المشهد الفلسطيني

الدبلوماسية الجزائرية النشطة حديثًا تجاه القضية الفلسطينية: التوقيت والدوافع

د. علي حسن أبو رزق[1]

بات من الملاحظ أن الأشهر الأخيرة حملت نشاطًا غير مسبوق للدبلوماسية الجزائرية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بدءًا من تصدُّر الدولة الجزائرية لرفض قرار الاتحاد الإفريقي قبول ”إسرائيل“ دولة مراقب في الاتحاد، إلى استقبال الجزائر لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على أراضيها، والدعم المالي الذي تعهد به الرئيس عبدالمجيد تبون (بحدود مائة مليون دولار تذهب مباشرة إلى خزينة السلطة)، إلى استضافة وفود لمناقشة ملف المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، قبل توجيه دعوة رسمية إلى قيادة المقاومة الفلسطينية للمشاركة في احتفالات الذكرى الستين لانتصار الثورة الجزائرية، وهذه الدعوة  تكاد تكون الأولى على الصعيد الرسمي لقيادة المقاومة الفلسطينية، وقوبلت بترحيب فلسطيني كبير.

يمكن فهم الدوافع الجزائرية تجاه القضية الفلسطينية داخليًا وجيو سياسيًا في مجموعة من النقاط، تتجاوز النقاش الدائر دومًا حول تعلق الشعب الجزائري الكبير بالقضية الفلسطينية ومناصرته لها، وكون القضية جزءًا من حقيقة هويته الجزائرية التي امتدت منذ حرب الاستقلال، وتعاظمت فترة حكم القائد الكبير ”هواري بومدين”، صاحب المقولة التاريخية التي تردد إلى الآن ”مع فلسطين ظالمة أو مظلومة“، فالرجل وغيره من قادة الثورة الجزائرية كانوا حريصين على بلورة التجربة الجزائرية لتكون ”نموذجًا مُلهمًا“ لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث ككل، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، إضافة إلى ذلك، فإن الجزائر كانت مقر انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني لاتخاذ القرار الجريء بإعلان الدولة الفلسطينية عام 1988، وما رافقه ذلك من دعم دبلوماسي جزائري كبير في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وظهر ذلك أيضًا في حشد الرأي العام العربي والإفريقي والدولي للوقوف مع الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى عام 1987، أو ما يعرف بانتفاضة الحجارة، والذي سبقه استضافة المئات من المقاتلين الفلسطينيين الذين نشطوا على الجبهة اللبنانية في معسكرات وبيوت وقرى جزائرية.

يمكن تلخيص الدوافع الجزائرية تجاه تبني مثل هذه السياسة النشطة تجاه القضية الفلسطينية في ثلاث نقاط، وهي التحول الديمقراطي الذي تعيشه البلاد منذ عامين، والاتفاق المغربي ”الإسرائيلي“ لتطبيع العلاقات، وأيضًا ما يرقى لوصفه تنافسًا جزائريًّا مصريًّا حول عدة ملفات في المنطقة والإقليم.

التحول الديمقراطي

تشهد الجزائر عملية تحول ديمقراطي منذ عام 2019، بعد رحيل بوتفليقة، ويمكن القول أن البلد الشمال إفريقي يشهد تحولًا مهمًا، ولو كان بطيئًا وغير مقنع لعدد من الأحزاب الجزائرية.[2] إذ شهدت البلاد أربعة استحقاقات انتخابية في غضون عامين (انتخابات الرئاسة، استفتاء تعديل الدستور، الانتخابات التشريعية، الانتخابات المحلية)، فالرئيس الحالي، عبد المجيد تبّون، وطمعًا في البقاء فترة أطول في الحكم والفوز في ولاية ثانية، سيكون حريصًا على تبني سياسة خارجية أكثر ديناميكية من تلك التي تبناها سلفه، عبدالعزيز بوتفليقة، فالجزائر، عانت مما يمكن تسميته موات دبلوماسي وعزلة وانكفاء على الذات، أغلب فترات الرئيس السابق، بعدما كانت تعيش البلاد عصرًا ذهبيًا في العقود التي سبقت بوتفليقة، وخصوصًا في عقدي السبعينيات والثمانينيات، إذ قامت الدبلوماسية الجزائرية بلعب دور الوساطة في مجموعة من الأزمات التي ضربت المنطقة، أبرزها الدور الدبلوماسي الكبير في أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، والعمل على تسوية النزاع بين إيران والعراق عام 1975، وإنهاء أزمة الطائرة الكويتية المختطفة عام 1988، وقد كان موروث الثورة الجزائرية أحد أهم الأسباب في الوصول إلى هذه المنجزات الدبلوماسية، إلا أن دور الجزائر في عهد بوتفليقة تراجع، وانكفأت البلاد على نفسها أيّما انكفاء، قبل مساعي الدولة الرسمية في العامين الأخيرين للعودة مجددًا إلى الساحة العربية والإقليمية من بوابة أزمة سد النهضة بين إثيوبيا والسودان ومصر والأزمة الليبية، والأهم، بوابة القضية الفلسطينية التي لا تمنح الثقل الإقليمي فحسب، بل تعزز من الشرعية الداخلية للرئيس المنتخب، فالرئيس تبّون، وصل بانتخابات ديمقراطية وسيكون حريصًا في الفترة الأولى لرئاسته على الأقل، على سلوك سياسة خارجية تناسب طموحات وتوجهات شعبه الرافضة تمامًا لفكرة التطبيع مع ”إسرائيل“ والداعمة تمامًا للقضية الفلسطينية.

رداً على التطبيع المغربي-”الإسرائيلي“

ثانيًا تأتي الدبلوماسية الجزائرية النشطة حول القضية الفلسطينية ردًا على ما رأته الجزائر تهديدًا استراتيجيًّا تمثل في تطبيع الدولة الجارة، المغرب، مع دولة الاحتلال ”الإسرائيلي“ في ديسمبر من العام الماضي والذي تُوّج بزيارة وزير الخارجية ”الإسرائيلي“ ”يائير لابيد“ (رئيس الوزراء الحالي) إلى الرباط في شهر آب من العام المنصرم، وأيضًا باتفاق أمني دفاعي بين ”إسرائيل“ والمغرب خلال زيارة لاحقة أجراها وزير الدفاع ”الإسرائيلي“ “بيني جانتس” للأخيرة في شهر نوفمبر الماضي، وقد شكلت التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية ”الإسرائيلي“ من الرباط “صدمة” للجانب الجزائري، إذ أشار الوزير ”الإسرائيلي“ إلى ما أسماه: ”مشاركة ”إسرائيل“ القلق مع المملكة المغربية بشأن دور دولة الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربًا من إيران، وهي تقوم حاليًا بشن حملة ضد قبول ”إسرائيل“ في الاتحاد الإفريقي بصفة مراقب“، تلك التصريحات لم تغضب الجزائريين فحسب، بل دفعتهم إلى قطع العلاقات مع المغرب بشكل نهائي بعد أسابيع قليلة من الزيارة، إذ أسف الرئيس الجزائري لما اعتبر أنه تهديد لبلده يُطلق من قلب العاصمة المغربية، معتبرًا أن ما حصل ”خزي وعار لم يحدث منذ نكبة عام 1948.“

شعور الدولة الجزائرية بالتهديد من الاتفاق المغربي ”الإسرائيلي“ قد يدفعها، كما تقترح النظرية ”الواقعية الدفاعية“ أو ”النيواقعية الكلاسيكية“ التي جاء بها المنظر الأمريكي ”كينيث والتز“، إلى إعادة نسج تحالفاتها إقليميًا للدفاع عن هذا التهديد المحتمل، بما يشمل نسج التحالفات مع الجهات الفاعلة غير الحكومية ”non-state actors“ التي لها مصلحة مشتركة في مقاومة هذا التهديد، وذلك مردٌّه الطبيعة الأناركية أو الاسلطوية للنظام العالمي، والذي يدفع الدول إلى الاحتفاظ بأقصى قدر ممكن من الأمن والسلامة لمواطنيها.[3] وهذا ما يجعلنا نعتقد أن الدولة الجزائرية ستكون حريصة على تحسين علاقاتها مع حركات المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، بنفس قدر علاقاتها الجيدة مع السلطة الفلسطينية الرسمية، باعتبارهم أطرافًا مهمة في تحقيق المصلحة الجزائرية لمواجهة هذا التهديد المحتمل وتحسين الدور الدفاعي للدولة الجزائرية على المستوى العربي والإقليمي، وهذا ما يؤكده دعوة زعيم حركة حماس إسماعيل هنية، وهي دعوة رسمية أولى من نوعها لأعلى جهة تمثيلية في قيادة المقاومة، وقبلها دعوة حركتي حماس والجهاد الإسلامي لزيارة الجزائر والانخراط في حوار لبحث ملفات المصالحة الفلسطينية.

تنافس مع القاهرة؟

ثالثًا، يأتي التحرك الجزائري الدبلوماسي تجاه القضية الفلسطينية في خضم ما يمكن وصفه ”تنافسًا متناميًا“ على عدة ملفات عربية وإقليمية مع القاهرة، فالأخيرة، دعمت الجنرال الانقلابي خليفة حفتر ضد الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس العاصمة، بينما رفضت الجزائر أيّ محاولة للسيطرة على العاصمة طرابلس بقوة السلاح، وقد أكد الرئيس تبّون في عدة مقابلات أن الجزائر كانت على وشك التدخل لحماية العاصمة من السقوط في أيدي من وصفتهم ب ”المرتزقة“ في إشارة لقوات الجنرال حفتر، وأن طرابلس ”خط أحمر“ بالنسبة لبلاده.

تصر الجزائر كذلك على أن تحافظ على تونس وعلى بعض مكتسبات التجربة الديمقراطية التي حققتها البلاد منذ عام 2011، وألا تغير الخارطة السياسية في البلاد بما فيها محاولات حظر الأحزاب واتحادات النقابات التونسية وعلى رأسها حركة النهضة والاتحاد التونسي للشغل، وذلك بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد التي قام بها في شهر تموز الماضي ،وقام بموجبها بتجميد البرلمان المنتخب، في خطوة عدتها حركة النهضة “انقلابًا” على الدستور، الأمر الذي تختلف فيه القاهرة، التي تدعم، وحليفتها الإمارات، تحركات الرئيس التونسي وتضغط باتجاه حلّ الدستور وحلّ حركة النهضة ومحاسبة قياداتها والقيادات النقابية التي كان لها دور بارز في ثورة الياسمين التي أطاحت بزين العابدين بن علي.

يضاف إلى ما ذكر، رفض الجزائر اتفاقات التطبيع العربية ”الإسرائيلية“ أو ما يسمى ب ”اتفاقات أبراهام“ وتعتبرها ”هرولة نحو الاحتلال، لن تباركها الدولة ولن تشارك فيها“ بينما يمكن القول أن النظام المصري كان ”عرّابًا“ لهذه الاتفاقات عبر الترحيب الكبير بها والعمل على إنجازها واقتراحه التواصل مع الولايات المتحدة؛ لإنجاز ما كان يعرف ب ”صفقة القرن“ أو اتفاقات السلام الإقليمية بين العرب و”إسرائيل“، ودخول الجزائر على ملف المصالحة الفلسطينية قبل شهور، ودعوتها جميع الفصائل الفلسطينية لبحث هذا الملف، قد يؤكد هذا التوجه، إذ تعتبر المصالحة الفلسطينية المتعثرة من أهم الملفات القليلة الباقية في يد الدبلوماسية المصرية على المستوى الإقليمي، إذ ظلت القاهرة ممسكة بهذا الملف منذ آخر محاولة قطرية عام 2012، والمحاولة التركية الوحيدة لاستضافة المحادثات على أراضيها عام 2020، أغضبت القاهرة واعتبرتها ”تجاوزًا“ إذ رأت أنها قد بذلت في هذا الملف بالذات مجهوداً كبيراً، ووضعت أسس حله ومعظم بنوده في فترات سابقة.

الخاتمة

دفع عدد من العوامل الداخلية والجيوسياسية الجزائر لتبني سياسة أكثر انخراطًا في قضايا المنطقة وفي القلب منها القضية الفلسطينية، حيث ظلّ التحرك لدعم القضية الفلسطينية والانخراط فيها، أحد أهم أسباب الدول الباحثة عن النفوذ في المنطقة العربية والإقليم، وكان الاتفاق المغربي ”الإسرائيلي“ الأمني والدفاعي الذي أعقب تطبيع العلاقات بين الجانبين أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تسريع هذا التحرك الدبلوماسي، الذي تمثل في استضافة قيادة المقاومة الفلسطينية وتقديم دعم مالي سخي لخزينة السلطة ودعوة الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركات المقاومة المسلحة، بشكل رسمي إلى زيارة الجزائر وعقد المحادثات والمشاورات على أراضيها.


[1] باحث في العلاقات الدولية.

[2] حركة مجتمع السلم، أكبر حركة إسلامية في البلاد، قاطعت الانتخابات الرئاسية ودعت للتصويت بلا على الدستور، وأيضًا، فضلت لعب دور المعارضة ومقاطعة الحكومة الحالية، وسط تصريحات لعدد من قياداتها أن طريقة إدارة الاستحقاقات الانتخابية الأربعة تهدد عملية التحول الديمقراطي في البلاد.

[3] كينيث والتز، كتاب ”نظرية السياسة الدولية“، دار مكجروهل للنشر، 1979، ص: 47.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى