الحالة النضالية في جنين.. عوامل النهوض والاستمرارية

سليمان بشارات[1]

شكل الاجتياح “الإسرائيلي” لمخيم جنين في أبريل/نيسان 2002، ضمن ما أطلق عليها عملية “السور الواقي“، محاولة إخضاع لواحدة من أبرز أماكن النضال والمقاومة الفلسطينية بالضفة الغربية؛ بما تحتويه من رمزيات متعددة، ليعود المخيم ومدينة جنين ليتصدرا مشهد الحالة النضالية في الضفة الغربية ويتحولا إلى ما يشبه الرمزية البطولية، بعد عشرين عاماً من ذات الحدث.

شكلت خريطة صعود العمل المقاوم مجدداً ضد الاحتلال؛ سواء من خلال التصدي للاقتحامات والاجتياحات لمخيم جنين، أو من خلال العمليات النوعية داخل الكيان “الإسرائيلي” التي انطلق منفذوها إما من المخيم ذاته أو من قرى محافظة جنين، نموذجًا جعل الكثير من المراقبين يتساءلون، هل كانت هذه الحالة النضالية لجنين ومخيمها هي حالة استثنائية مرتبطة بظروف زمانية وعوامل معينة؟ أم أنها امتداد لصفة ستبقى ملازمة لجنين ومخيمها مهما تغيرت المحطات والظروف؟

حالة الربط النضالي

سعت “إسرائيل” في أعقاب عملية السور الواقي إلى تنفيذ عمليات اقتحام واعتقال شبه يومية في المدن والمحافظات الفلسطينية كافة، والإطاحة بمفهوم السيادة للسلطة الفلسطينية على المناطق التي عرفت بمناطق “أ” وفقا لاتفاقيات أوسلو، وكانت غالبية هذه الاقتحامات تنتهي ببعض المواجهات مثل الرشق بالحجارة والزجاجات الحارقة، وفي أحيان أخرى لا تواجه بأي تحركات شعبية، إلا أن مخيم جنين ربما يعدُّ المكان الوحيد الذي حاول الحفاظ على الحد الأدنى من المواجهة.

لم يغب حضور القيادات التقليدية للمقاومة في جنين ومخيمها عن الحالة الوطنية والنضالية، وهي ربما كانت بمثابة الخيط الذي بقي على حالة الربط النضالي بين ماضي المخيم وحاضره، فعائلة الأسير القيادي في حركة حماس جمال أبو الهيجا، كانت واحدة من هذه الرموز حيث استشهد ابنها حمزه بعد مطاردة ثم اشتباك مع جنود الاحتلال، أمّا زكريا الزبيدي القيادي في كتائب شهداء الأقصى وعضو المجلس الثوري لحركة فتح؛ فكان واحدًا من بين رموز المخيم، وعلى الرغم من صدور عفو من الاحتلال عنه؛ إلا أنه عاد للعمل المقاوم ليعتقل في رام الله، وحظي كذلك بالحضور الرمزي القياديان في حركة الجهاد بسام السعدي وخضر عدنان.

تعد هذه الرمزية إحدى عوامل امتداد روح المقاومة لجيل الشباب، فالشهيد أحمد جرار بعمليته النوعية ثم استشهاده؛ شكل نقطة فارقة في الجيل الحديث، ثم جاء الشهيد ضياء حمارشة بعمليته في “تل أبيب”، ومن ثم عملية الشهيد رعد حازم في شارع “ديزنغوف”، كلها عملت على تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه الاستمرارية النضالية وترابط الجيل المقاوم.

محددات رافعة

يمكن فهم استمرارية المشهد النضالي في جنين ومخيمها انطلاقًا من عدة محددات، تتمثل في:

  • الحاضنة الشعبية والإرث المقاوم: تشير المحطات التاريخية إلى أن مدينة جنين ارتبط اسمها برفض أي وصاية أو احتلال، فمنذ عام 1799، ضحى أهالي المدينة ببساتين الزيتون التي يمتلكونها وأحرقوها، حتى لا يسمحوا للقوات الفرنسية بالوصول إليها، وكذلك الحال بعد رفض استسلامها للاحتلال البريطاني عقب الحرب العالمية الأولى 1918، ثم تحولت جنين إلى حاضنة لثورة القسام وقائدها الذي استشهد على أراضيها 1935، وامتد الحال إلى الاحتلال “الإسرائيلي” في الانتفاضتين الأولى والثانية وصولًا إلى الآن.

ارتبط هذا الإرث بالحاضنة الشعبية التي حاول الاحتلال معاقبتها عليه؛ بالإغلاقات وسحب التصاريح والتضييق على تجارها دون أن يجدي ذلك نفعًا، وهي ذات الحاضنة التي احتضنت معركة جنين خلال عملية السور الواقي؛ رغم هدم جرافات الاحتلال لعشرات المنازل وتسويتها بالأرض، ورفضت العائلات ذاتها النزوح عن المخيم إلى المناطق البديلة التي حاول الاحتلال إقامتها لهم على أطرافه؛ ما خلق حالة وعي جمعي لسكان المخيم، تتناقلها الأجيال تباعا وكأنها موروث ثقافي تاريخي مستمر.

  • انصهار الهُوية المقاومة: تجربة المقاومة في مخيم جنين منذ عملية الاجتياح التي تعرض لها في عام 2002، اتسمت بمفهوم انصهار الهوية المقاومة، وعلى الرغم من حدوث حالة الانقسام السياسي الفلسطيني وتداعياته الميدانية، إلا أن جنين ومخيمها بشكل خاص حافظا على نسيج المقاومة، وهذا قد يكون نتاج حفظ الود الوطني بين التنظيمات، أو حتى أبناء المخيم نفسهم الذين قدموا المصلحة الوطنية والهوية المقاومة على الهوية الحزبية والتنظيمية، وقد تكون هذه من الحالات الفريدة في الضفة الغربية التي يعمل فيها المتنافسون تنظيمًا بشكل تنسيقي ميدانيًا؛ ما شكل من المخيم مكانًا رمزيًا ومصدراً للإلهام.
  • نفق جلبوع وإحياء الغرفة المشتركة: شكلت حادثة نفق سجن جلبوع، وتَمكُن 6 من الأسرى الفلسطينيين وجميعهم من محافظة جنين، نقطة فارقة في مكانة جنين ومخيمها، وباتت الأنظار تتجه نحو المخيم، وإمكانية أن يكون الحاضنة لهم في حال قدرتهم على الوصول إليه، هذه الحادثة كانت بمثابة الإعلان عن إعادة تفعيل الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في مخيم جنين، وهي الغرفة التي تضم كل التنظيمات المسلحة في المخيم، والتي كانت تعمل فيه إبان الاجتياح “الإسرائيلي” عام 2002، وتطور الأمر تباعًا من مجرد استعراض إلى تطبيق فعلي على الأرض، ترجم من خلال الظهور الواضح في الاشتباكات بوجه الاقتحامات “الإسرائيلية” للمخيم، وفي هذا الإطار يشير القيادي في فتح والنائب السابق في المجلس التشريعي جمال حويل إلى أن عملية جلبوع كرست ثقافة تحمل اسم الوحدة الوطنية، وعليها تتأسس حالة المقاومة والمواجهة في مخيم جنين.
  • سيف القدس ونموذج غزة: نشر الكاتب “إليور ليفي” مقالا في أكتوبر2021، في صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية، يتحدث فيه عن مدينة جنين، ويصفها بأنها “غزة المُصغرة”، ويحاول صياغة مقارنة بينهما لا سيما إن كان تفعيل الغرفة المشتركة في مخيم جنين والسلوك المقاوم فيها، سيجعلها تسير على خطى قطاع غزة في تنامي مفهوم العمل المقاوم، هذه المقالة تتلاقى مع قراءات متعددة يقدمها الخبراء والمراقبون في أن معركة سيف القدس امتد تأثيرها إلى الضفة الغربية وبشكل خاص إلى جنين، حيث دفعت باتجاهين؛ الأول وهو إمكانية تعزيز العمل المقاوم وفق النموذج الشعبي التنظيمي الدامج بينهما، والثاني أن فصائل المقاومة في غزة باتت تشكل غطاء للمقاومة في الضفة بشكل أكبر مما كان عليه سابقا، وهذا ربما تجسد في اعتبار المقاومة في غزة بأن والد الشهيد رعد حازم يمثل شخصية قيادية ويعدُّ أحد الخطوط الحمراء التي حذرت “إسرائيل” من المساس به واغتياله.
  • التمرد ورفض التطويع: شكل مخيم جنين حالة تمرد على سياسات السلطة الفلسطينية؛ حتى من أبناء تنظيم فتح أنفسهم الذين باتوا ضحية انقسامات تيارات فتح الداخلية، في المقابل عززت ممارسات السلطة من حالة التهميش لجنين المحافظة والمخيم في رفض الوصاية أو القبول بالسلطة الفلسطينية، كما هو الحال في باقي محافظات الضفة التي تحظى باهتمام أكبر من جنين، وهذا ما عزز من القيادة المحلية للمحافظة والمخيم، والبحث عن رؤية وهوية تكون مرجعيتها قيادات المخيم وليس السلطة الفلسطينية بمفهومها الإداري.

في المقابل باتت “إسرائيل” تدرك ومن خلال إعلامها أن أجهزة أمن السلطة الفلسطينية لا يمكن أن تثبت حضورها القوي في مخيم جنين، وبالتالي فإن “إسرائيل” تحاول بنفسها التعامل مع أي خطر مستقبلي قد يشكله المخيم من منظورها الأمني؛ فجعلته محل استهداف مباشر، وهذا الأمر انعكس أيضا على العمل الوطني الذي جعل المواجهة مع الاحتلال هي البوصلة له.

الخلاصة:

أثبتت محاولات بناء مفهوم “الفلسطيني الجديد” في الضفة الغربية فشلها، على الرغم من كونها سياسة حاولت العديد من الأطراف طرحها بهدف القبول بالاحتلال كأمر واقع، وهو ما يعني أن مرحلة ما في تاريخ الهوية النضالية الفلسطينية بالضفة، ربما تنطوي الآن انطلاقا من النموذج والرمزية التي باتت تتشكل من مخيم جنين، وعلى الرغم من أن محافظة جنين ومخيمها قد تكون مختلفة في نموذجها التركيبي والتكويني، إلا أنها قد تصبح ملهمة، أو تعيد بناء الفكر النضالي للجيل الشاب في الضفة، وهذا ما يخشاه الاحتلال بالطبع.

في ذات الإطار، يعدُّ وجود شخصيات قيادية مثل والد الشهيد رعد حازم وخطابه الوحدوي النضالي، تعزيزأ لعودة أيقونات المقاومة الملهمة، والتي بدورها أيضا تسهم في استمرارية حالة النضال، وتعزز من ظهور نماذج قيادية أخرى، تساهم في تحريك الشارع الفلسطيني، وما يمكن قوله في الختام، هو أن هناك تيارًا شعبويًا ربما بدأ بالتشكل انطلاقا من جنين، وقد يمتد لباقي الضفة الغربية في ظل استمرار سياسات الاحتلال “الإسرائيلي” من جانب، ومن جانب آخر توفير الغطاء الوطني للمقاومة من غزة، وتعزيز حضور الخطاب الشمولي بعيدًا عن الحالة الحزبية، في مقابل بدء تراجع ثقة المواطنين بالسلطة الفلسطينية، وقدرتها على تقديم إدارة سليمة لملفات القضية الفلسطينية بمختلف جوانبها.

 

[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى