020. موقع عرب 48.

shorturl.at/asJNT

[21] عز الدين، أحمد. سياسات إسرائيل تجاه العمال الفلسطينيين، ثالوث العنصرية، الفايروس، الجوع. نيسان2020.

shorturl.at/ahuSU

[22] الإحصاء الفلسطيني يعلن التنبؤات الاقتصادية لعام 2020 جراء جائحة كورونا، 23/4/2020، http://www.pcbs.gov.ps/postar.aspx?tabID=512&lang=ar&ItemID=3723&mid=3915&wversion=Staging#

[23] موقع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

www.pcbs.gov.ps/portals/_pcbs/PressRelease/Press_Ar_13-4-2020-lab.pdf

[24] عز الدين، أحمد. سياسات إسرائيل تجاه العمال الفلسطينيين، ثالوث العنصرية، الفايروس، الجوع. نيسان2020.

سياسات إسرائيل اتجاه العمال الفلسطينيين: ثالوث العنصرية، والفايروس، والجوع

[25] موقع دنيا الوطن. تقرير: المستوطنات تحولت إلى بؤر ناقلة للمرض إلى المدن والقرى بالضفة. 4\4\2020.

https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2020/04/04/1326883.html

[26] موقع وكالة الأناضول. كورونا.. فلسطين تسجل أول وفاة بالقدس الشرقية. 18\4\2020.

https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/كورونا-فلسطين-تسجل-أول-وفاة-بالقدس-الشرقية/1809558

[27] ناصر القدوة، كورونا المستجد، موقع سما الإخبارية، 23 أبريل/ نيسان 2020، shorturl.at/mDIU0

[28] موقع صحيفة القدس. اشتية: لا تخرجوا من منازلكم ل 14 يوما. 22\3\2020.

www.alquds.com/articles/1584876754443156900/

[29] صفحة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية على موقع الفيس بوك. مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء 19\4\2020.

[30] موقع بي نيوز. تحقيق: كيف ساهمت عودة العمال من إسرائيل في تفشي الوباء. 17\4\2020.

www.bnews.ps/news/5e99984bef8aed61c011f46f

[31] المصدر السابق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى