العدوان الإسرائيلي على الضفة.. الادعاءات والمآلات
أ. سليمان بشارات[1]
في 28 آب/ أغسطس 2024، أعلن الاحتلال الإسرائيلي البدء بعملية عسكرية مكثفة على ثلاث من محافظات شمال الضفة الغربية ومخيمات اللاجئين فيها، شملت جنين ومخيمها، وطولكرم ومخيمي نور شمس وطولكرم، ومدينة طوباس ومخيم الفارعة، تحت عنوان القضاء على مجموعات المقاومة فيها.
وُصفت العملية العسكرية، التي أطلق عليها الاحتلال اسم “المخيمات الصيفية”، بأنها الأوسع والأكثر كثافة منذ عملية السور الواقي واجتياح الضفة عام 2002، إذ تشارك فيها فرقة عسكرية كاملة من جيش الاحتلال، وبغطاء كامل من وحدة المظليين والطائرات العسكرية والمسيرات، إضافة إلى الجرافات ووحدات خاصة من حرس الحدود والجيش.
ومع بدء العدوان، أثيرت العديد من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية للعملية العسكرية، والمآلات التي قد تترتب عليها في هذا التوقيت بالتحديد، خصوصًا وأن سلوك الاحتلال الإسرائيلي العدواني بالضفة منذ السابع من أكتوبر2023، ارتفعت وتيرته من خلال فرض إجراءات مشددة، وعمليات اعتقال طالت ما يزيد عن 10 آلاف فلسطيني، والتضييق على تنقل المواطنين عبر العشرات من الحواجز، ومنع دخول العمال الفلسطينيين للعمل بالداخل المحتل، إضافة لعمليات القتل والاغتيال باستخدام الطائرات المسيرة والعسكرية من قبل الوحدات الخاصة الإسرائيلية. لكن السؤال الأبرز من بين كل هذه التساؤلات: هل يسعى الاحتلال إلى حسم مستقبل الضفة حسب منظوره السياسي؟
المظاهر الرئيسة للعدوان
باشر الاحتلال الإسرائيلي منذ الساعات الأولى لعمليته العسكرية بإضفاء هالة من القوة العسكرية والتدميرية عليها، من خلال تنفيذ عمليات قصف واغتيال مباشرة باستخدام الطائرات المسيرة والعسكرية، إذ سُجل في غضون أربعة أيام فقط استشهاد نحو 20 فلسطينيا، والعشرات من الإصابات والاعتقالات، إضافة إلى بدء تنفيذ حالة ممنهجة من تدمير البنية التحتية، من شوارع ومبانٍ ومحال تجارية، وشبكات المياه والكهرباء وخطوط الاتصالات، مستخدمة الجرافات العسكرية المعروفة بجرافات D9، والتي تستخدم بكثرة في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
لم يتوقف الحال عند هذا الحد، بل تعمد الاحتلال إرفاق الإجراءات العسكرية على الأرض بتصريحات سياسية، ودعوات مباشرة لأهالي المخيمات المستهدفة لبدء مغادرتها والخروج منها، إذ دعا وزير خارجية الاحتلال يسرائيل كاتس صراحة إلى إخلاء مخيم جنين من المواطنين، ومن ثم التعامل معه كما تم التعامل مع غزة، وقال إن الحدود الأردنية الفلسطينية مفتوحة لهجرة الفلسطينيين.
وإلى جانب ذلك، بدأ الاحتلال بنشر سرديته وتبرير هجومه عبر الادعاء بوجود عمليات تهريب للسلاح من الحدود الأردنية للضفة، والزعم بوجود دعم إيراني للتنظيمات وإمدادها بالسلاح والمال، من أجل تلافي الانتقاد الأمريكي والأوروبي، وذلك على الرغم من ضعف المواقف الدولية تجاه الإجراءات التي يقوم بها الاحتلال بالضفة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم.
الادعاءات الإسرائيلية
عمل الاحتلال الإسرائيلي على تضخيم التهديد الأمني الذي يتعرض له من محافظات شمال الضفة، وأعطى لذلك زخمًا سياسيًا وإعلاميًا عبر منصاته المختلفة، وعلى لسان قياداته السياسية والعسكرية، بل ذهب أبعد من ذلك عندما وصف الضفة بأنها جبهة قتال ثانية بعد غزة، حيث استدعى وحدات من الجيش كانت متمركزة عند الحدود الشمالية لتعزيز الحالة العسكرية بالضفة، وهو ما يشي بأن هناك حالة من التضخيم تتخطى الأهداف المعلنة، المتمثلة في القضاء على النموذج المقاوم الذي نشأ في شمال الضفة.
ينطلق الادعاء الإسرائيلي في سرديته من تصاعد حالة المقاومة في الضفة، والتحول في أدواتها ومنهجياتها من التصدي للعدوان اليومي الذي تعيشه مدن وبلدات الضفة عبر التوغلات والاقتحامات، إلى الانطلاق في تنفيذ عمليات إطلاق نار، وإيقاع قتلى في صفوف الجيش والمستوطنين، كالعملية التي وقعت في منطقة الأغوار، أو التطور في صناعة العبوات الناسفة التي باتت تشكل هاجسًا للآليات العسكرية المقتحمة لمخيمات وبلدات الضفة، وصولًا إلى العملية الاستشهادية التي وقعت في تل أبيب. وبالتالي، ووفقًا لهذا الادعاءات، فإن الخشية الإسرائيلية من فقدان السيطرة على الحالة الميدانية بالضفة، باتت واضحة.
لكن في المقابل، يحاول الاحتلال الإسرائيلي أن يخفي حجم الممارسات القمعية التي يقوم بها جيشه، واعتداءات المستوطنين بشكل منهجي بالضفة، والتي قد تكون هي الدافع الأساس لدى الفلسطينيين في تطوير إمكانيات المواجهة للتصدي لهذه الممارسات، فما شهدته بلدة جيت في محافظة قلقيلية، ووادي رحال في الخليل في آب/ أغسطس الماضي، يؤكد على شكل وطبيعة ما قد يتعرض له الفلسطينيون في الضفة، خلال المرحلة المقبلة في ظل إطلاق العنان للمستوطنين وعملية تسليحهم، وما يوفره جيش الاحتلال لهم من حماية لتنفيذ هذه الاعتداءات، التي تستهدف الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم وبيوتهم وعائلاتهم.
ليس ذلك فحسب، بل إن ذهاب الاحتلال إلى فرض الحصار على الضفة الغربية، وإقامة ما يزيد عن 700 حاجز عسكري يفصل المحافظات والبلدات الفلسطينية في الضفة عن بعضها البعض، واستكمال ذلك بتركيب عشرات البوابات الحديدية على مداخل البلدات والقرى، لفرض السيطرة والتحكم في مسارات تنقل الفلسطينيين، ومنعهم من حرية الحركة، والتحكم بالحالة الاقتصادية من خلال السيطرة على أموال المقاصة والموارد الطبيعية، ومنع العمال من الوصول إلى أماكن عملهم، كل ذلك ينضوي تحت إطار الإمعان في فرض السيطرة على الفلسطينيين بالضفة.
الأهداف السياسية
انطلاقًا من الادعاءات التي يحاول أن يروج لها الاحتلال، فإن الأهداف الإسرائيلية المعلنة للعدوان تبدو كغطاء لإضفاء شرعية على تنفيذ عملية ممنهجة لتحقيق أهداف استراتيجية للاحتلال بالضفة، تتمثل في إعادة رسم ملامح الخريطة الجغرافية والديموغرافية الفلسطينية فيها، تمكن الاحتلال من فرض رؤيته للمستقبل، وتعزيز وجوده على حساب الوجود الفلسطيني، وهو ما يمكن أن يتمثل في الأهداف التالية:
- إعادة الثقة للقدرة العسكرية الإسرائيلية: فما تعرض له الاحتلال الإسرائيلي في أبعاده الأمنية والاستخباراتية والعسكرية في السابع من أكتوبر، وما تلا ذلك من حرب مستمرة منذ عام في قطاع غزة، دون تحقيق أهدافها المعلنة، أفقد جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية والعسكرية، الكثير من مرتكزات ونقاط القوة، التي كان يقدّم نفسه بها كقوة أولى على مستوى الشرق الأوسط، وبالتالي فإن عدم القدرة على فتح جبهات مواجهة شاملة نتيجة حالة الضعف، وعدم القدرة على ضمان الحسم في الجبهات الأخرى، جعل الاحتلال يعتقد أن ساحة الضفة ستكون هي النموذج الذي يمكن من خلاله إعادة الثقة لقدراته العسكرية والاستخباراتية، من خلال ما قد يحققه من أهداف تقدم على أنها أهداف نوعية.
- إعادة السيطرة والتحكم: بعد عام 2022 وظهور المجموعات المقاومة تحت مسمى “الكتائب” أو “المجموعات” في شمال الضفة، بات الاحتلال الإسرائيلي يخشى من تطور هذه النماذج إلى حالة إلهام، قد تمتد وتتطور من عمل مقاوم بسيط يعتمد على الخبرة القليلة، إلى بنية متكاملة من شأنها أن ترفع نسبة التحدي والخسائر لدى الاحتلال، وبالتالي إمكانية إخراج الضفة عن سيطرة الاحتلال. هذا يأتي بالتوازي مع الرغبة الإسرائيلية في إنهاء خطة فك الارتباط التي أقرها شارون في العام 2005، والتي تم بموجبها الانسحاب من قطاع غزة ومن عدد من مستوطنات شمال الضفة الغربية، إذ سارعت حكومة نتنياهو إلى إلغاء القانون، وعمل وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت، على البدء بتطبيق قرار الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يعني إمكانية عودة الاستيطان لمحافظات الشمال، وفرض السيطرة الأمنية والعسكرية بشكل أوسع. ووفقًا للمنظور الإسرائيلي، فإن تحقيق ذلك لن يكون سهلًا في ظل تحدي وجود مقاومة فلسطينية في هذه المناطق.
- إضعاف فرص إقامة الكيان السياسي الفلسطيني: أعلن نتنياهو وأقطاب حكومته اليمينية المتطرفة رفضهم إقامة كيان سياسي فلسطيني، أو السماح بتشكل نواة لبناء دولة فلسطينية مستقبلية، وقد عزز ذلك من خلال قتل عملية التسوية السياسية، وتحجيم مكانة السلطة الفلسطينية وأدوارها، والعمل على إضعافها بشكل متكامل، ابتداء من مصادرة أموال المقاصة، ووصولًا إلى سحب الصلاحيات، وتوج ذلك من خلال قرار صدر بغالبية أصوات الكنيست الإسرائيلي يرفض قيام دولة فلسطينية في مايو2024، وتبعه بقرارات أخرى صادقت عليها حكومة الاحتلال بعد أن قدمها وزير المالية سموتريش، والتي تقضي بالسيطرة على الأراضي المصنفة (ب)، وتحويل مسؤولية إدارتها للإدارة المدنية التابعة للاحتلال. وبذلك سعى الاحتلال إلى قتل الحلم الفلسطيني في إقامة كيان سياسي فلسطيني مهما كان شكله وحجمه، والآن يأتي العدوان العسكري على محافظات شمال الضفة ترجمة لهذه الخطوات، التي يمكن أن تنسحب على كامل محافظات الضفة.
- ضرب الحاضنة الشعبية وإضعافها ودفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية: يعتبر الاحتلال الإسرائيلي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أنها تمثل خزانًا بشريًا يحافظ على التفوق الديموغرافي الفلسطيني بالضفة، نتيجة للبيئة التي تشكل بها المخيم، والروابط التي يتمتع بها سكانه، والتماسك المجتمعي فيه، وارتباطهم بحق العودة. كما أن المخيمات تمثل عنوانًا ونموذجًا للحاضنة الشعبية الأكثر تمسكًا بالمبادئ والهوية الوطنية، التي تعزز مفهوم المقاومة، لذا يهدف الاحتلال الإسرائيلي من خلال عملية التدمير الممنهج للمخيمات، وتحويلها إلى أماكن غير قابلة للحياة، إلى دفع سكانها نحو الهجرة. من أجل تغيير الواقع الديموغرافي للسكان بالضفة. إما بعمليات نزوح داخلية، أو الدفع بهجرة طوعية إلى خارج فلسطين، وهذا ما عبرت عنه، وبشكل واضح، القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية منذ اليوم الأول للعدوان، ويترجم من خلال ما تقوم به الجرافات من عمليات تدمير كاملة للبنية التحتية، ومن خلال عمليات إحراق المنازل ونهبها من قبل جنود الاحتلال. وهذا يتلاقى إلى حد بعيد مع ذات السياسة التي يتبعها الاحتلال في قطاع غزة.
الخلاصة
يعتقد الاحتلال الإسرائيلي، وفي مقدمته تيار الصهيونية الدينية الذي يسيطر على مفاصل الحكم داخل الكيان، أن التوقيت الآن بات مناسبًا والفرصة مواتية، لفرض برنامجهم الذي عبر عنه سموتريش عام 2017، فيما سمي بخطة حسم الصراع بديلًا عن إدارة الصراع، والذي يفضي في محصلته إلى إقامة الدولة اليهودية على حساب الوجود الفلسطيني، والدفع بالفلسطينيين إلى الهجرة، والسيطرة الإسرائيلية الكاملة على الأراضي الفلسطينية. وما يشجع ذلك هو حالة الانسياق التام، والغطاء الذي توفره الولايات المتحدة، إلى جانب حالة الصمت والعجز العربي والإقليمي لما يحدث بحق الفلسطينيين.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله.