العقوبات “الإسرائيلية” الجديدة على السلطة الفلسطينية.. الدلالات والتحولات

د. إياد أبو زنيط[1]

لا تكف “إسرائيل” عن تهديد أيّ تحرك فلسطيني ضدها على المستوى الدولي عبر استخدام كل وسائل الضغط؛ باعتباره أمراً يُهدد وجودها غير الشرعي، سواءً كان هذا التحرك من حركة أو نظام رسمي، فقد سبق أن استهدفت “إسرائيل” حركة BDS بجملةٍ من العقوبات على أفرادها، وسعت إلى محاربتها عالمياً، وعلى إثر نجاح السلطة الفلسطينية في جعل الجمعية العامة للأمم المتحدة تتخذ قراراً يُطالب محكمة العدل الدولية الإدلاء برأيها في مسألة شرعية الاحتلال للضفة الغربية والقدس الشرقية، في 31/كانون الأول/ ديسمبر 2022، قرر المجلس الوزاري “الإسرائيلي” المصغر فرض جملة من العقوبات على السلطة الفلسطينية، تنوعت بين عقوبات مالية، وأخرى استهدفت شخصيات قيادية فلسطينية.

يُسلط هذا التقرير الضوء على دلالات فرض “إسرائيل” عقوباتها المتجددة على السلطة الفلسطينية، والأسرى الفلسطينيين، وانعكاساتها على الوضع الفلسطيني في المديين القريب والبعيد، ومدى تأثيرها على توجهات السلطة الفلسطينية، وكيفية تأثيرها على التقارب ما بين الفصائل الفلسطينية، وهل من المتوقع فرض عقوبات جديدة بوسائل وأساليب مخلقة؟

خلفية العقوبات:

ترى “إسرائيل” في أيّ حراكٍ سياسيّ أو قانوني دولي خطراً مؤثراً عليها، لذلك هي تُتابع بدقة أيّ تغيرات إقليمية أو عربية أو دولية، منطلقةً من استراتيجيتها الأساسية في المحافظة على كيانها، ومن هذا المنطلق شكلَّ التحرك الفلسطيني في الأمم المتحدة مصدر قلقٍ جديد لدولة الاحتلال حول شرعيتها، خاصةً وأنَّ “إسرائيل” تُدرك أنّها نشأت بفعل معادلة دولية أقامتها، وأيّ تخلخل في أطراف هذه المعادلة أو تأثير عليها يعني انعكاساً على الدولة وكيانها، ولذا  حرصت دوماً على إبقاء سياسة العقوبات جاهزة للرد بشكل مؤثر على أيّ تحرك فلسطيني.

 قامت “إسرائيل” خلال العام السابق 2022 بتجريم مجموعة من المنظمات الفلسطينية التي ترصد انتهاكات الاحتلال وتوثقها وتنقلها إلى العالم، بل وعملت على اقتحام مقراتها وإغلاقها، كما سعت “إسرائيل” إلى فرض مزيدٍ من العقوبات على السلطة الفلسطينية إثر الخطوة الفلسطينية الأخيرة، إذ جاءت هذه المرة على شكل خصوماتٍ ماليةٍ أخرى تُضاف إلى الأموال التي تسطو عليها من ضريبة المقاصة لصالحها، وقد عملت أيضًا على اقتطاع 40 مليون دولار لصالح -ما تدّعي أنّها- عائلات “إسرائيلية” تضررت من عمليات فلسطينية، كما تؤكد على اقتطاع قيمة ما تدفعه السلطة الفلسطينية إلى عائلات الأسرى والشهداء، وهو ما يبلغ 171 مليون دولار سنوياً، بالإضافة إلى ذلك فقد شملت العقوبات الأخيرة منع استكمال مخططات فلسطينية في مناطق (ج)، وسحب بعض الامتيازات من مسؤولين فلسطينيين مثل وزير الخارجية الفلسطيني، والتأكيد على مواصلة استهداف المنظمات الفلسطينية الفاعلة في ملاحقة “إسرائيل” قانونياً وسياسياً، وكذلك مناقشة فرض عقوبات على الأسرى الفلسطينيين تتمثل في إقرار عقوبات مالية بالغة على أحكامهم داخل السجون “الإسرائيلية”، حيث كشف رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس عن تزايد توجه المحاكم “الإسرائيلية” مؤخرًا بإضافة غرامات مالية باهظة على الأسرى إلى كل حكم بالمؤبد.

في ظل حكومة “إسرائيلية” تُعد الأكثر تطرفاً وتشدداً تجاه المواقف الفلسطينية، وفي ظل إفصاحها عن نواياها باستهداف الفلسطينيين بكل الأشكال والوسائل والأدوات، دون اكتراثٍ بالعواقب والتداعيات، تأتي هذه العقوبات الأخيرة التي تعد سياسة “إسرائيلية” تحكمها التجاذبات والتباينات داخل الأطراف المكوِنة لهذه السياسة الحالية، ليدفع االفلسطينيون جزاءها ثمن نضالهم العادل والمشروع، وهي بهذا النطاق لا تخرج عن كونها وسائل ابتزازٍ واضحةٍ، تتطلب الإصرار على المضي قدماً في التوجه إلى كل من بإمكانه ثني “إسرائيل” عن سياستها ضد الفلسطينيين، خاصة وأنّها ترى في التحرك الفلسطيني الأخير أمراً بالغ الخطورة، وبإمكانه التأثير على الوضع الداخلي والخارجي لدولة الاحتلال، حيث تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلاله قراراً يطالب محكمة العدل الدولية -التي تتّخذ لاهاي مقرًّ الها- بالنظر في الاحتلال للأراضي الفلسطينية، ويدعوها إلى تحديد “العواقب القانونيّة لانتهاك “إسرائيل” المستمرّ لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، و”تغييرها التركيبة الديموغرافيّة لمدينة القدس وطابعها ووضعها”، في حين تم إثارته في الجمعية العامة بشكل كبير.

السلطة الفلسطينية بين التراجع والاستمرار:

صرح الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية رداً على العقوبات “الإسرائيلية” الأخيرة أنّ السلطة ماضية في توجهاتها القانونية والدبلوماسية التي تستهدف الاحتلال، وتحقيق الدولة الفلسطينية، كما أكدت وزارة الخارجية الفلسطينية على أنّ “تلك الإجراءات وغيرها لن تُثني شعبنا وقيادتنا عن مواصلة النضال والحراك السياسي والدبلوماسي والقانوني لتوفير الحماية الدوليّة لشعبنا، ولوضع حدّ لإفلات “إسرائيل” المستمرّ من المساءلة والمحاسبة والعقاب”.

يُشكّل موقف السلطة الفلسطينية في التوجه إلى تضييق الخناق على “إسرائيل” دولياً ومناقشة شرعية الاحتلال خطوة متقدمة إذا ما استمرت، نظراً لما يراه الاحتلال من خطورة مؤثرة عليه، ولكنَّ هذا الموقف تعتريه ضغوطاً كبيرة تُمارسها “إسرائيل” على السلطة الفلسطينية، وقد تكون حائلاً أمام الاستمرار مع التأكيد الفلسطيني على ذلك، وتبرز أكثر هذه الضغوط من خلال التالي:

  1. يُشكّل الوضع المالي للسلطة الفلسطينية وضعاً حرجاً، في ظل عدم قدرتها على دفع رواتب موظفيها كاملة منذ ما يزيد عن العام، ونتيجة للخطوات “الإسرائيلية” الأخيرة، ومن الملاحظ أنَّ الوضع المالي سيشهد تعقيداً وتأخيراً في دفع المستحقات، وهذا ما سيزيد الأمر تعقيدًا، خاصة وأنَّ كثيراً من الأطراف والدول المانحة توقفت عن تقديم المساعدات المالية.
  2. تُحاول “إسرائيل” استحداث عقوبات من أنواع جديدة مثل سحب الامتيازات من المسؤولين الفلسطينيين، وهو ما قد يتطور لاحقاً إلى حملات منع من التنقل والسفر، وقد يؤثر عملياً على التحركات الفلسطينية، في حال عدم توفر بدائل متنوعة تُمسك بزمام الأمور.
  3. تسعى السلطة الفلسطينية إلى جعل قرار إدانة “إسرائيل” قراراً ملزماً إذا ما صودق عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكنها تُدرك إمكانية الاصطدام بحق نقض الفيتو، والذي من المتوقع أن تتخذه الولايات المتحدة الأمريكية ضد المسعى الفلسطيني، خاصة وأنّها استخدمت هذا الحق ما يزيد عن 43 مرةً ضد مشاريع قرارات تخص القضية الفلسطينية ولصالح “إسرائيل”، ومن الأمثلة على ذلك استخدام حق النقض ضد مشروع قانون يُطالب “إسرائيل” بحماية الأماكن المقدسة في العام 1976، وكذلك ضد مشروع قانون يُدين مصادرة الأراضي في العام 1995، وضد إدانة “إسرائيل” في قضية مقتل 3 من موظفي الأمم المتحدة في العام 2002، بالإضافة إلى حق النقض ضد إدانة الاستيطان واعتباره غير شرعي في العام 2011، كما جرى استخدام الحق السابق في إيقاف مشروع قرار تقدمت به مصر لإيقاف قرار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترمب”، باعتبار القدس عاصمة “إسرائيل” بما فيها القدس الشرقية في العام 2017.

على الرغم من الضغوطات السابقة إلاّ أنّ هنالك عدداً من العوامل التي يُمكن أن تُساهم في دعم مواصلة السلطة الفلسطينية خطواتها الجدية والمنظمة لمواجهة “إسرائيل” دولياً ومنها:

  1. تأتي هذه الخطوة ضمن مشروعٍ  فلسطيني يسعى إلى تضييق الخناق على الاحتلال، وهذا إذا ما نُقِلَ إلى الشارع الفلسطيني بوضوح وإصرار على التقدم فيه، فسيكون الشارع جاهزاً لدعم الخطوة، لا سيما وأنّها تأتي في ظل خطوات احتلالية وعدوانية متصاعدة تجاهه، وهو متعطش بحق إلى رؤية أي خطوة جادة تقوم بها السلطة ضد الاحتلال.
  2. 2.     الرد “الإسرائيلي” بفرض عقوبات جماعية على الشعب الفلسطيني باستهداف أمواله وحقوقه، والتي من الوارد جداً تعاظمها، ومن شأنها أن تُساهم في وحدة الموقف الفلسطيني، الأمر الذي يُعبر عن مطلب شعبي في مواجهة الاحتلال، وفي هذا السياق أدانت حركة حماس العقوبات “الإسرائيلية”، والتأكيد على الموقف الفلسطيني الرسمي في تحركه الدولي، وهو ما قامت به كذلك منظمات المجتمع المدني الفلسطيني.
  3. على الرغم من الدعم الأمريكي الواضح للاحتلال، إلّا أنّ تركيبة الحكومة “الإسرائيلية” الحالية، وعدائها المعلن للفلسطينيين، وعدم الرضا العام عنها، يُمكن استثماره دبلوماسياً، فعلى سبيل المثال أكدّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أنَّ العقوبات التي تفرضها “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني، وخاصة المقترحة من الحكومة الجديدة المتطرفة، أو تلك الداعية إلى فرض عقوبات قانونية على “إسرائيل”، قد تأتي بنتائج عكسية، ولكن في سياق حصول قرار التصويت الأممي على تأييد أكثر من 86 دولة، من بينها دول كبرى كالصين وروسيا، فإنَّ ذلك من شأنه أن يساهم في ضغط الولايات المتحدة على “إسرائيل”، لتتراجع عن تطبيق عقوباتها الجديدة ضد الشعب الفلسطيني وسلطته.  
  4. هنالك فرصة من خلال التوجه الفلسطيني للاستثمار في المحيط العربي والإقليمي، خاصةً وأنَّ الدول العربية جميعها صوتت لصالح القرار، حتى تلك الأخيرة التي أقرت علاقاتها التطبيعية مع دولة الاحتلال.
  5. يُمكن للسلطة الفلسطينية أن تُمسك بزمام المبادرة في مواجهة الاحتلال من خلال التخلي عن وسائل الضغط المتمثلة في سحب الامتيازات من بعض الشخصيات القيادية الفلسطينية، والتخلص منها باعتبارها ورقة ابتزازٍ “إسرائيلية”.
  6. سياسة دولة الاحتلال وحكومتها الأخيرة واضحة وبشكل لا يخفي وحشيتها، واحتضانها لإرهاب الدولة، وهو ما سيضع السلطة الفلسطينية أمام خيارين، إمّا مواجهة حقيقية باتجاه مواصلة خطواتها عالمياً، أو تراجع تأييدها في الشارع الفلسطيني، وهذا يعني أنَّ السلطة الفلسطينية إذا ما أرادت الإبقاء على فعاليتها، فعليها تبني توجهات جديدة لتزيد من تأييد الشارع الفلسطيني لها.

ختامًا:

قد تدفع العقوبات الجماعية “الإسرائيلية” الأخيرة المفروضة على الشارع الفلسطيني والسلطة الفلسطينية الأوضاع إلى التأزم والانفجار، وهذا مرجحٌ في ظل حكومة “إسرائيلية” تقود إرهاب دولة منظم، ولا تتوانى في التأكيد على ممارسة وحشيتها، وهذا ما يدفع إلى وجود ردودٍ فلسطينية في وقت يرى فيه الفلسطيني نَفسه محاصراً ومحاطاً بكل الظروف الضاغطة مالياً وسياسياً وجغرافياً، والعقوبات “الإسرائيلية” الأخيرة تعكس دلالاتٍ واضحة من الاستعلاء والغطرسة، وتتدحرج ككرة الثلج باتجاه عقوبات أخرى ستقوم بها الحكومة “الإسرائيلية” الحالية، وهو ما صرح به وزير المالية “الإسرائيلي” الحالي “سموتريتش”، وبالتالي فإنَّ التوجه إلى المحافل الدولية يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح، تتطلب الإصرار على الاستكمال، وهذا من شأنه أن يكون مدخلاً لوحدة فلسطينية حقيقية.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى