الحرب على غزة.. مآلاتها فلسطينيا وإسرائيليا
يجمع المراقبون والمحلّلون على أن محطة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تبعها من الحرب على قطاع غزة، لن تعتبر مرحلة عابرة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهي لن تترك أثرها الآني فقط، بل إن مآلاتها ستمتد لسنوات.
وبعد مرور أكثر من 130 يوما من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سعى مركز رؤية للتنمية السياسية وموقع الجزيرة نت ، إلى استقراء رأي عدد من المحللين والخبراء لفهم مآلات الحرب على قطاع غزة في مستوياتها المختلفة.
وقد انطلق الاستقراء من هذه الأسئلة:
- كيف يمكن أن تؤثر هذه الحرب في المستقبل السياسي للفلسطينيين؟
- وهل مايزت الحرب بين أدوار الفاعلين في الساحة؟
- وكيف يمكن أن تنعكس الحرب ومجرياتها على الوضع الداخلي الإسرائيلي وخريطة الحكم السياسي؟ وهل عززت الحرب نجاعة فكرة المقاومة في الشارع الفلسطيني؟
يمكن تلخيص آراء الخبراء بما يلي:
- صمود المقاومة والمجتمع الفلسطيني هو الذي سيحسم مآلات الحرب في بعديها السياسي والعسكري.
- على الفاعلين الفلسطينيين التقاط اللحظة التاريخية للاتحاد واستثمار صمود الفلسطينيين.
- الخريطة السياسية الفلسطينية ستتأثر من خلال تأثر أوازن القوى، بتراجع لحركة فتح والسلطة الفلسطينية وتقدم لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإقرار بشرعية حماس، وفشل تهميشها في المعادلة السياسية.
- لا يمكن أن يُمحى ما حققه السابع من أكتوبر من ضربة في مكانة وصورة الاحتلال الإسرائيلي، مهما نفذ الاحتلال من مجازر.
- استمرارية الحرب على غزة وتوسعها لتشمل منطقة رفح سيجعل إسرائيل أمام خسارة مضاعفة لسمعتها السياسية على المستوى الدولي.
- إسرائيل تسعى لاستنساخ تجربة الضفة الغربية في غزة، وجر الدول العربية لتقديم التمويل وإعادة الإعمار، والوصول إلى تطبيع مجاني في المنطقة.
- سيبنى على نتيجة الحرب تغيير في بنية المجتمع الإسرائيلي، أو على الأقل تغيير في رؤيته، بشكل شبيه بتجربة الانتفاضة الأولى التي أحدثت تغييرًا في مفاهيم العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية بعد أن أصبح الاحتلال لا يشعر بالأمان والاستقرار.
- من مآلات الحرب أنها ستؤدي إلى تغيير طبقة من العسكريين والسياسيين الإسرائيليين الذين سيخضعون للمساءلة، ولن يستطيعوا تحقيق رؤيتهم المستقبلية.
- إضافة إلى اليمين المتطرف الذي وجهت له ضربة قوية. ترغب الإدارة الأميركية في إضعاف نتنياهو لإحداث تغيير إسرائيلي داخلي باعتباره عائقًا أمام الرؤية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط.
- هناك إجماع دولي على ضرورة إقامة دولة فلسطينية. يمكن أن نشهد تحركات ومبادرات لإحياء مسار التسوية؛ لتكون أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة للفلسطينيين.
الحرب يحسمها الميدان، وقدرة حركة حماس على الصمود، وإدارتها على شكل حرب استنزاف طويلة.
وقد تطول الحرب، وتحاول إسرائيل إقامة مناطق عازلة، ومناطق عسكرية؛ بهدف التأسيس لمرحلة إعادة سيطرة أمنية على القطاع؛ لعدم السماح للمقاومة بإعادة بناء قدراتها العسكرية، ورغبةً في استنساخ التجربة بالضفة الغربية في غزة، وجر الدول العربية لتقديم التمويل وإعادة الإعمار.
كما يطمح نتنياهو للوصول إلى تطبيع مجاني في المنطقة. لكن هذا السيناريو قد لا ينجح بسبب قدرة المقاومة على الصمود والمواجهة. وليس أمامها ما تخسره الآن بعد كل ما تم تدميره. ولذا فإن إسرائيل بهذه الحالة ستخسر سمعتها السياسية على المستوى الدولي، وتخسر قدراتها العسكرية من خلال الخسائر التي توقعها بها المقاومة.
وفي اعتقادي ما لم يكن هناك تدخل كبير، وضغط باتجاه وقف الحرب، والوصول إلى صفقة إقليمية بما فيها مسار سياسي، ويكون طرفها حماس والسلطة الفلسطينية، ستبقى الولايات المتحدة تدعم توجه الحرب، وتعطي نتنياهو الفرصة للقضاء على المقاومة.
وبنفس الوقت يبدو أن الإدارة الأميركية ترغب في إضعاف نتنياهو لإحداث تغيير إسرائيلي داخلي باعتباره عائقًا أمام الرؤية الأميركية التي ترغب في أن تتوجها بتوجه سياسي لمنطقة الشرق الأوسط، ومستقبل القضية الفلسطينية من خلال ما يتم الحديث عنه بإقامة دولة فلسطينية تحت إدارة السلطة الفلسطينية.
ومن ثم فإنّ إنهاك المقاومة وإنهاك نتنياهو سيعطي بدائل جديدة، منها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، واحتواء حماس في السلطة الفلسطينية ضمن إطار حل الدولتين.
لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية هناك إجماع دولي على ضرورة إقامة دولة فلسطينية. وهذا ما يتم الحديث عنه من إصلاحات فلسطينية داخلية بهدف التمهيد لمتطلبات دولية وإقليمية.
ما حصل في السابع من أكتوبر لا شك أنه سيلقي بظلاله على الضفة الغربية، وهذا يفسر القمع والتشدد في الإجراءات الإسرائيلية لعدم تحول نموذج غزة إليها، ولهذا السبب لن تتغير النظرة الإسرائيلية للضفة في بعدها الأمني، وستبقى المواقف بأي حكومة قائمة مواقف متشددة في التعامل مع الضفة.
هذه الحرب من الممكن أن تغير المفاهيم، فما جرى حتى الآن هو عدم نضج في الصراع، أي أن الطرفين (المقاومة، والاحتلال) شعرا بالألم، وهذه المرة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، التي يشعر الاحتلال فيها بالألم الذي كان يشعر به ويعيشه الفلسطيني على مدار 75 عامًا، كالنزوح لآلاف المستوطنين، والشعور بعدم الأمان وغياب الاقتصاد.
والأمر الثاني أن يجلس الطرفان على طاولة المفاوضات بعد عدم القدرة على الحسم العسكري، لا من طرف الاحتلال ولا من طرف المقاومة؛ مما يدفع بالطرفين لضرورة أن يكون هناك جلوس على الطاولة نتيجة دفع الثمن وتقديم التضحيات.
أضف إلى ذلك أن السابع من أكتوبر سينبني عليه تغيير في بنية المجتمع الإسرائيلي، أو على الأقل تغيير في رؤيته. فمثلا تجربة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أحدثت تغيرًا في مفاهيم العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية، بعد أن أصبح الاحتلال لا يشعر بالأمان والاستقرار، وذهب باتجاه مفاوضات أوسلو وتوقيعها في ذلك الوقت، على الرغم من أن الاقتناعات قبل الانتفاضة لم تكن تدفع بذات الاتجاه. ومثال ثانٍ ما حدث في حرب 1973، التي جعلت الإسرائيلي يشعر بالخوف الوجودي وأدت إلى انتخابات جديدة، وتغيير في الخريطة السياسية الإسرائيلية الداخلية التي أدت في نهاية المطاف إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
الواقع السياسي والعسكري في غزة واستشراف مآلات الحرب، يتطلبان أن ننطلق من البيئات المرتبطة بهما؛ بدءًا بالبيئة الحاضنة في غزة، ثم البيئة الإسرائيلية، وثالثًا البيئة الإقليمية والدولية. إذا ما تحدثنا أولًا عن البيئة الحاضنة في غزة، فلا شك في أنها تئن من حجم الدمار والمأساة، لكن تشكل هناك وعي يرفض القبول بأنصاف الحلول، لأنها تتطلع إلى الاستراحة لفترة طويلة مستقبلا.
ويعزز ذلك أن المقاومة صامدة، وقادرة على إيقاع الخسائر في صفوف الاحتلال، وقادرة على الاستمرارية في المواجهة، وهذا يجعلها تكتسب ثقة المجتمع في غزة.
أما ما يرتبط بالبيئة الإسرائيلية اقتصاديًّا فقد أصبح الواقع صعبًا، ولم يعد الدعم الأميركي بسهولة وسلاسة كما كان في بداية الحرب. على صعيد قوات الاحتياط، فقد بدأت تتناقص ولا تتزايد؛ نتيجة حالة الإنهاك من طول فترة الحرب وتبعاتها. أمّا الموقف الشعبي الإسرائيلي فقد تصاعدت التظاهرات المطالبة بإبرام صفقة تبادل، وهناك تباين في المواقف.
وفيما يتعلق بالبيئة الدولية والإقليمية، تظهر جميع المؤشرات أنها تدعم ضرورة توقف الحرب، وتدعو إلى مقاربة سياسية بإعادة طرح الحل السياسي المتمثل بحل الدولتين.
في تقديري أن هذه الحرب الكبيرة، سينتج عنها بما لا يدع مجالًا للشك تحولات كبيرة. تسيّرها قدرة اللاعبين السياسيين الفلسطينيين على التقاط هذه الفرصة واللحظة التاريخية. والمطلوب أن يكون هناك تحرك أكبر للوحدة الفلسطينية؛ لتوظيف المتغيرات الإقليمية والدولية التي أصبحت تشكل حالة داعمة للقضية الفلسطينية.
بخصوص الخريطة السياسية الفلسطينية، فلا شك أن هذه الحرب أثرت في أوزانها، فهناك تراجع في شعبية حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وتقدم لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهناك إقرار بشرعية حركة حماس، وبفشل تهميشها في المعادلة السياسية. وهذا ما أجبر الأطراف الدولية على التعامل معها؛ فمخرجات إطار باريس تعزز ذلك، حتى إن فكرة رفض مشاركة حماس في الحكم لم تعد مطروحة.
لو أن هذه المعركة شملت مشاركة الكل الفلسطيني في الضفة والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، كان يمكن أن تؤسس لهزيمة كاملة للاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، لكن بكل الأحوال تبقى هي محطة أسست لمرحلة التحرر الكامل، ويمكن البناء عليها لدى الأجيال الفلسطينية القادمة.
ما يحدث الآن لم يُظهر لصانع القرار الإسرائيلي اليوم التالي للحرب، ولو انتهت الحرب ما هي الصورة التي سيكون عليها قطاع غزة. من الناحية السياسية لا تكون دولة الاحتلال قد غيّرت شيئًا لذلك، فالاحتلال يحيل إنجازاته إلى فترة مستقبلية، فهو لا يتحدث عن الواقع بقدر ما يتحدث عما ستُقدم عليه إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب.
وهذا بالمناسبة جزء من سياسية نتنياهو الحالية، في محاولة إطالة أمد الحرب إلى أكبر قدر ممكن، لعله يحصل على هدف يمكنه من العودة للمجتمع الإسرائيلي بادعاء أنه حقق إنجازًا ما.
المستوى العسكري يريد أن يلقي الكرة في ملعب المستوى السياسي، وهنالك جدال بين المستويين السياسي والعسكري: من الذي يتحمل مسؤولية فشل تحقيق الأهداف ومسؤولية 7 أكتوبر؟ لذلك عندما يُقدم على هذه الخطوة فهو يريد أن ينتقل إلى خطوة أخرى؛ بمعنى أنه لا بد من تجاوز هذا الحديث لأنه لم يعد مفيدًا إسرائيليًّا الحديث عن من الذي يتحمل هذه المسؤولية، وهذا الفشل، وإنما من الذي يتحمل مسؤولية إدارة الشأن الإسرائيلي الآن، سواء بمجريات الحرب، أو بمجريات العملية التفاوضية.
وأعتقد أن هذا الأمر سيدفع الإسرائيليين إلى مراجعات على المستوى السياسي، من حيث المضيّ قُدمًا في المشروع الذي قد بدؤوه بوضع الأهداف، أو بوجود رؤى أخرى من خارج المؤسسة الرسمية الإسرائيلية تعلن عن وجوب تجديد وتحديث أهداف أخرى.
في اعتقادي أن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو يحاول تقديم رؤية لمستقبل الفلسطينيين بشكل عام، وقطاع غزة تحديدًا، بالعديد من الأفكار والأطروحات المختلفة، إلا أنه لغاية هذه اللحظة هناك ضبابية لهذه الرؤية. لأنه كلما سئل عن المستقبل يقول إنه مقدم على سلطة أمنية، ويتم التشبيه في بعض الأحيان بنموذج الضفة الغربية التي ما زال يمارس فيها نفوذًا أمنيًّا واسعًا.
وهذا فعليًّا نموذج فاشل؛ لأنه حتى بالتعامل مع الضفة لم يستطع أن يحقق الأمن للمجتمع الإسرائيلي، بالرغم من التنسيق الكامل مع عدة جهات وأهمها الأمن الفلسطيني، وهذا واضح من خلال تنامي البؤر النضالية في أكثر من ساحة بالضفة قبل الحرب على غزة بعامين.
لذلك أعتقد أن نتنياهو اليوم ليس بمكان يخوله وضع شكل للمستقبل السياسي للفلسطينيين ما دامت المقاومة صامدة، ولا يبدو عليها الإنهاك رغم أننا في الشهر الرابع للحرب.
بالطبع مايزت هذه الحرب بشكل كبير بين مشروعين: مشرع المقاومة كطريق للتحرر، ومشروع المفاوضات المتبناة من السلطة، الذي لم يقدم للمشروع الوطني إلا زيادة في الاستيطان الذي وصل لغاية اللحظة إلى الاستيلاء على 42% من أراضي الضفة الغربية، و50% من الطرق بالضفة لصالح طرق خاصة بالمستوطنين، و90% من الأحراش والغابات لصالح المستوطنين. فضلًا عن مسار التطبيع السريع جدا الذي حدث بالقفز عن القضية الفلسطينية.
لذلك، حتى رؤية دولة الاحتلال للسلطة أصبحت لا تتعدى سوى شرطي لإسكات كل صوت ممكن أن يتحدث في غير رؤيتها. أما المقاومة في اعتقادي فهي التي أعادت القضية الفلسطينية إلى المسار الذي يجب أن تبقى فيه.
أعتقد أن إسرائيل فقدت قيمتها الإستراتيجية، وفقدت أمنها ومشروعها الصهيوني الذي بدأته بشكل موسع في السنوات الأخيرة، وأن طوفان الأقصى الحقيقي لم يبدأ بعد. فطوفان الأقصى سيرتد على خريطة الحكم بإسرائيل، وعلى الوضع الداخلي الإسرائيلي في اليوم التالي لانتهاء الحرب، وسنشهد انشقاقًا وتشرذمًا وخلافات ستدون بالتاريخ الإسرائيلي.
عززت الحرب من فكرة المقاومة، ليس في الشارع الفلسطيني فحسب، وإنما في الشارع العربي والإسلامي. أفقدت المقاومة إسرائيل قوة الردع التي طالما تغنت بها بالإقليم والعالم، وأفشلت محاولات إسرائيل المتتالية عبر سنوات من إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، وأفشلت فكرة تحويل القضية الفلسطينية من قضية مركزية إلى قضية إنسانية مالية.
وأفقدت الاحتلال حرب الصورة وحرب الإعلام. وكشفت زيف الوجه الحقيقي المجرم اللاإنساني للعالم. زرعت المقاومة الفلسطينية الشك لدى المجتمع الإسرائيلي، وأربكت الجيش الإسرائيلي في مجمل آلياته الدعائية التي بناها على مدار 76 عامًا، بأنه قوة ردع تقصي خصومها في أيام معدودة، وأعادت المقاومة فكرة خطر الوجود والكينونة لدولة إسرائيل.
كل حرب لها نهاية، وهذه الحرب مصيرها أن تنتهي في لحظة ما وعندها يمكن الحديث عما حققته هذه الحرب من مكاسب وخسائر، لكن ما يمكن قوله إن السابع من أكتوبر أحدث حالة تحول بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين، وكذلك الحال بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي. ما حققه السابع من أكتوبر لا يمكن لأي حرب حتى لو أبيدت غزة أن تزيله، وفي مقدمة ذلك ضربه لإسرائيل وصورتها وهيبتها، وإعادته القضية الفلسطينية لتصدر أولويات العالم.
يبقى أن نرى كيف ستخرج إسرائيل وكذلك حماس والمقاومة من الحرب. أعتقد أن إسرائيل تكبدت خسائر مهمة معنوية ومادية، ولكن في المقابل أيضًا قامت بعملية تدمير كبيرة واستعرضت قوتها، ولذا فلا يمكن القول إنها فشلت في تحقيق أهدافها؛ لكنها حققت التدمير الكبير الذي قد ينظر له على أنه تحقيق حالة ردع مستقبلية.
بكل تأكيد فإن هذه الحرب سيكون لها نتيجة مهمة للفلسطينيين، فقد تمنح الحصول على ثمن سياسي قد يتوج بدولة، وهذا لا يمكن أن نقيسه دون حالة الصمود للمواطنين الذين دفعوا ثمن صمودهم، ولكن في المقابل ما زلنا بحاجة إلى إرادة سياسية فلسطينية، يفترض أن تكون موحدة، لاستثمار هذه الحالة. لكن حتى الآن لم يتحقق هذا الأمر للأسف.
أحدثت هذه الحرب تمايزًا على المستوى الداخلي الفلسطيني، هذا التمايز اختلف بين الضفة وغزة؛ ففي غزة كان الجميع منخرطا بالمقاومة والتصدي بنسب متفاوتة، والكل كان مستهدفا بالقصف الذي طال المؤسسات العامة والخاصة. أما في الضفة بكل تأكيد فكان هناك تمايز.
في المقابل انعكست هذه الحرب على الاحتلال الإسرائيلي، فقد أثرت فيه أحداث أقل مستوى من هذه الحرب فكيف بحرب كهذه؟ وحدث كما جرى في السابع من أكتوبر؟ هناك جيل كامل من العسكريين الإسرائيليين قضت عليه الحرب، وسيخضع للمساءلة ولن يستطيع أن يتطور أو أن يحقق رؤيته المستقبلية. خصوصًا القادة العسكريين الذين كانوا يطمحون لرؤية مستقبلية. وكذلك الأمر بالنسبة للسياسيين الإسرائيليين من بنيامين نتنياهو وصولًا إلى اليمين المتطرف.
أما المقاومة فقد أثبتت جدارتها وقوتها، وقد تثار بعد الحرب نقاشات فلسطينية حول المقاومة وأدواتها وقدرتها وكيفية إدارتها، وسيكون هذا في إطار التقييم الذاتي المهم.
في قراءة عميقة لمجريات الحرب ومساراتها المحتملة والعوامل الثابتة والمتغيرة التي تؤثر، يتضح أن السيناريو المرجح هو عدم قدرة أي طرف على توجيه ضربة قاضية للطرف الآخر، وأن الانتصار إن حدث سيكون في النقاط انتظارًا لجولات قادمة.
وكما هو معروف في تاريخ الحروب العسكرية بشكل عام، وفي الحروب التحررية التي تخوضها شعوب تعاني من الاستعمار، فإن الطرف الضعيف إذا لم يُمكّن الطرف القوي من تحقيق أهدافه فإنه يكون بمعنى من المعاني قد انتصر، ويمكن أن تتحقق هذه النتيجة نظرًا إلى الأهداف العالية العلنية والسرية التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، والتي تبدأ بالقضاء على المقاومة، وتمر بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وألا يكون قطاع غزة مصدرًا للتهديد في المستقبل القريب، وتصل إلى التهجير، وتقليص مساحة وسكان القطاع، وفرض مناطق عازلة، وإدارة ذاتية تخضع للاحتلال من دون تسميته احتلالًا.
طوفان الأقصى جاء ليقلب الأمور رأسًا على عقب؛ حيث أصبحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تردد يوميًّا التزامها بحل الدولتين، وأصبح هناك اهتمام عالمي غير مسبوق بحل الدولتين.
ولكن، هذا نوع من بيع الوهم، ويجب ألا يخدع أحدًا؛ لأن الهدف الأساسي منه هو إقناع الدول العربية والإسلامية التي لم تعترف بإسرائيل بتطبيع العلاقات معها، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، من خلال الادعاء بأنها إذا طبعت ستحصل على دولة فلسطينية طالما طالبت بها، وبذلك يتم تطبيق مبادرة السلام العربية، وما سيحصل إذا تم شراء الوهم تطبيع من دون دولة.
يمكن أن نشهد تحركات ومبادرات لإحياء مسار التسوية؛ لتكون أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة للفلسطينيين، ولكن يمكن التغاضي عن تسميتها دولة، وهذا في حال سقوط الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومجيء حكومة أقل تطرفًا، وهذا هو الأرجح حتى الآن.
02:30
هذه الحرب عملت على تعزيز الصمود الشعبي الأسطوري والمقاومة الباسلة في قطاع غزة، والتغير في الرأي الشعبي العام العالمي اتجاه إسرائيل، وتوجه دول لمحاكمة إسرائيل في المحاكم الدولية.
وكذلك احتمال سقوط حكومة نتنياهو وقدوم حكومة أقل تطرفًا، ووجود جبهات إسناد للمقاومة في لبنان والعراق واليمن، واحتمال توسعها نحو حرب إقليمية.
وعززت التحولات التي يشهدها النظام الدولي وإمكانية ميلاد نظام دولي جديد متعدد الأقطاب. ومن ناحية أخرى، أثبتت عملية طوفان الأقصى المستمرة أن هناك حدودًا للقوة الإسرائيلية، وأن سياسة القمع والاحتلال لا توفر لإسرائيل الأمن والرفاهية.
يتضح عسكريًّا أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها، وأن استمرارية الحرب لمحاولة تحقيق أهداف سياسية لبقاء مكونات الحالة السياسية الحالية، وسيطرة نتنياهو واليمين المتطرف.
وهذا دفع أميركا إلى الذهاب اتجاه مبادرة باريس، التي ظهر في إطارها الأولي أنها تأتي ضمن تحقيق رغبتي أميركا وفصائل المقاومة في إطلاق سراح الأسرى، بمعنى محاولة إيجاد منطقة أقرب للذهاب لوقف إطلاق النار، وجاء موقف المعارضة الإسرائيلية في إطار توفير مظلة لحكومة نتنياهو لإتمام هذه الصفقة، بهدف تشجيع نتنياهو لاتخاذ قرار حاسم في هذا الجانب، ومحاولة تخفيف تأثير اليمين على القرار، ولكن إن أصرّ نتنياهو على البقاء ضمن قرار اليمين، ولم يقبل بالصفقة، فمن الممكن أن تتأزّم العلاقات الدبلوماسية الأميركية الإسرائيلية؛ مما قد يفتح الباب أمام إدارة بايدن لتعزيز الضغط الأميركي، ورفع الغطاء عن حكومة نتنياهو. الأمر الذي قد يجبر إسرائيل في نهاية المطاف على القبول، ويؤشر إلى أن العملية العسكرية الإسرائيلية ستتوقف، لكنها قد تحتاج بعض الوقت حتى تتبلور جميع المواقف بشكل واضح.
ما جرى في السابع من أكتوبر أعاد تعزيز مكانة القضية الفلسطينية على الأجندات السياسية الإقليمية والعالمية، وبالتحديد الاهتمام الأميركي الأوروبي. وظهر ذلك جليًّا من خلال التصريحات والمواقف التي أصبحت تركز على ضرورة إيجاد حل للقضية الفلسطينية. وقد يتبلور ذلك ليشكل حالة ضغط على إسرائيل في ضرورة أن يكون هناك حل سياسي.
وفي حال تعثرت هذه الجهود، واستمر التعنت الإسرائيلي، فقد يدفع ذلك إلى ضرورة فرض حل يجبر إسرائيل على القبول به من خلال استخدام أوراق ضاغطة أوروبية. ويبدو أن أمريكا وأوروبا ذاهبتان باتجاه ضرورة إنهاء الصراع، والوصول إلى دولة فلسطينية. ويبقى شكل هذه الدولة غير واضح.
في اعتقادي أن هذه الحرب ستؤثر بشكل مباشر في التركيبة الإسرائيلية الداخلية، وستقلب الخريطة السياسية. وستتراجع الأحزاب الصهيونية المتديّنة بعد أن شهدت حالة تصاعد على مدار الأعوام العشرين الماضية، وستصاب بنكسة. إضافة إلى انتكاسة لحزب الليكود.
وأعتقد أن الأحزاب الأخرى التي يمكن أن يطلق عليها الأحزاب الليبرالية اليسارية ستصعد، وقد يفتح ذلك المجال أمام بروز أحزاب سياسية جديدة إسرائيليًّا. وأتوقع أن يكون هناك تصاعد لأصوات في المجتمع الإسرائيلي تدفع بضرورة منح الفلسطيني بعضًا من الحقوق في محاولة البحث عن حالة هدوء.
في المقابل، أرى أن فكرة المقاومة تعززت بشكل أكبر، وأثبتت المقاومة وجودها وقدرتها على مواجهة هذا الكيان الذي كان يسوق نفسه أمام العالم أنه دولة قوية ومنيعة، واستطاعت أن تواجه هذه القوة؛ مما يفضي إلى تعزيز حركات المقاومة وقوى المقاومة مقابل إضعاف هيبة الردع الإسرائيلية.
على الصعيد الفلسطيني الداخلي، هذه المحطة أكدت للشارع الفلسطيني ضرورة التوافق الوطني، ووجود برنامج وطني واحد يمكن أن يكون متوازنًا ويشمل الكل الفلسطيني. وهذا عزز ضرورة أن يكون هناك إعادة بناء لمنظمة التحرير الفلسطينية بما يشمل مشاركة الكل الفلسطيني، خصوصا حماس والجهاد الإسلامي. على صعيد حركة فتح، أعتقد أن هذه المرحلة ستشكل محطة في تغيرات جوهرية داخل الحركة، تتناسب وفكرة إعادة توحيد الصف الفلسطيني، وإنشاء برنامج وطني جامع.
أعتقد أن مآلات الحرب على غزة ترتبط بالمتغيرات المتلاحقة والمتناقضة داخل الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية. حيث إن هناك صراعًا بين اتجاهين أو رؤيتين، الأول يرى أنه يجب مواجهة كل القوى التي تعتبر عدوًّا لإسرائيل مهما بلغت الأمور، ومن ثم تعميق الحرب سواء أكانت في غزة أو الضفة أو الإقليم.
أما التوجه الثاني يرفض توسيع رقعة هذا الصراع، ويحاول حصره في غزة، والذهاب بعد ذلك إلى تهدئة خشية من المآلات الإقليمية في حال اتساع رقعة الصراع. هذان التوجهان كل منهما يضغط لفرض رؤيته.
وحتى هذه اللحظة لا يزال التوجه الأول المؤثر بشكل أكبر؛ لكونه ينطلق من حالة التعبئة الجماهيرية نتيجة الصدمة التي جرت في السابع من أكتوبر، لكن ما قد يحسم أيًّا من التيارين سيكون له التأثير المستقبلي هو إطار باريس للمفاوضات، وما قد يتمخض عنه خلال الأيام المقبلة.
هذه المحطة نقلت القضية الفلسطينية نقلة نوعية ومهمة، وأحدثت انجرافًا عالميًّا واضحًا أمام تأييد الحقوق الفلسطينية، ودفعت السياسات الأميركية والأوروبية إلى العودة إلى الحديث عن الدولة الفلسطينية بعد أن حاولت الالتفاف على المطالب الفلسطينية على مدار السنوات الماضية، وهذا النهج يؤثر في تطور القضية الفلسطينية.
تحاول دولة الاحتلال ومن خلفها الولايات المتحدة الالتفاف على الرأي العام الدولي من خلال الحديث عن دولة، والعودة إلى طاولة المفاوضات، وهنا يجب التنبه إلى الحق الفلسطيني بتحقيق المصير، والرغبة الصهيونية في حسم الصراع الفلسطيني.
وهنا يأتي دور هذه المعركة التي يمكن أن تعد نقطة مهمة ضمن الجهد الميداني والصمود الفلسطيني أمام ما يمارسه الاحتلال في القطاع، ومن ثم ينبغي البناء عليها لتعزيز المواجهة حتى تحصيل الحقوق الفلسطينية في نهاية المطاف.
الإعداد: مركز رؤية للتنمية السياسية بالتعاون مع الجزيرة نت