العلاقات التجارية بين تركيا و”إسرائيل” بعد السابع من أُكتوبر

استمرت العلاقات التجارية بين تركيا و”إسرائيل” حتى في الفترات التي وصلت فيها الأزمات إلى أعلى مستوياتها، نظرًا لأهميتها الكبيرة لكلا البلدين، ومع ذلك، ونتيجة للعدوان “الإسرائيلي” المتواصل على قطاع غزة، والممارسات التي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية منذ 7 أكتوبر، أعلنت الحكومة التركية في 9 أبريل فرض قيود على تصدير ما يصل إلى 54 مجموعة من المنتجات إلى “إسرائيل”، تبع ذلك الإعلان في بداية شهر مايو الماضي عن وقف التجارة بشكل كامل مع دولة الاحتلال “الإسرائيلي”.

اتهم وزير الخارجية “الإسرائيلي” “يسرائيل كاتس” في بيان على حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي، الرئيس أردوغان بالتخلي إلى حد كبير ‏عن القيود التجارية مع “إسرائيل”، إلّا أنّ الجانب التركي نفى تماماً هذا الادعاء، و‏تطرق إلى أنّ شروطهم لوقف الهجمات على غزة وضمان وقف دائم لإطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة دون انقطاع ‏ما زالت متاحة أمام “إسرائيل”.

‏ ‏تُدرَج “إسرائيل” في ‏المرتبة الثالثة عشر في قائمة ‏ الدول الأكثر استيرادًا من تركيا خلال عام 2023، و ‏ذلك وفقًا لبيانات معهد الإحصاء التركي (TUIK)؛ فقد بلغت حصتها من إجمالي الصادرات التركية السنوية 2.1%، ‏بعد أن وصلت هذه النسبة 2.8% في الأعوام السابقة (2022، 2021، 2020)، كما بلغ حجم التجارة الإجمالي مع “إسرائيل” عام 2023 إلى 6.8 مليار دولار، وشكّلت الصادرات من تركيا إلى “إسرائيل” 76% من إجمالي التجارة بمبلغ يقدر بـ 5.43 مليار دولار، كما حافظت “إسرائيل” على هذا المركز في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024.

ظهرت آثار قرار المقاطعة الاقتصادية ل”إسرائيل” بوضوح عند الإعلان عن بيانات التصدير والتجارة الخارجية لشهر مايو، حيث بلغت الصادرات التركية إلى الاحتلال وفقاً لبيانات معهد الإحصاء التركي في أبريل 2024 مقدار 308.5 مليون دولار، في حين انخفض هذا الرقم إلى 1.5 مليون دولار في مايو ‏من نفس العام، في المقابل، وبينما بلغت الصادرات إلى فلسطين 9.5 مليون دولار في أبريل 2024، ارتفع هذا الرقم إلى 49.5 مليون دولار في مايو من نفس العام، وتوضح الرسوم البيانية أدناه الأرقام الخاصة بالأشهر الخمسة الماضية.


المصدر: بيانات معهد الإحصاء التركي

المصدر: بيانات معهد الإحصاء التركي

هل يشير قرار وقف التجارة مع “إسرائيل” والذي صدر بعد الانتخابات المحلية مباشرة إلى تطور في موقف الحكومة تجاه الحرب غزة؟ أم أنّ الأمر برمته يتعلق بالضغط المتزايد على “إسرائيل” ‏أمام المجتمع الدولي؟ هل سيشكل هذا القرار نقطة تحول لا رجعة فيها في العلاقات “الإسرائيلية” التركية؟ أم أنه من الممكن أن تعود العلاقات التجارية إلى طبيعتها اعتبارًا من اليوم التالي للحرب إذا تم التوصل إلى ‏اتفاق لوقف إطلاق النار؟ وكيف سيؤثر هذا القرار على الاقتصاد التركي الذي يمر بأوقات عصيبة؟ وكيف كانت ردود أفعال رجال الأعمال والمصدرين في تركيا على هذا القرار؟ وما هي تأثيرات هذا القرار على “إسرائيل” بشكل خاص؟

يمكننا تلخيص إجابات الخبراء الذين طُرِحَت عليهم ‏هذه الأسئلة بإيجاز كالتالي:

  1. ‏ ليس من الصواب التفكير بأنّ هذا القرار يتعلق بالسياسات المحلية فقط.
  2. يستند هذا القرار إلى تحركات تركيا الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وغيرها لوقف الأزمة الإنسانية في غزة، ‏حيث ينبغي اعتباره أحد الخطوات ‏في هذا الصدد.
  3. إذا تم التوصل إلى قرار بوقف إطلاق النار وتوقفت الانتهاكات ضد الفلسطينيين، فيمكن أن تعود العلاقات التركية “الإسرائيلية” إلى ما كانت عليه من قبل.
  4. يُعتقد أنّ هذا القرار سيكون له تأثير سلبي على الاقتصاد “الإسرائيلي” أكثر من تركيا، ومع ذلك، لن يكون له تأثير كبير بما يكفي على “إسرائيل” لإجبارها على اتخاذ قرار بشأن وقف إطلاق النار.

                    عضو هيئة التدريس في جامعة ‏أنقرة يلدريم بيازيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا شك أن قطع العلاقات التجارية مع “إسرائيل” هو من أوضح الرسائل الموجهة ضد حكومة “تل أبيب”، ‏ ولا أعتقد أنه من الصواب حصر هذه القضية في ‏نطاق الانتخابات المحلية فقط، فقد قدّم ‏ كل من الرئيس أردوغان ومسؤولين آخرين  ‏مبادرات دبلوماسية وسياسية على أعلى المستويات لإنهاء المجازر التي ترتكبها دولة الاحتلال منذ 7 أكتوبر، وإنّ الصوت المتصاعد من تركيا والمطالب بمحاكمة مرتكبي الإبادة الجماعية ومعاقبتهم على الفور هو حقيقة لا ينبغي تجاهلها.

تعني العلاقات التجارية بين تركيا و”إسرائيل” أيضًا التجارة بين تركيا وفلسطين، وبما أنّ فلسطين ليس لديها جمارك مستقلة، فإنّ جميع البضائع التجارية المرسلة من تركيا تصل إلى المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية عبر “إسرائيل”، ويسبب هذا الموقف حتمًا ارتباكًا، ويؤدي أحيانًا إلى سوء الفهم، وسيكون من المناسب الإشارة إلى أنّ المشكلة الرئيسية في العلاقات التجارية تنشأ من الفشل في إدارة ‏الجزء الإعلامي من العملية، إذا ‏تم توعية الجمهور بشكل دقيق وكافي ومقنع حول طبيعة التجارة، وخاصة السلع التجارية المرسلة إلى الشركات الفلسطينية، فيمكن بناء أساس ‏أكثر صحة فيما يتعلق بإدارة العمليات والاستجابة الاجتماعية، وهناك مشكلة أخرى لا ينبغي تجاهلها ‏فيما يتعلق بالتجارة، وتتعلق أيضًا بالتفضيلات الفردية للشركات الخاصة، حيث إنه ليس كل شخص في المجتمع يؤيد فكرة مقاطعة منتجات الشركات التي تدعم دولة الاحتلال بنفس ‏الدرجة، كذلك لا يمكن أن نتوقع من الشركات أن تبدي نفس ردة الفعل فيما يتعلق بالتجارة مع الشركات “الإسرائيلية”، وما كان يجب فعله هنا هو إجبار هذه الشركات على تقليص علاقاتها التجارية مع دولة الاحتلال من خلال زيادة الرسوم الجمركية.

ليس من الصواب الحديث عن نقطة تحول في أيّ تطور لنظام دولي ‏قائم على فكرة الدولة القومية، حيث تعترف الجمهورية التركية ب”إسرائيل”، ولا تعترض على حقها في أن تصبح دولة، والاعتراض الرئيسي لتركيا هو سياسة التوسع العدواني التي تنتهجها “إسرائيل”، والمجازر التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية، وأعتقد أنه إذا حدث تغيير في حكومة “تل أبيب” فستبدأ محاكمة مرتكبي الإبادة الجماعية، وتعترف السلطات “الإسرائيلية” بحقوق الفلسطينيين، وتساهم في إعادة إعمار غزة، ‏مما سيفتح الطريق أمام تطبيع تدريجي على خط أنقرة-“تل أبيب”.

أعتقد أنه حتى لو كان لقطع العلاقات التجارية مع “إسرائيل” تأثيراً على المدى القصير، فإنه ليس حدثاً مهماً لدرجة ‏إحداث هزة في الاقتصاد التركي أو جره إلى أزمة على المدى الطويل، فتركيا بلد يزيد من صادراته يوماً بعد يوم، وفي الوقت نفسه يعمل بسرعة على تنويع مناطق صادراته، ولهذا السبب، أعتقد أنّ المنتجات المباعة ل”إسرائيل” سيتم توجيهها بسهولة إلى دول ومناطق مختلفة، وحتى لو كان هناك أيّ ضرر، فسيتم تعويضه دون التسبب في مشاكل كبيرة.

من الواضح أنّ قطع العلاقات التجارية بين تركيا و”إسرائيل” سيوجه ضربة أكبر للاقتصاد “الإسرائيلي”، خاصة عند الحديث ‏عن الصادرات التركية، ‏حيث إنّ وقف تصدير مواد البناء على وجه الخصوص سيؤثر بشكل مباشر على قطاع الإسكان والبناء في “إسرائيل”، مما سيؤدي إلى ارتفاع سريع في الأسعار في السوق، علاوة على ذلك، وبالنظر إلى ‏حجم الضرر الذي تكبده الاقتصاد “الإسرائيلي” منذ 7 أكتوبر، فمن الواضح أنّ القرار الذي اتخذته تركيا ‏له أضرار أكبر على الاقتصاد “الإسرائيلي” مقارنة باقتصادها.

جوكهان باتو

              باحث في ‏مركز ‏دراسات الشرق الأوسط

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنّ الأحداث التي تلت 7 أكتوبر سيتم إدراجها في كتب التاريخ السياسي، باعتبارها إحدى نقاط التحول المهمة في سياق القضية الفلسطينية “الإسرائيلية”، فقد ‏وجهت تركيا بعض النداءات إلى “إسرائيل” في بداية الصراع، وأصبحت لغة أنقرة أكثر قسوة بالتوازي مع تكثيف العملية “الإسرائيلية” وبدأت عملية أدت إلى ‏تجميد العلاقات التجارية، ويمكننا في هذه المرحلة أن نقبل أنّ تعليق التجارة مع “إسرائيل” هو أحد الفواصل المهمة في العلاقات، وعلى الرغم من فقدان الزخم وطبيعة ‏العلاقات غير المستقرة في الماضي، إلّا أنّه يتم الفصل بين الأمور مما يضمن استمرارية العلاقات الاقتصادية، ومع ذلك، فإنّ الحرب “الإسرائيلية” ضد غزة التي بدأت بعد هجوم 7 أكتوبر، ‏إلى جانب الأزمة الإنسانية، وجهت ضربة في المراحل اللاحقة من الحرب لكل ‏محاولات تطبيع ‏العلاقات بين تركيا و”إسرائيل” و إلى الجهود المبذولة في سياق العلاقات الاقتصادية والتعاون في مجال الطاقة، ومن الممكن أن نفهم بطبيعة الحال ردة الفعل القوية من الجانب التركي من خلال النظر إلى ردود الفعل المتزايدة الانتشار ضد “إسرائيل” في الغرب، وكذلك في الشرق الأوسط، وخاصة بقيادة الدوائر الفكرية المختلفة، فقد كانت القضية الفلسطينية بالنسبة لتركيا دائمًا محورًا مهمًا في علاقاتها مع “إسرائيل”، و يمكن القول أنّ تركيا حافظت على هذا التركيز وعلى سياق القانون الدولي حتى خلال الفترات التي كانت فيها العلاقات بين البلدين في أفضل حالاتها.

يمكن القول هنا أنّ العلاقات التركية “الإسرائيلية” تضررت بشكل خطير، وعلى الرغم من الجهود المبذولة ‏لتحسينها اعتبارًا منذ عام 2010، فقد حدث تآكل بسبب الانتكاسات المستمرة ‏فيما يخص القضية الفلسطينية وغزة، ويمكن في نهاية المطاف القول أنه من السابق لأوانه التعليق على مستقبل العلاقات ‏بين الدولتين، حيث لا يمكن الادعاء بأن أيّ دولة في العالم ‏على مر التاريخ حافظت على علاقاتها مع دولة أُخرى بشكل عدائي ‏حتى في حالات الحروب والاحتلال وغيرها من النزاعات، وفي مثل هذا الموقف، على سبيل المثال، لن يكون من الممكن الحديث عن العلاقات اليابانية الأمريكية اليوم، وبالطبع، فإنّ العلاقات التركية “الإسرائيلية” ليست خارج هذا الإطار، بل من الممكن أن تختلف طبيعة العلاقات “الإسرائيلية” الفلسطينية ‏عن وضعها الحالي في حالة الوصول إلى اتفاق حل دولتين، وحتى مع هذا الافتراض، فمن المضر للعلاقات الدولية أن تكون العلاقات التركية “الإسرائيلية” مرهونة دائمًا على أساس سلبي، علاوة على ذلك، فإنّ النفوذ التركي المتزايد سيكون أيضاً في مصلحة الفلسطينيين ‏عند الحديث عن سيناريو ‏ما بعد انتهاء الأزمة الحالية.

من الممكن توقع تحسن العلاقة بين الطرفين عند نقطة تلتقي فيها المصالح و‏حدوث تطورات إيجابية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في فترة زمنية تكون فيها الظروف مناسبة، ‏حتى ولو لم تحدث أيّ انتعاشة فورية بعد انتهاء الحرب، لكن من الواضح أنّه لن يكون هناك مجال لمناقشة هذه الأمور في المستقبل القريب، وفي هذه المرحلة، فإنّ حدة الصراعات والدراما الإنسانية المتزايدة باستمرار تدفع هذا السيناريو إلى ‏نقطة ‏بعيدة، كما إنّ حدة انتقادات تركيا ل”إسرائيل” لا تقل، بل إنّ أوضح وأقسى الانتقادات في العالم تأتي من أنقرة، ولذلك، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت لاستعادة العلاقات التجارية وإعادة الثقة بين الطرفين.

التطور الآخر الذي يجب مراقبته حول هذه القضية هو كيف ستتشكل السياسة “الإسرائيلية” في سيناريو ما بعد الحرب، ولا ينبغي أن ننسى أنه على الرغم من أنّ ‏منصب “نتنياهو” مهتز ‏للغاية، فإنه لم يسقط بعد، وإنه سيرغب في دخول الانتخابات المقبلة كرئيس وزراء “منتصر في غزة”.

لا تزال ‏مسألة العقوبات تمثل حساسية كبيرة بالنسبة ل”إسرائيل”، ‏إلّا أنّ تأثيرها في هذه المرحلة سيكون محدودًا في غزة، ف”إسرائيل” التي ‏كانت تقوم بالتطبيع ضمناً وصراحة مع العديد من الدول الإسلامية في الشرق الأوسط وخارجه قبل 7 أكتوبر، وكانت تسعى إلى ‏ ‏تطوير أسباب للتطبيع مع الدول الإسلامية في جنوب آسيا، ‏وها هي الآن بعد 7 أكتوبر ‏تتعرض لردود فعل قاسية للغاية، حتى من العالم الغربي، لتصبح ‏وحيدة معزولة، وليس لهذا ‏الأمر عواقب أمنية واقتصادية فحسب، بل له أيضًا تداعيات اجتماعية تصيب الشعب “الإسرائيلي” بالصدمة، ومن الممكن أن تظهر آثار ذلك أكثر في المستقبل، ومع ذلك، يمكن القول أنّ العقوبات التي فرضتها تركيا بشكل فردي لإجبار “إسرائيل” على صنع السلام سيكون لها تأثير طفيف، ورغم أنه سيكون هناك تأثير تضخمي على السلع التي تشتريها “إسرائيل” من تركيا بعد ‏حدوث تطورات في الوضع الراهن، إلّا أنه سيكون من الخطأ توقع تأثير ضد ‏طبيعة النظرة “الإسرائيلية” تجاه المجموعات ‏المختلفة في غزة، ‏وذلك من حيث طبيعة الحرب و ‏الأمن القومي “الإسرائيلي”، وتهدف “إسرائيل” حالياً إلى تغيير النظام الأمني ​​في غزة بشكل كامل، ‏حيث إنّ الأضرار التي ستتكبدها بسبب سقوط ضحايا من المدنيين والأزمة الإنسانية أثناء التقدم نحو هذا الهدف هي اعتبارات مؤجلة حتى يتم “تقييم الأضرار” بعد الحرب.

مساعد فاتح يجيت

               قسم المحاسبة والمالية بجامعة اسطنبول مدنيات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنّ القرار الذي اتخذته تركيا بوقف التجارة مع “إسرائيل” تدريجياً هو قرار معقد ومتعدد الأوجه، ولا يمكن أن يُعزى إلى سبب واحد، ورغم أنّ هذا القرار اتُخذ بعد الانتخابات المحلية، فإنّ النظر إليه في هذا السياق سيكون بمثابة نهج اختزالي، وقد تكون الانتخابات المحلية هي التي جعلت الحكومة تشعر بالضغط الشعبي بشكل أكبر، وربما جعل هذا الضغط موقفها من غزة أكثر وضوحاً، وعادة ما تولي الحكومات خلال فترات الانتخابات المزيد من الاهتمام لحساسيات ناخبيها، وفي هذا السياق يفسر الدعم الواسع للقضية الفلسطينية في تركيا، الذي ساهم في تشديد الحكومة لسياستها تجاه غزة.

ظهر التغيير في الموقف بشأن الحرب على غزة نتيجة لمجموعة من العوامل المختلفة، مثل الانتخابات المحلية والحساسيات الإنسانية والاستراتيجيات الإقليمية، ‏إلى جانب الرغبة في إرسال رسالة قوية إلى المجتمع الدولي، ‏حيث تنتقد تركيا منذ فترة طويلة سياسات “إسرائيل” في المنطقة والأزمة الإنسانية في غزة، وتريد تركيا التأكيد على حساسيتها ودورها النشط تجاه الأزمات الإنسانية في الشرق الأوسط، باعتبارها قوة إقليمية، وفي هذا السياق، تهدف إلى توجيه رسالة قوية إلى المجتمع الدولي من خلال تشديد سياساتها تجاه غزة.

كانت استراتيجيات تركيا الإقليمية فعالة أيضاً في هذا التغيير في الموقف، ‏حيث تسعى تركيا إلى زيادة نفوذها في الشرق الأوسط، ووضع نفسها لاعبًا مهمًا في توازن القوى الإقليمي، ومن الممكن أن يساهم اتخاذ موقف صارم بشأن غزة في تحقيق تركيا لهذه الأهداف الإستراتيجية، فضلاً عن تعزيزعلاقاتها مع الدول الأخرى في المنطقة، وتمكين تشكيل علاقات تعاون جديدة.

شهدت العلاقات ‏غير المستقرة بين “إسرائيل” وتركيا، والتي تتصاعد حدة توترها بين الحين والآخر، نقطة تحول مهمة إثر قرار تعليق التجارة، حيث أدى إلى زيادة التوتر بين البلدين وتعميق حالة عدم الثقة، فقرار الحكومة التركية هذا ليس له عواقب اقتصادية فحسب، بل عواقب سياسية مهمة أيضًا، وبالنظر إلى المصالح الاستراتيجية والاقتصادية للدولتين، وعلى الرغم من أنه من غير المتوقع أن يتم قطع العلاقات بشكل كامل، إلّا أنه سيكون من الصعب للغاية على العلاقات التركية “الإسرائيلية” العودة إلى الوضع قبل 7 أكتوبر.

تعتمد العواقب طويلة المدى لهذا القرار إلى حد كبير على التغييرات المحتملة في سياسات “إسرائيل” والتطورات في دور تركيا الإقليمي، ويتعين على “إسرائيل” أن تُجري تغييرات جذرية في سياساتها، وأن توقف ‏اعتداءاتها على الأراضي الفلسطينية من أجل استعادة ثقة تركيا.

يمكن للآثار الاقتصادية قصيرة المدى لوقف التجارة أن تخلق تحديات لكلا البلدين، ومن المرجح ‏أيضاً أن تحول تركيا هذا الوضع إلى فرصة، وتزيد من قوتها الإقليمية، ويمكن تعويض الخسائر الاقتصادية من خلال إيجاد طرق وأسواق تجارية جديدة، وفي الوقت نفسه، فإنّ زيادة القدرة الإنتاجية المحلية من الممكن أن تعمل على تعزيز استقلال تركيا الاقتصادي، وقد تُتاح ل”إسرائيل” من ناحية أخرى الفرصة لإعادة تقييم علاقاتها التجارية والدبلوماسية مع تركيا، ومراجعة علاقاتها مع الدول الأخرى في المنطقة.

بالنظر إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين اللذين بينهما تعاون مهم في العديد من المجالات، خاصة في مجال الدفاع والتكنولوجيا والمنتجات الزراعية، الذي  يبلغ مستوى 10 مليارات دولار، فإنّ التبعات الاقتصادية لهذا القرار لن تكون خفيفة على الطرفين، وقد يؤدي تدهور العلاقات بين الدول عند هذا المستوى من حجم التجارة إلى تقلبات وشكوك في العديد من القطاعات.

أيّد بعض رجال الأعمال والمصدرين هذا القرار، وانتقده البعض ‏الآخر لأسباب اقتصادية، ومع ذلك، فإنّ ارتفاع سمعة تركيا وقوتها الإقليمية يعطي إشارات على إمكانية القضاء على العواقب الاقتصادية السلبية، فتركيا تتمتع بفضل هذا القرار بالقدرة على زيادة حجم تجارتها مع الدول الأخرى في المنطقة، والانفتاح على أسواق جديدة، كما أنه من المحتمل أن تعمل تركيا على المدى المتوسط على تعزيز علاقاتها التجارية مع الدول الأخرى في المنطقة، وإيجاد أسواق بديلة، ويمكن تعويض الخسائر الاقتصادية من خلال عقد اتفاقيات تجارية جديدة، خاصة مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا، ومن الممكن أيضًا أن تتخذ خطوات نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في السوق المحلية، من خلال زيادة طاقتها الإنتاجية المحلية.

إنّ توقف التجارة بين تركيا و”إسرائيل” يمكن أن يخلق صعوبات اقتصادية لكلا البلدين على المدى القصير، ومع ذلك، فإنّ تركيا لديها القدرة على تحويل هذا الوضع إلى فرصة وزيادة قوتها وسمعتها الإقليمية، وإيجاد طرق تجارية جديدة، ودعم الإنتاج المحلي، ويمكن لهذه التحركات الاستراتيجية أن تضع تركيا في وضع أقوى اقتصاديًا وسياسيًا على المدى الطويل.

من المحتمل أيضاً أن تكون لهذه الخطوة التركية عواقب وخيمة على “إسرائيل”، حيث تشمل مجموعة المنتجات الـ 54 التي توقفت تركيا عن تصديرها مواد البناء مثل الأسمنت والصلب والحديد، وتعتبر هذه المواد ضرورية لمجال البناء في “إسرائيل”، وسيؤدي انقطاع توريد هذه المنتجات إلى تأخير العديد من المشاريع، والجهود التي ستبذلها “إسرائيل” لإيجاد موردين بديلين لهذه المواد لن تستغرق وقتًا طويلًا فحسب، بل ستؤدي أيضًا إلى زيادة التكاليف، وستشعر “إسرائيل” في مجالات الدفاع والتكنولوجيا بآثار خسارة شريك تجاري مهم مثل تركيا.

إنّ الأبعاد السياسية لهذا القرار بالإضافة إلى الشكوك الاقتصادية جديرة بالملاحظة أيضًا، وهذه الخطوة من جانب تركيا قد تضغط على دول أخرى في المنطقة، وتؤدي إلى قرارات مماثلة لتعليق التجارة يمكن أن يجعل مثل هذا السيناريو “إسرائيل” أكثر عزلة اقتصاديًا ودبلوماسيًا، وقد تتأثر الموازين التجارية في المنطقة سلباً بهذا الوضع، وقد تواجه “إسرائيل” صعوبات في التنمية الاقتصادية والاستقرار على المدى الطويل.

قد يدفع قرار مقاطعة “إسرائيل” الأخيرة إلى إعادة النظر في علاقاتها التجارية الخارجية، والبحث عن المزيد من الإنتاج المحلي وطرق التجارة البديلة، وقد تحتاج على المدى الطويل إلى إجراء تغييرات جذرية في سياساتها التجارية وتعاونها الاستراتيجي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء أصحابها فقط، ولا تعكس بالضرورة آراء مركز رؤية للتنمية السياسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى