الحراك الفتحاوي الداخلي.. الدلالات والتأثيرات السياسية
ترأس الرئيس الفلسطيني محمود عباس أعمال الدورة الـ11 للمجلس الثوري لحركة “فتح”، التي جرت في مقر الرئاسة الفلسطينية في الفترة ما بين 24 و26 أغسطس/آب 2023، وذلك بعد أيام قليلة من إصدار مرسوم رئاسي بإحالة 12 محافظًا في الضفة وغزة للتقاعد، وإبلاغ الخارجية الفلسطينية مؤخرًا لـ37 سفيرًا بترتيب ظروفهم قبل إنهاء عملهم كسفراء. إلى جانب ذلك الإعلان عن التحضيرات لعقد المؤتمر الثامن لحركة فتح في شهر كانون أول/ديسمبر2023.
أحدثت هذه الخطوات المتسارعة والمتقاربة زمانيًا، حالة من الحراك من جانب، والإرباك من جانب آخر، داخل حركة فتح والسلطة الفلسطينية. وقد دفعت هذه التطورات مركز رؤية للتنمية السياسية، إلى استقراء آراء مجموعة من الخبراء والسياسيين، وفهم دلالات هذه القرارات بهذا التوقيت بالذات، ومدى ارتباطها بالبيت الفتحاوي والسلطة الفلسطينية بالتحديد. وكيف يمكن أن تنعكس هذه القرارات على العلاقة الداخلية لحركة فتح ما بين مستوى القيادة والقاعدة؟ وما تأثير ذلك على العلاقات الداخلية الفلسطينية؟ وما علاقة هذه القرارات بمكانة السلطة الفلسطينية وأدوارها المستقبلية؟ وهل لها أسباب تتعلق بالترتيبات السياسية الإقليميّة؟
يمكن تلخيص آراء الخبراء فيما يأتي:
- قد يبرّر البعض أن القرارات الأخيرة هي في سياقها الطبيعي من حيث الرؤية الإدارية، باعتبار أن تغيير المحافظين والسفراء وانعقاد المؤتمر الثامن كان من المفترض أن يحدث منذ فترة. إلا أنه لا يمكن فصل القرارات الأخيرة عن جملة التغيرات الأخيرة على المشهد الفلسطيني الداخلي، أو الترتيبات الإقليمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
- تطور المشهد الميداني بالضفة، خصوصًا تصاعدية المقاومة، وشعور السلطة الفلسطينية بنوع من فقدان السيطرة على بعض المناطق مثل جنين ونابلس، مثّلا دافعًا مهمًا لإعادة الترتيب الداخلي للسلطة الفلسطينية وحركة فتح، وذلك من منطلقات أمنية من ناحية، ومن منطلقات تتعلق بالسياق الدولي من ناحية أخرى.
- تأتي هذه القرارات ضمن إعادة هيكلة السلطة وحركة فتح وضخ الدماء الجديدة، وجزء منها استجابة لرغبة داخل قيادة فتح، وجزء آخر لتعزيز حضور الحركة، وهذا سبب التأييد الذي حظيت به من قبل الأقاليم كافة.
- قد تكون هذه القرارات المحطة الأخيرة لترتيبات المشهد السياسي والفتحاوي قبل مغادرة الرئيس الفلسطيني، وحتى لا يكون هناك فراغ مفاجئ في ظل تصاعد تنافسية الأقطاب داخل حركة فتح التي قد تصل للصدام.
- الحراك الإقليمي والدولي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية دفع باتجاه اتخاذ هذه القرارات بهدف إثبات قدرة السلطة على الاستمرارية في المرحلة المقبلة، وأنها ما زالت في مرحلة العطاء والقدرة على إدارة المشهد السياسي.
- لن يكون هناك انعكاس كبير على الحالة الفلسطينية الوطنية والعلاقات مع باقي التنظيمات الفلسطينية. ويجادل البعض أن هذه القرارات الأخيرة ستكرس مسارًا سياسيًا معينًا وثابتًا، وهذا بحد ذاته سيبقي الحالة الوطنية تراوح نفسها مستقبلًا.
د. أحمد جميل عزم، أستاذ جامعي، عضو المجلس المركزي الفلسطيني
يمكن الإشارة إلى أنّ التغييرات المتعلقة بكل من المحافظين، والسفراء، والمؤتمر العام لحركة “فتح”، جميعها تأتي متأخرة عن موعدها القانوني. والملاحظ أنّه رغم مرور أكثر من شهر على إعلان تقاعد المحافظين، لم يُعلن عن محافظين جدد (ومثل هذا البطء متوقع في الحقيقة)، ورغم الإعلان عن تعديل وزاري مرتقب، إلا أنّه لم يُنفّذ. وبرأيي، هناك احتمال ضعيف لانعقاد المؤتمر العام لفتح في الموعد المحدد، لصعوبة ترتيب المؤتمر في الوقت المتبقي.
يأتي الحراك الفتحاوي الأخير في إطار “إدارة الأزمة”، فبعد تصاعد المقاومة في الضفة الغربية، وما بدا من خروج بعض الأمور عن السيطرة، خصوصًا في جنين ونابلس، استدعت أولًا زيارة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى مخيم جنين، وثانيًا، تلبية الرغبة الكبيرة لدى شرائح شعبية، وحتى ضمن دوائر رسمية، وأطراف إقليمية، بالقيام بتغيير ما، وكان الأسهل الحديث عن تغييرات في الوظائف العليا.
لا بد من الإشارة إلى أن من سمات عهد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، البطء الشديد، والتحفظ، في التجديد والتغيير. وقد ساعد الانقسام تغليب كفّة القوى المحافظة التي لا ترغب بتغيير جدي. فقد انعقد المجلس الوطني الفلسطيني عام 2018، ثم انعقدت ثلاث دورات للمجلس المركزي، لكن أثرها على السياسات العامة، والموقف السياسي محدود، والهدف الحقيقي لهذه المؤتمرات والدورات هو ملء فراغات في مواقع قيادية، وهذا ينطبق على القرارات والإعلانات الأخيرة، فالمؤتمر العام الثامن لحركة “فتح” سواء عقد أم لم يعقد، لا يهدف لتغيير سياسي، بقدر ما هو محاولة التعامل مع استحقاقات روتينية داخلية متأخرة. ولا تسعى هذه التغييرات إلى الوصول لانتخابات تشريعية، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني. فالقيادة تسعى للحفاظ على التركيبة الداخلية وليس التغيير. فقرارات السلطة، والمنظمة، تتخذ ضمن دائرة صغيرة مغلقة، وحتى لو اتخذت قرارات من هيئات مثل المؤتمر العام، فإنّ عملية تنفيذها تبقى بيد الرئيس، والحلقة التي يختارها، ربما يأتي التغيير لطمأنة أطراف إقليمية أن هناك نوعًا من الترتيب يجري للمرحلة المقبلة، وهو أمر قد يهم أيضًا شريحة داخل دوائر السلطة والأجهزة الأمنية، لكن لا يوجد أي مؤشر أن هذه التغييرات ترتبط بتغيرات سياسية. وسيبقى الجمود “الستاتسكو” هو الخيار الرسمي.
أ. هاني المصري، رئيس المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات
أعتقد أن هذه القرارات مرتبطة بالتغيرات الحاصلة، سواء في المشهد الفلسطيني أو الإسرائيلي والإقليمي والدولي، وأيضًا وهو الأهم، التغيرات المتوقع حدوثها. إذ تسعى السلطة الفلسطينية لتأهيل نفسها استعدادًا لما سيأتي في محاولة الحصول على مكان في الخارطة السياسية التي يجري رسمها في المنطقة وفي العالم. فالسلطة الفلسطينية مطلوب منها أن تؤدي وظيفتها الأمنية، خاصة في ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية في الضفة وشمالها تحديدًا. وفي المقابل هناك احتمالات لحدوث تطبيع سعودي إسرائيلي يتطلب من السلطة أن تكون قادرة على المشاركة في مجرياته وإعطاء غطاء له. فبدون موافقة فلسطينية سيكون من الصعب على السعودية أن تقدم على هذا التطبيع. وهذا يأتي في ظل مساعٍ غربية وعربية لخلق مسار التطبيع في موازاة العمل على إيجاد أفق سياسي، وذلك في محاولة للإيهام بأن حل الدولتين ما يزال حيًّا. ولكن، في الحقيقة، إن أي مسار سياسي لا يبنى على أساس واضح وقاطع، ويهدف إلى إنهاء الاحتلال، وتحقيق الدولة الفلسطينية، وبقية حقوق الشعب الفلسطيني، سيكون مجرد تغطية على مسار التطبيع لا أكثر.
أما تأثير هذه القرارات داخل فتح، خاصة إذا عقد المؤتمر الثامن، فإن من شأنها أن تقدم صورة جديدة لفتح، بحيث تغيب فيها فتح القديمة ويحل محلها فتح الحكم الذاتي وفتح السلطة وفتح الموظفين، وليس فتح ممثلة ورائدة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. هذا ما تشير إليه المعطيات في وقتنا الحالي؛ إذ إنها لا تدعو للتفاؤل، ولكن إذا حدثت تغيرات غير متوقعة قد تؤدي إلى تصحيح المسار الحالي، وعودة فتح إلى ألقها ومكانتها.
وبالتالي أعتقد أن هذه الترتيبات ستزيد الأمور تأزّمًا في الوضع الداخلي الفلسطيني؛ لأنها تعيد إنتاج مسار سياسي معين، رغم ثبات فشله، وتبعد التركيز على الوحدة الوطنية، وهذا ما سيعمق الانقسام، ويزيد من التشرذم الداخلي، والمخاطر التي تهدد الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية والقوى الفلسطينية.
د. عماد بشتاوي، أستاذ العلوم السياسية، جامعة الخليل
باعتقادي أن ما يجري داخل حركة فتح مرتبط بحالة وطنية عامة، فحركة فتح هي المكون الأساسي للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير والحكومة الفلسطينية، وهي تسيطر عليها بغض النظر عن طبيعة هذه التشكيلات. لكن الرئيس محمود عباس هو رئيس حركة فتح ورئيس السلطة، والحكومة هي حكومة الرئيس عباس، ويرأسها محمد اشتيه الذي هو أيضًا مرشح الحركة، وبالتالي ما يتم الترتيب له الآن سينعكس بطبيعة الحال على مستقبل الحالة الوطنية وصناعة القرار. أما في دلالات التوقيت، فإن حركة فتح بحاجة إلى تجديد الدماء وإعادة ترتيب أوراقها، ضمن مجموعة من المتغيرات أبرزها الوضع الأمني داخل الضفة، وترتيبات الانتقال السلس للسلطة في مرحلة ما بعد الرئيس عباس، فهناك ما يمكن أن نسميه تنافسًا خفيًّا بين خلفاء محتملين للرئيس عباس، وبالتالي قد ترسم هذه الترتيبات المشهد المستقبلي.
أما فيما يتعلق بالانعكاسات داخل حركة فتح نفسها، فالمؤشرات حتى الآن تدلل على أن هناك حالة من التناغم والانسجام ما بين الأقاليم والقيادة حول جميع هذه الخطوات، واستمرار حالة الانسجام تعتمد على نتائج المؤتمر الثامن لحركة فتح، فيستمر الانسجام إذا تحققت مصالح الأطراف الفاعلة داخل الحركة، وإلا فإننا سنشهد صراعًا بين أقطابها.
فيما يتعلق بانعكاس القرارات الأخيرة على الحالة الفلسطينية الداخلية، فأعتقد أن الأمر يتعدى البعد الشخصي، بمعنى أن هناك مجموعة مصالح للقوى المرتبطة بحركة فتح بالضفة، والمرتبطة بحركة حماس بغزة، وكل من هذه القوى معنية بالإبقاء على الوضع الحالي من الانقسام المستمر منذ 17 عامًا، وبالتالي فإنّ القرارات والإجراءات الأخيرة لن يكون لها دور كبير في التأثير على الحالة الداخلية الفلسطينية.
أ. عصمت منصور، باحث وكاتب ومحلل سياسي
القرارات الأخيرة التي طالت المحافظين والوزارات وقيادة الأمن والسفراء والتحضير للمؤتمر الثامن، يدلل على أننا مقبلون على مرحلة جديدة تعاد فيها صياغة وهندسة الحالة الداخلية، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس ربما يريد إصلاح البيت الفتحاوي الداخلي بما يضمن له استمرارية القدرة على إدارة قيادة السلطة وحركة فتح للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشغل أبو مازن وحده، بل يشغل دول الإقليم والولايات المتحدة وإسرائيل. وهذا لا يمكن أن نأخذه بمعزل عن كل التداخلات ومصالح جميع الأطراف في استقرار السلطة الفلسطينية، وعدم تعرضها لهزات أو انهيارات داخلية، أو صراعات قوية، أو انتقالها لنهج مختلف يدخل في صدام مع هذه القوى، أو الدخول بتحالفات مع قوى معادية لتوجهات الدول الكبرى بالمنطقة. ولهذا يمكن القول إن هذا الحراك الداخلي لا يمكن أن نعزله عما يجري من حراك في المنطقة، وبالتالي تسير هذه السلطة وفقًا لمعايير تتواءم والمتطلبات الحالية، بمعنى إعادة ضخ الروح فيها، وجعلها تستعيد نشاطها، ولا تتعرض لحالة من الهرم، حتى تكون قادرة على الاستمرارية، ففي الآونة الأخيرة تراجعت صورة السلطة بسبب سوء إدارة الشأن العام والفساد وغيره، وهذا قد يدفع بأن تعتمد السلطة في المرحلة القادمة على التكنوقراط والأكاديميين دون الخروج عن النهج السياسي الحالي.
أما في انعكاسات هذه التحركات على العلاقة بين القيادة والقاعدة، فهذا جوهر النقاشات التي تجري دومًا مع قيادات فتح، فتحقيق الأهداف التي يسعى اليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس من خلال المؤتمر الثامن والقرارات الأخيرة مرتبطة بمدى استمراره في السلطة، فبقاء عباس لفترة أطول في قيادة فتح والسلطة بعد المؤتمر الثامن، يمكن أن يؤمن تحقيق الأهداف التي يطمح اليها وخاصة تخفيف حدة الصراع بين أقطاب الحركة، لكن إن لم يستمر نتيجة الظروف الصحية وغيرها، قد يعجل في تصاعدية حالة الصراع الداخلي، وعدم تمكين الأجيال الجديدة داخل الحركة والسلطة.
لن يساهم الحراك الفتحاوي الأخير في تحسين العلاقة الوطنية الفلسطينية، وذلك بسبب تجذر الانقسام وتبعاته، فحركتا حماس وفتح تكيفتا على إدارة الانقسام فيما بينهما، وهناك أطراف داخل الحركتين تعمل على استمرارية الانقسام. إلا إذا تبع القرارات الأخيرة إجراء انتخابات عامة، حينها يمكن أن نتحدث عن إمكانية أن يكون هناك تأثير ملموس أكثر إيجابًا أو سلبًا على فتح نفسها، أو على وزنها بالنسبة لباقي الفصائل.
أ. نزار نزال، باحث ومحلل سياسي في قضايا الصراع
لا شك أن الحراك الأخير داخل أروقه السلطة وحركة فتح بالتحديد جاء لكسر حاله الجمود، وإظهار ذلك للشارع الفلسطيني، وهناك عدة أسباب للقرارات الأخيرة، أولا: جاء التوقيت بعد نقد المجتمع الدولي لحالة التكلس التي تعيشها المواقع القيادية داخل مؤسسات السلطة. والثاني: هناك أخطاء كثيرة حصلت من قبل المحافظين. فقد كان ينبغي على مؤسسة الرئاسة تدارك الواقع غير المرضي، وتصحيح هذه الحالة من خلال ضخ دماء جديدة. ثالثا: مضى وقت طويل على عدم التغييرات في السفارات ومكاتب الحافظين، الأمر الذي أدى إلى ترهل كبير. أما السبب الرابع فمرتبط بالحالة الأمنية وخروج الأمور عن السيطرة وتحديدًا في جنين ونابلس.
كما أن هذه القرارات جاءت بعد قمة العلمين في مصر بين السلطة ممثلة بالرئيس عباس، ومصر والأردن، ومندوب سعودي كان مغيّبًا عن الإعلام، وجاءت هذه القرارات بعد الحديث عن انضمام المملكة العربية السعودية إلى قطار التطبيع. وكانت مطالب الحاضرين تتلخص في ستة أمور؛ الأول: ضخ دماء جديدة في تمثيل الرئاسة في المحافظات (تغيير المحافظين)، والثاني: إدخال تغييرات على منظومه القضاء. والثالث: تقليص وضخ دماء جديدة في مؤسسات السلك الدبلوماسي. والرابع: تجديد شرعيات مؤسسات حركه فتح من خلال عقد مؤتمرها الثامن في ديسمبر المقبل. والخامس: تعديل حكومي أو تشكيل حكومة جديدة، ومنح مزيد من الصلاحيات للحكومة الجديدة. والسادس: تغييرات جوهرية في المؤسسات الأمنية، وضبط الحالة الأمنية، وما يجري في جنين هو إفراز حقيقي لهذه النقطة تحديدًا.
الخطوات الأخيرة التي قامت بها القيادة الفلسطينية ستعزز بالتأكيد العلاقة ما بين كل مستويات حركة فتح، وباعتقادي ما جرى سيعزز الثقة ما بين القاعدة والمستوى القيادي، كما أن هذه القرارات ستفرز وجوهًا كانت مغيبة في الماضي، الأمر الذي سينعكس على أداء الأقاليم. أما فيما يتعلق بتحسين العلاقات الوطنية الفلسطينية، فأعتقد أنّ الخطوة لن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ؛ لأنّ غالبية الفصائل تختلف مع حركه فتح، والفجوة أصبحت كبيرة والشرخ يصعب ردمه، بمعنى أن الخطوة الحالية هي ضمن ترتيب أوراق حركة فتح فقط، ولا أعتقد أن الفصائل الأخرى سيتغير موقفها من الحركة.
د. عمر رحال، أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس”
أي عملية تغيير على شكل وطبيعة النظام السياسي الفلسطيني أو أحد مكوناته الأساسية، تكون مرتبطة في الأساس بتوجهات حركة فتح، أولًا كحركة تحرر وطني، وثانيًا باعتبارها الفصيل الأكبر والأكثر جماهيرية في أوساط الشعب الفلسطيني، وثالثاً بما تمثله حركة فتح للسلطة، باعتبارها المكون الأساسي لها. نستطيع القول إن حركة فتح تكاد أن تكون التنظيم الوحيد من التنظيمات الفلسطينية الذي يعقد مؤتمراته الحركية بشكل مستمر، ولكن بشكل غير منتظم، كما أن مؤسسات الحركة التنظيمية تعقد اجتماعاتها باستمرار وبشكل دوري، خاصة اللجنة المركزية والمجلس الثوري، والمجلس الاستشاري.
ومع ذلك وبقراءة الخطابات، تنفي دومًا حركة فتح أنها حزب السلطة أو الحزب الحاكم، ولا تريد أن توسم بذلك، ونظريًا، فإنها على الأقل تحاول النأي بنفسها عن السلطة، وعن إخفاقاتها على وجه التحديد. أما على مستوى الممارسات، فالحركة هي الرافد الأساسي للسلطة بشقيها المدني والأمني، بل إن الجهاز البيروقراطي للسلطة أسس من خلال قيادات وكوادر وعناصر الحركة. وبالتالي لا يمكن أن نتصور أي عملية تجديد أو إصلاح دون أن يكون مرتبطًا بحركة فتح وتوجهاتها. لذلك من الناحية الفعلية فهي (الحزب الحاكم)، كما أنها تهيمن على المشهد السياسي، وعلى القرار الرسمي الفلسطيني. لذلك من الطبيعي أن يكون هناك مثل هذه القرارات.
لذلك قُرأتْ إقالة غالبية المحافظين إلى التقاعد من زوايا مختلفة، لعل أبرزها أن بعض المحافظين تجاوز وجودهم في المنصب أكثر من أربعة عشر عامًا، وبعضهم تجاوز الخامسة والسبعين من عمره، وآخرين أثاروا ردود فعلٍ في محافظاتهم بسبب تصريحات لهم فسرت على أنها (إساءة) للبعض، الأمر الذي أدى إلى تعميق الفجوة بين المواطنين ونظامهم السياسي، وآخرين لم يُخفوا مواقفهم السلبية تجاه مؤسسات المجتمع المدني. أما بالنسبة للسفراء فقد أحدثت بعض تصريحات بعضهم استياءً في أوساط المواطنين الفلسطينيين، هذا إلى جانب أن بعض السفراء تجاوز سن التقاعد، والبعض الآخر تجاوز وجوده في المنصب أكثر بكثير مما يسمح به قانون السلك الدبلوماسي رقم (13) لسنة 2005.
وبصرف النظر إذا ما كان القرار الذي اتخذ من قبل الرئيس أبو مازن، يصب في خانة الإصلاح الإداري في المرفق العام، أو أنه توجه من قبل الرئيس لضخ دماء جديدة في الإدارة العامة، أو أنه (هندسة) داخلية كاستجابة للمرحلة القادمة، ولكن غاب عن البعض أن القرار قد يكون استنادًا لتوصيات تقرير اللجنة الوطنية للإصلاح الإداري التي شكلها الرئيس بتاريخ 18/10/2021، والتي أراد من وراء تشكيلها الخروج بمجموعة من النتائج والتوصيات التي من شأنها أن تجعل من المرفق العام مرفقًا نزيهًا شفافًا رشيقًا مستجيبًا ذا أداءٍ فعّال، وخدمات تقدم للمواطنين بالجودة المطلوبة.
نظرًا لكون الحركة هي الفصيل الأكبر والأبرز على الساحة الفلسطينية، فهي بحاجة إلى عقد وتنظيم مصالحات داخلية، إلى جانب فتح حوار جدي بين أطر الحركة المختلفة، وخاصة قطاع الشباب، وتقوية العلاقة ما بين القيادة والقاعدة التنظيمية لها الممثلة بالجيل الشاب، وضرورة ضخ دماء جديدة في المواقع القيادية في الحركة من جيل الشباب، وضخ دماء جديدة من الجيل الشاب للحركة في المواقع القيادية في السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها المدنية والعسكرية، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على الحركة، ويحدث نوعًا من التقارب ما بين قيادة الحركة وقاعدتها التنظيمية، إذ إن الكثير من كوادر الحركة يعتبرون أنفسهم مهمشين ومستهدفين، وهناك حالة من الإقصاء والاستبعاد لهم من مواقع هامة في الحركة والسلطة الوطنية الفلسطينية حسب وجهة نظرهم، لذلك فإن الاستفادة من هذه الخبرات تنعكس إيجابًا على الأداء العام، وتعزز العلاقة بين القيادة والقاعدة.
أما ما يتعلق بالانعكاس على الحالة الوطنية، فأعتقد أن هذه الترتيبات سوف يكون لها انعكاسًا إيجابيًا على العلاقات الفلسطينية الداخلية، وخاصة مع الفصائل والأحزاب الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني التي لطالما تنادي بالتغيير، وإجراء إصلاحات داخلية، وضخ دماء جديدة في المؤسسات الفلسطينية ومراكز صنع القرار.
وفي ظني أن السلطة ومعها حركة فتح هي بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتعزيز العلاقات الوطنية، وإلى وجود شراكة سياسية حقيقية بين القوى الفلسطينية، والاتفاق على حد أدنى لبرنامج إجماع وطني، وإلى فتح حوار مع مؤسسات المجتمع المدني، والمفكرين، والخبراء، والأكاديميين، والشخصيات الوطنية، ومع مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني، وذلك من أجل تعزيز الوضع الداخلي الفلسطيني، لمواجهة السياسة الإسرائيلية التي تتنكر للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
من الجانب الآخر، واضح أن هناك حراكًا إقليميًا يتعلق بترتيبات إقليمية في المنطقة عنوانها القضية الفلسطينية، سواء ما يتعلق في إحياء عملية السلام المتوقفة منذ سنوات، أو فيما يتعلق بتطبيع جديد بين بعض الدول العربية و(إسرائيل). في الحقيقة إن الدول العربية والمجتمع الدولي غير معنيين كثيرًا بالوضع الداخلي الفلسطيني، أو بإحداث تغييرات جوهرية في شكل وطبيعة النظام السياسي الفلسطيني في هذه المرحلة، نظرًا لتزاحم الملفات الدولية والإقليمية الحساسة والطارئة مثل الحرب الروسية الأوكرانية على الصعيد الدولي، والملف السوري واليمن على الصعيد الإقليمي، والمجتمع الدولي غير معني كثيرًا بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية، ولم يستطع الضغط على إسرائيل كدولة قائمة بالاحتلال لإجبارها على السماح بإجراء الانتخابات في القدس.
لن تستطيع السلطة الوطنية الفلسطينية بمفردها، في ظل الأوضاع الداخلية الفلسطينية، أن تقرر الدور الذي ستقوم به في المستقبل، فهناك قوى إقليمية ودولية مؤثرة، لها دور فاعل في تحديد الدور الذي يجب أن تقوم به السلطة الوطنية الفلسطينية، لذلك فإن استمرار بقاء السلطة ودورها مرهون بما تفرضه القوى الإقليمية والدولية.