التكلفة الاقتصاديّة للحرب على فلسطينيّي الداخل

لا يمكن النظر للحالة الاقتصادية لفلسطينيّي الداخل بعد السابع من أكتوبر، بوصفها استجابة ظرفيّة لحرب طارئة، إنّما هي امتداد لبنية من الهيمنة استمرت منذ عام 1967، أعادت تشكيل الاقتصاد الفلسطيني ضمن منطق السيطرة الاستعمارية. تعاملت المؤسسة الإسرائيلية مع الفلسطينيّين كخطر ديموغرافي يجب إدارته أمنيًا، وتم استبعادهم من دوائر صنع القرار والمشاريع الاقتصادية، بوصف ذلك إجراءً وقائيًّا لضبط وجودهم.

شكّل المناخ القانوني والسياسي بعد السابع من أكتوبر، حلقة أساسية في تضييق الحضور العام للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، حيث استُخدمت قوانين الطوارئ والاعتقال الإداري وإغلاق الجمعيات الأهلية، لتقييد الفضاء المدني، وجرى توسيع المتابعة الأمنية للسجناء بهدف توظيف قضاياهم كورقة ضغط في ملف تبادل الأسرى. كما امتدّ الضغط إلى المؤسسات الأكاديمية، وتم تسجيل حالات استهداف مباشر لطلبة ومحاضرين، بسبب تعليقات شخصية أو منشورات على وسائل التواصل.

وتجلّى أثر ذلك في الحياة اليومية، حيث ساد شعور عام بالضبابية والتردد في إعلان المواقف، وتراجع النشاط السياسي المنظّم، فلجأ كثير من الناس إلى الانكفاء نحو الأطر العائلية الضيّقة، وإدارة شؤونهم بمعزل عن الفضاء العام، الذي لم يعد يُنظر إليه كمجال آمن للتفاعل. وقد كانت هذه المؤشرات مقدّمة واضحة لتحولات لاحقة مسّت الجانبين الاجتماعي والاقتصادي معًا، وتهيئة لمرحلة شهدت تراجعًا ملحوظًا في فرص العمل، وتقلّصًا في الحركة التجارية، وتغيرًا في أنماط الإنفاق والتعامل داخل السوق.

وبناءً عليه، فإنّ آليات الإقصاء لا تتّخذ شكل العزل الاقتصادي فقط، بل تُدار عبر تصنيف الفلسطينيين باعتبارهم “أعداء محتملين“، وترسم حدود المشاركة الاقتصادية لهم في الداخل، إذ بات الاندماج في السوق مشروطًا بمواقف سياسية واجتماعية، ليس فقط بالقدرة المهنية أو مستوى الخبرة. وقد أدى هذا المنطق إلى إنتاج اقتصاد تخضع فيه الموارد وسوق العمل وآليات التشغيل، إلى منظور أمني يسبق الاعتبارات الاقتصادية. وبالمحصلة، أدّى إلى تراجع فرص العمل، وتقلّص الاستثمار، وتباطؤ النشاط التجاري، إضافة إلى قطع الروابط التاريخية مع أسواق الضفة الغربية، وهو ما ستوضحه هذه الورقة تباعًا.

أولًا: انكشاف حدود الاقتصاد الإثني في الداخل الفلسطيني

شكّلت الحرب على قطاع غزة نقطة تحول كشفت مكانة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وأعادت صياغة علاقتهم بالمجال العام والاقتصاد المحلّي. فمع بداية أحداث السابع من أكتوبر، بدأت تظهر ممارسات رسمية واجتماعية تعمل على تقليص حضور الفلسطينيين في المجتمع، وتحديد حدود المشاركة المقبولة منهم سياسيًا واقتصاديًا.

هذا النموذج يضع الفلسطينيين داخل ما يمكن وصفه بـ “الاقتصاد الإثني“،  أي اقتصاد تُدمج فيه الأقليّة الفلسطينية داخل السوق بوصفها مجموعة إثنية تابعة، يُحدد الكيان المهيمن أدوارها الاقتصادية في نطاق محدود ومنخفض القيمة، ويُبقيها في موقع هامشي يخدم البنية المهيمنة التي تستفيد من قوة عمل هذه المجموعة ومواردها دون أن تمنحها حقوقها الاقتصادية أو توفر لها حماية اجتماعية؛ ما يجعل مشاركتها الاقتصادية شكلًا من أشكال التبعية داخل منظومة الاستعمار. فالاقتصاد هنا يتحوّل إلى وسيلة للتمييز بين السكان، وتنظيمهم وفق طبقات؛ منها ما يُسمح له بالتقدم، ومنها ما يُحصر في مستوى منخفض من الدخل والمكانة. وبهذا المعنى، يصبح الإقصاء الاقتصادي أسلوبًا لترسيخ الفوارق، ويُبقي التفاوت قائمًا من جيل إلى آخر.

في الوقت نفسه، بدأت تتشكل استجابة شعبية من الجانب اليهودي تأثرت بأجواء الحرب، تمثّلت في الابتعاد عن البلدات العربية، وتجنّب التسوق منها. واتخذ هذا السلوك شكلًا سريعًا ومنظمًا، حتى دون إصدار أوامر رسمية بذلك، ما أدى إلى توقف شبه كامل في الحركة التجارية الداخلية. فقد تكرّر نمط اعتاده المجتمع الإسرائيلي في فترات الأزمات، فكلما ارتفع التوتر الأمني، انخفض مستوى التفاعل الاقتصادي بين الطرفين، وتضاءلت مستويات الاختلاط في السوق. ونتيجة لهذا، تحولت المتاجر الفلسطينية إلى أسواق شبه جامدة خلال الأسابيع الأولى من الحرب.

ثانيًا: السياسات المالية بعد الحرب

استغلت حكومة الاحتلال ظرف الحرب لإعادة توجيه الميزانيات بطريقة كشفت حدود المشاركة الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل. فقد خُصّص مبلغ 55 مليار شيكل إضافي لوزارة الأمن القومي، في حين جرى تقليص الخطط الموجهة لتحسين مستوى المعيشة في المجتمع العربي بنسبة 15%. كما أُلغيت ميزانيات كان يفترض أن تُمنح للسلطات المحلية العربية حتى عام 2026 بقيمة 600 مليون شيكل، وهو ما يُضعف إمكان تطوير الخدمات الأساسية، وضمان مستوى معيشي مقبول للسكان.

وتظهر محدودية المشاركة الاقتصادية للفلسطينيين بوضوح في بيانات وزارة العمل لعام 2024، إذ حصلوا على 12.4% فقط من الميزانية، رغم أنهم يشكلون نحو خُمس السكان (2.1 مليون نسمة، 21% من التعداد العام). وهو معدل لا يتناسب مع الاحتياجات الفعلية، ولا مع واقع سوق العمل الذي يشهد معدلات مرتفعة من البطالة بين الشباب العرب، بلغت 29%، إضافة إلى مشاركة نسائية متدنّية لم تتجاوز 45% في مختلف الأعمار.

في ميزانية 2025، استمر التوجه ذاته، واقتُطِع نحو 2 مليار شيكل إضافية من مخصصات التربية، والاقتصاد، والمواصلات، والبناء والإسكان، والرفاه الاجتماعي، فضلًا عن المشاريع التي كان من المفترض أن تساعد الشباب الباحثين عن عمل وتطور مهاراتهم. ما يعني تحميل الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، العبء الأكبر من تداعيات الحرب وسياسات التقشف.

ثالثًا: واقع سوق العمل

تظهر بيانات عام 2022، أي ما قبل الحرب، أن تمثيل الفلسطينيين يتركّز في قطاعات منخفضة المهارة والأجر، بينما يغيب حضورهم عن القطاعات ذات الدخل المرتفع. فالرجال العرب يعملون بنسب مرتفعة في البناء (17%) والنقل (14%) والتجارة (قرابة 13%)، وهي قطاعات تتميز بضعف الحماية الوظيفية وارتفاع قابلية الاستبدال. وينطبق النمط نفسه على النساء، إذ تتركز النساء العربيات في التعليم (34%) والصحة والرعاية (22%). بينما في قطاع الهايتك، الأعلى أجرًا والأكثر جذبًا للاستثمار، يشكل العرب 3% فقط من العاملين الذكور و1% من الإناث. وبالتالي، هذا التوزيع القطاعي هو جزء من نمط مؤسسي طويل الأمد يُهمّش وصول العرب إلى قطاعات القيمة المضافة العالية، ويضعهم على أطراف الاقتصاد، ويقيّد قدرتهم على الحراك المهني والطبقي حتى قبل دخول الحرب كعامل ضاغط إضافي.

أدّت الحرب إلى خلق مناخ عزّز الممارسات العنصرية والإقصائية داخل سوق العمل، خاصة في القطاعات التي يقوم عليها تشغيل الفلسطينيين في الداخل، مثل الخدمات، والتجارة، والنقل. ومع تصاعد الخطاب المعادي للعرب، تعرض العديد من العمال لمضايقات وتهديدات مباشرة، ما دفع نسبة كبيرة منهم إلى ترك وظائفهم، أو الانقطاع المؤقت عن العمل، بدافع الخوف أو الشعور بعدم الأمان. وبهذا، لم يتراجع التشغيل بفعل العامل الاقتصادي وحده، وإنما بفعل بيئة جعلت مكان العمل نفسه مساحة غير آمنة.

إذ ساد شعور عام بالخوف وعدم اليقين في صفوف الفلسطينيين، وانعكس ذلك مباشرة على توجههم إلى أماكن العمل. وقد أظهر مسح أجراه المنتدى الاقتصادي العربي، أن القلق من الذهاب إلى العمل كان مرتفعًا، خصوصًا لدى النساء العاملات في أماكن مختلطة مع اليهود، وهو ما يشير إلى أن بيئة العمل ذاتها أصبحت موضع توتر.

فيما تكشف بيانات عام 2024 عن أرقام مغايرة، فبينما انخفض متوسط ساعات العمل الأسبوعية للرجال اليهود منذ اندلاع الحرب، ظل عدد ساعات عمل الرجال العرب ثابتًا كما كان عليه قبل الحرب (39 ساعة أسبوعيًا). فيما ارتفع متوسط ساعات العمل للنساء العربيات بنسبة 7% خلال الفترة ذاتها، ليصل إلى 32 ساعة أسبوعيًا، في مقابل ثبات ساعات العمل لدى النساء اليهوديات. ويشير هذا التحول إلى أنّ القوى العاملة العربية، وعلى الرغم من شعورها العالي بالمخاوف والتوتر داخل أماكن العمل، وجدت نفسها مضطرة لزيادة مشاركتها الوظيفية، أو على الأقل الحفاظ عليها، كاستجابة مباشرة للظروف المعيشية الصعبة خلال الحرب.

ويُفهم هذا التحول في ضوء الفجوة التي أصابت سوق العمل الإسرائيلي خلال الحرب، نتيجة استدعاء أعداد كبيرة من العمال اليهود للخدمة في جيش الاحتلال، ومنع دخول عمال الضفة الغربية لأماكن عملهم في الداخل المحتل، وتراجع قدوم العمال الأجانب خشية أوضاع الحرب. وفي ظل هذا النقص المفاجئ، برزت القوة العاملة العربية داخل الخط الأخضر في مواقع التشغيل. غير أنّ هذا الانخراط لا يعكس تحسّنًا في مكانة الفلسطينيين داخل السوق، بقدر ما يكشف طبيعة البنية المؤسسية التي تحدد موقعهم ضمن المستويات الدنيا من السلم الاقتصادي، ليشكلوا قوة عمل جاهزة لسد الفجوات التشغيلية في المهن منخفضة الأجر، وذات القابلية العالية للاستبدال.

وتخدم هذه السياسات هدفين مركزيين لدى حكومة الاحتلال: الأول تقليص الاعتماد على مخصصات الرفاه الاجتماعي عبر دمج أعداد كبيرة من الفلسطينيين في سوق العمل، حتى وإن كان ذلك في وظائف متدنية الدخل. والثاني توسيع قاعدة الضرائب من خلال هذه الفئات نفسها، بما يتيح توفير موارد إضافية لتمويل النفقات العسكرية ومتطلبات الحرب، دون إحداث تغيير فعليّ في بنية سوق العمل أو معالجة آليات التمييز الاقتصادية القائمة.

من هنا، يمكن القول إن التشغيل بعد الحرب ليس ظرفيّا ولا مرتبطًا بفترة الحرب، ولم يتأثر فقط بالانكماش العام في الاقتصاد الإسرائيلي، وإنما تأثر بآليات الفرز داخل السوق، التي جعلت من الفلسطيني الطرف الأقل أمنًا، والأكثر تعرّضًا للمغادرة دون حماية قانونية أو مهنية.

رابعًا: الفقر كنتاج للتمييز في الفرص الاقتصادية

في عام 2023 بلغ معدل الفقر بين فلسطينيي الداخل 38.4%، وهي نسبة تمثل ضِعف المعدل العام للفقر داخل الكيان (20.7%). كما أنّ الفلسطينيين داخل الخط الأخضر شكّلوا 42.4% من مجمل الفقراء في “إسرائيل”، وهي نسبة تفوق بكثير وزنهم الديمغرافي، ما يدلل على الاختلال الحاصل في توزيع الدخل، وفرص العمل، ومستويات الرفاه الاجتماعي.

انعكست ظروف الحرب مباشرة على أنماط الإنفاق لدى الفلسطينيين، فقد ساد شعور عام بالخوف وعدم اليقين، وبدأت تظهر علامات الضغط الاقتصادي على فلسطينيي الداخل. إذ سجل نحو 93% من الأسر العربية تراجعًا في الدخل بدرجات متفاوتة (46% انخفاض طفيف، 31% انخفاض كبير، و16% انخفاض حاد جدًا)، في مقابل تراجع دخل نحو 24% فقط من الأسر اليهودية. وقد أدّى هذا التدهور في القدرة الشرائية، إلى جانب هشاشة البنية الاقتصادية، إلى تبني نمط إنفاق أكثر حذرًا، يعتمد على تقليص المصروفات وحصر الاستهلاك في السلع الأساسية.

إلى جانب ذلك، جاءت السياسات المالية المتشددة التي فُرضت مع اندلاع الحرب، وفي مقدمتها رفع ضريبة القيمة المضافة، لتفاقم الأعباء المعيشية على الفلسطينيين في الداخل، الذين يواجهون أصلًا مستويات مرتفعة من الفقر والبطالة. ولم تُرفَق هذه السياسات بأي آليات تعديل ضريبي تعكس ارتفاع معدلات التضخم، أو تغيّرات أسعار المستهلك، ما أدى إلى تآكل الدخل الحقيقي، وتراجع القدرة الشرائية للأسر الفلسطينية بصورة متسارعة. ونتيجة لذلك، تتوسع دائرة الفقر تدريجيًا، تبعًا لتراجع الدخل المباشر، وبفعل تغير القوة الشرائيّة للأجور، وغياب أي حماية ماليّة تراعي هشاشة الوضع الاقتصادي للفلسطينيين مقارنة ببقية مواطني الكيان.

وتكشف هذه الفجوة الواسعة في مستويات الفقر، عن أثر الاقتصاد الإثني القائم على التمييز الهيكلي في سوق العمل، وفي توزيع الموارد والخدمات الأساسيّة، خاصة في قطاعي التعليم والصحة. وتزداد الصورة وضوحًا عند النظر إلى الفروقات المناطقية، إذ تتجسد هشاشة الاقتصاد الفلسطيني بشكل صارخ في المجتمعات البدوية بالنقب، التي عانت من تفاقم الفقر مع اندلاع الحرب، بسبب سياسات الإخلاء والنزوح المتواصل في الجنوب، وما رافقها من إغلاق أماكن العمل، وتقييد الحركة والنشاط الاقتصادي.

سادسًا: فصل الأسواق على طرفي الخط الأخضر

أدى إغلاق المعابر بين جانبي الخط الأخضر، إلى حرمان فلسطينيي الداخل من منفذ اقتصادي كان يؤمن لهم سلعًا وخدماتٍ بأسعار أقل من السوق الإسرائيلي مرتفع التكلفة، ما ساهم في ارتفاع كلفة المعيشة عليهم، وأضعف قوتهم الشرائية. ومع توقف التواصل التجاري مع الضفة، نشأت أنماط اقتصاد محلي جديدة داخل المدن العربية في الداخل، حيث ارتفع الاعتماد على الاستهلاك الداخلي بدلًا من التكامل الاقتصادي مع بقية المكونات الفلسطينية. وأسهم هذا التحول في تعزيز مسار الانفصال الاقتصادي، وهو ما يخدم مشروع الاحتلال الرامي إلى دمج فلسطينيي الداخل بشكل كامل في السوق الإسرائيلي، وتفكيك الروابط الاقتصادية الفلسطينية التاريخية، التي يمكن أن تشكل قاعدة لتكامل اقتصادي وطني.

خاتمة

ظهر اقتصاد فلسطينيي الداخل بعد الحرب، ضمن منظومة استعمارية تعيد إنتاج ملامح الاقتصاد الإثني والأمننة الاقتصادية، بحيث يدار حضورهم في السوق الإسرائيلي باعتباره ملفًا أمنيًّا قبل أن يكون شأنًا اقتصاديًّا. وتم خلال هذه المرحلة تعزيز الفصل بين الداخل الفلسطيني ومحيطه التاريخي، عبر إضعاف الروابط التجارية، وزعزعة التواصل البشري والاقتصادي بين الجانبين، في إطار سياسة تهدف إلى تحويل الفلسطيني إلى كيان معزول يُسمح له بالعمل ضمن قيود يحددها الاحتلال. وبذلك يتم تشكيل الجغرافيا الاقتصادية على أساس من الضبط والسيطرة، لتتحول البنية الاقتصادية الفلسطينية لفلسطينيي الداخل إلى مساحة تُدار بهدف الاحتواء والاستغلال لا التمكين.

ليظلّ الفلسطيني الحلقة الأضعف من حيث التعرض لفقدان عمله أو تراجع دخله مع كل حرب، من دون أن يمتلك أدوات تمكنه من أن يكون جزءًا فاعلًا من اقتصاده الفلسطيني. وبهذا يبقى فاعلًا اقتصاديًّا  لمصلحة الاحتلال، تتحقق عبره مكاسب للاقتصاد الإسرائيلي، بينما تتآكل قدرته على حماية وضعه الاجتماعي من التدهور.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى