التفوّق النوعي الإسرائيلي: بين الردع البنيوي والسيطرة الإقليميّة

يشكّل مفهوم التفوّق النوعي ركيزة أساسية في إستراتيجية إسرائيل الأمنية والسياسية، ليس فقط كأداة عسكرية، بل كبنية متكاملة تجمع بين السيطرة الجوية والتكنولوجية والهيمنة الجيوسياسية، بما يتيح لإسرائيل فرض سيادتها وحرية حركتها العملياتية في الإقليم. كما يمتدّ المفهوم ليشمل أبعادًا سياسية ودبلوماسية، حيث يُوظّف لضبط صفقات الأسلحة الدولية وإدارة التحالفات والتطبيع الإقليمي، لضمان بقاء الاحتكار الإسرائيلي للقدرات النوعية، ومنع دول المنطقة من تطوير قدرات دفاعية أو هجومية قد تقوّض ميزان القوة النوعي، أو تَنضُج إلى تهديدات فعلية لميزان الردع الإقليمي.
في هذا الإطار، يتحوّل التفوق النوعي من مجرد ميزة عسكرية إلى أداة هيمنة بنيوية على الإقليم، تُصاغ من خلالها السياسات الإسرائيلية وتُقاس الأخطار والتحالفات، لتضمن استمرار تفوق الدولة وحصانتها أمام أي تهديد محتمل، سواء في زمن الحرب أو في زمن السلام، كما سيُبين المقال.
البنية التأسيسيّة للتفوّق النوعي الإسرائيلي
واجهت إسرائيل، منذ البدايات التأسيسيّة للمشروع الصهيوني عام 1948، معضلة بنيوية شكّلت بنيتها الأمنية والفكرية بشكل مبكر. فقد تبلورت لدى القيادة الصهيونية قناعة مفادها أنّ البقاء لا يمكن ربطه بتوازنات القوى التقليدية، بل يتطلب تفوقًا نوعيًا دائمًا يشكّل حجر الأساس لاستدامة الدولة وبقائها. وهو منطق سياسي-عسكري يستند في أحد جذوره الفكرية إلى ما طرحه زئيف جابوتنسكي في مقاله (The Iron Wall)عام 1923، الذي يرى أن الحفاظ على المشروع يتطلب “جدارًا حديديًا” قادرًا على بناء قوة يهودية مستقلة ورادعة لفرض شروطها، وهو ما كرّسه لاحقًا ديفيد بن غوريون في صياغة العقيدة الأمنية لإسرائيل. إذ أدركت القيادة الصهيونية أنه لا يمكن الاعتماد على جيوش كبيرة أو خطوط دفاع ممتدة في ظلّ محدودية المساحة الجغرافية والعمق الإستراتيجي والمحيط العربي الذي يفوقها عددًا ومواردَ؛ ما يتطلب ميزة نوعية في السلاح، والاستخبارات، وسرعة القرار، لخلق ميزان ردع غير متكافئ. أي قدرة نوعية حاسمة تمنع الخصم من الوصول إلى لحظة التفوق أو المفاجأة، عبر خلق فجوة دائمة في مستويات القوة تتيح الاحتفاظ بزمام المبادرة. ومنه تشكّل التفوق النوعي بوصفه ركيزة وجودية تحكم تصوّر إسرائيل لبناء ذاتها وديمومتها وموقعها داخل بيئة إقليمية معادية.
وقد تحوّل منطق التفوّق النوعي في العقيدة الإسرائيلية من رؤية نظرية إلى بنية تشغيلية تقوم على مرتكزين أساسيين: أولهما؛ سيطرة جوية تمكّنها من تنفيذ ضربة استباقية-وقائية، وقد ظهر ذلك عمليًا لأول مرة في عملية “موكيد” في حرب النكسة- حزيران 1967، حين شنّ سلاح الجو الإسرائيلي ضربة استباقية مفاجئة دمّر خلالها جزءًا كبيرًا من القوات الجوية المصرية والعربية خلال أولى ساعات الحرب قبل دخولها الخدمة، ما شكل نقطة التحول في مسار الحرب، ومنح إسرائيل سيطرة جوية كاملة، وفتح الطريق أمام قواتها البرية دون تهديد جوي مضاد. أما الثاني؛ فهو القدرات النووية التي اتبعت إسرائيل إزاءها سياسة “الغموض النووي”– امتناع إسرائيل عن الاعتراف أو النفي- المرتبط ببناء مفاعل ديمونا، وظهور ما عُرف لاحقًا بـ“خيار شمشون” كطبقة أخيرة للردع في مواجهة تهديد وجودي مباشر.
من تفوّق السلاح إلى تفوّق البنية: التحوّل من الردع التقليدي إلى الهيمنة البنيويّة
إنّ الانتقال إلى تحليل كيفيّة تجلّي البنية السابقة على المستوى التشغيلي وفي إدارة الجبهات، أو تتبع تداخل التفوق النوعي مع شبكات الإنتاج التكنولوجي والاستخباراتي والتحالفات الإقليمية، يكشف امتداد المفهوم من مجرّد هندسة لقدرة عسكرية متقدمة إلى بنية إستراتيجية متكاملة تُعرِّف شروط الأمن الإقليمي ذاته. حيث ينتقل التفوق النوعي من كونه ضمانًا للبقاء في محيط عدائي إلى كونه منظومة ضبط، تُعيد تشكيل ما يمكن وما لا يمكن أن يمتلكه الآخرون. فلم تعد المشكلة بالنسبة لإسرائيل في التهديد الفعلي الذي قد ينشأ من دولة ما فقط، بل في “إمكان التهديد” ذاته. أي مجرد قدرة أي طرف (دولة أو تنظيم) على تطوير منظومات دفاعية أو قدرات هجومية قد تمنحه حدًّا أدنى من التوازن أو القدرة على المقاومة.
بهذا المعنى، يصبح التفوّق النوعي إطارًا يعيد رسم حدود التطور العسكري لدول الجوار، بما يحول دون اقترابهم من أي قدرة مستقلة تُنتج شكلًا من أشكال التوازن، حتى إن كان دفاعيًا أو محدودًا. وهكذا يتسع المفهوم من “إستراتيجيّة ردعيّة” إلى “هندسة سقف تطوّر” تفرضه إسرائيل على البيئة الإقليمية من خلال احتكار المعرفة التكنولوجية، والتحكم بسقف قدرات القوات المسلّحة العربية والإقليمية بتحديد نوعية السلاح الذي تستطيع الدول الحصول عليه، ومراقبة منظومات التسليح الدفاعية والهجومية لمنع أي محاولة لبناء قدرة تتجاوز الخطوط الإسرائيلية المرسومة.
وبذلك يتجاوز التفوق النوعي كونه مجرد حاصل قوّة إلى كونه بنية لإنتاج الهيمنة ترتكز إلى مستويات متداخلة، يمكن مقاربتها وفهمها على النحو الآتي:
أولاً: السيادة الجويّة والتفوّق من الأعلى
لا يُفهم التفوّق النوعي الإسرائيلي خارج مركز ثقل السيادة الجوية، حيث تنظر إسرائيل إلى سلاح الجو كأكثر من ذراع عسكري تقليدي بوصفه البنية الصلبة التي تنتج الأمن والهيمنة، ومن خلاله تُعاد صياغة المجال الإقليمي بما يضمن بقاء ميزان القوة مائلًا على نحو دائم لصالحها. وبهذا المعنى يتسع مفهوم السيادة الجوية من قدرة على الرد إلى سلطة فوق‑إقليمية تحكم حركة الطائرات، ومسارات التسلّح، وإمكانات تطوير الدفاعات لدى الدول المحيطة.
وقد برز هذا المنطق في “الضربات الوقائية” التي تشكّل إحدى ركائز العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ عام 1981، حين تبلور لأول مرة التطبيق العملي “لعقيدة بيغن”، التي تشكّلت في سياق منع التمكّن النووي الإقليمي بهدف منع أي دولة معادية من تطوير قدرات نووية عسكرية. حيث نفّذت إسرائيل حينها عملية “أوبرا” ودمرت مفاعل أوزيراك (تموز) العراقي عبر ضربة جوية مباغتة قبل دخوله حيّز التشغيل، فرسّخت نظرية مفادها أن التحكم بالسماء أو إخضاع الفضاء الجوي شرط للتحكم بالتوازنات الإستراتيجية. ثم جاءت عملية “البستان” في 2007 لتؤكد الطبيعة البنيوية للعقيدة مع تدمير إسرائيل منشأة الكبر في دير الزور بعد تقدير استخباراتي بأنها جزء من مشروع سرّي للتخصيب النووي، حيث اخترقت إسرائيل المجال الجوي السوري المعزّز حينها بمنظومات دفاع سوفيتية/روسية دون اعتراض، في ضربة اتسمت بقدرات استخباراتية دقيقة، وجاهزية جوية متقدمة وتشويش إلكتروني لتخطي الدفاعات، قبل أن يُكشف عنها رسميًا ولأول مرة عام 2018.
ومع تقدّم العقود، تطوّر التفوّق النوعي الإسرائيلي إلى بنية تكنولوجية‑عملياتية متكاملة تجمع بين مقاتلات الجيل الخامس-الشبحية، والحرب الإلكترونية، والاستخبارات المتقدمة. حيث تحوّل سلاح الجو إلى مركز عملياتي يمتلك قدرة على الاستشعار والتخفي واختراق الدفاعات والاستهداف الدقيق، وقد شكّل إدخال مقاتلات F‑35 خطوة محورية في هذا المسار، إذ كانت إسرائيل من أوائل المتعاقدين عليها عام 2010، ثم وصلت أول طائرتين في 2016، وأُعلنت جاهزة للخدمة مع نهاية 2017.
ومنذ عام 2013، تحوّل التفوق النوعي إلى إطار عملياتي مستدام عبر ما يُعرف بـ“المعركة بين الحروب” كأحد أُطر إستراتيجية إسرائيل الأمنية، والتي تعني تنفيذ ضربات وقائية متكررة ومنخفضة الوتيرة – تشمل اغتيالات، وغارات، واستهداف بنى تحتية أو مخازن أسلحة وشبكات تسليح وخطوط إمداد – ضد خصومها في دول الجوار قبل أن تنضج قدراتهم التهديدية إلى مستوى يستدعي حربًا شاملة على الجبهة السورية، بدايةً ضد إيران وحزب الله من خلال منع الإمداد أو التوريد الإيراني باعتباره “كاسرًا للتوازن”، ثم امتد هذا المنطق ليشمل التفاعل مع الجيش السوري نفسه، ولا سيما في أعقاب انهيار بنية النظام السابق، عبر استهداف القدرات والبنى العسكرية السورية على عمق امتداد الحدود الشمالية. حيث لم يقتصر هذا الاستهداف على القدرات النوعية فقط، بل شمل الأسلحة التقليدية ومخازن الذخيرة وحتى الأسلحة الكيميائية،التي جرى تصويرها إسرائيليًا كتهديدات محتملة. وقد انعكست نتائج هذا المسار في سلسلة من مئات الغارات الجوية التي استهدفت البنية العسكرية واللوجستية لحزب الله والوجود الإيراني في سوريا خلال العقد الأخير، والتي بلغت ذروتها منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن، معتمدةً على قدرة عالية على الدخول والخروج من المجال الجوي السوري دون اعتراض. ذلك ما يبرز تطبيق السيادة الجوية كسياسة بنيوية، لا سلسلة عمليات معزولة، فالأساس هنا هو إنتاج حالة إقليمية دائمة تمنع تطور أي قدرة عسكرية، سواء كانت نوعية أم تقليدية، أو حتى شبكة إمكانات قد تتيح في لحظة ما رفع كلفة الفعل العسكري الإسرائيلي.
ثانيًا: ضبط سقف القوة الإقليميّة
لا تقتصر السيادة الجوية الإسرائيلية على امتلاك سلاح جو متقدم، بل تشمل التحكم بما يمكن لدول الإقليم امتلاكه أو تطويره من قدرات هجومية ودفاعية تمسّ المجال الجوي. فعلى مستوى السلاح الهجومي، تتعامل إسرائيل مع دول الإقليم، سواء الخصوم أو الشركاء، بعقلية واحدة تقوم على الحؤول دون امتلاك منصات جوية أو قدرات هجومية تتيح حدًّا أدنى من الموازنة أو الردع. وقد تجلّى هذا المنطق تاريخيًا حين اعترضت إسرائيل على بيع واشنطن للأردن طائرات (F-16) عام 1982 باعتبارها تمس التفوق الجوي الإسرائيلي. واستمر هذا النهج لاحقًا في الحالة المصرية مع مراقبة الوجود العسكري المصري وتوسع تحركاته في سيناء بعد 2013 لضمان بقاء ذلك ضمن الهامش المقبول وحدود التنسيق معها. كما واجهت تركيا تحفظات إسرائيلية على تطور قدراتها الجوية، تمثلت بمشاركة إسرائيل في الدفع نحو قرار استبعاد واشنطن تركيا من برنامج طائرات F-35 عام 2019. ولا يزال هذا المنطق الإسرائيلي مستمرًا حتى اليوم، إذ عارضت مؤخرًا، في نوفمبر 2025، بيع مقاتلات F‑35 للسعودية دون تعديل خصائصها المتقدمة.
أما على مستوى القدرات الدفاعية، تنظر إسرائيل إلى أي تطور دفاعي فعّال في الإقليم باعتباره تهديدًا مزدوجًا؛ فلا يقتصر على تقييد حرية عمل سلاحها الجوي، بل يمتد إلى تمكين دول المنطقة من صدّ أي عدوان محتمل، وتقليص فجوة العجز البنيوي في مواجهة القوة الإسرائيلية. فقد اعترضت إسرائيل في الثمانينيّات على صفقة أمريكية مقترحة لبيع الأردن صواريخ هوك (Hawk) المضادة للطائرات باعتبارها تحدّ من قدرة سلاح الجو الإسرائيلي، كما اعترضت على بيع طائرات “AWACS” للسعودية وتمكّنت من تعديل الصفقة بما يحافظ على ميزان التفوق النوعي. وفي السياق نفسه، اعتبرت صفقة المنظومات الدفاعية الروسية (S‑300) المصرية عام 2014 خطوة تمثل تهديدًا للمجال الجوي الإسرائيلي فوق شرق المتوسط وسيناء، فيما اعترضت على صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية (S-400) لتركيا عام 2019.
بهذا المعنى، يتبين أنّ السيادة الجوية تمثّل جوهر التفوق النوعي الإسرائيلي ومركز ثقله، ليس كنتيجة لامتلاك قدرات متقدمة فقط، بل كممارسة مستمرة لضبط المجال الجوي الإقليمي، ومنع تشكّل أي قدرة -هجومية أو دفاعية- قد تُقيّد حرية الحركة الإسرائيلية أو ترفع كلفة العمل العسكري ضدها أو تتيح لدول الإقليم حماية أجوائها خارج الشروط التي تفرضها إسرائيل. فلا تُقرأ القدرات الجوية للدول المجاورة كعناصر سيادية مستقلة، بل كمتغيرات يجب ضبطها ضمن سقف يمنع نشوء أي إمكانية لتقويض السيطرة الجوية التي تسعى إسرائيل إلى احتكارها.
ثالثًا: تثبيت التفوّق النوعيّ عبر السياسة الدوليّة
لم يقتصر التفوّق النوعي الإسرائيلي على البُعدين العسكري والتكنولوجي، فقد عملت إسرائيل على ترسيخه كميزة إستراتيجية مؤسّسية ضمن الإطار الدولي والدبلوماسي، عبر مسارين متكاملين. يتمثل الأول في الإطار القانوني الأميركي والدعم السياسي المتواصل من واشنطن، الذي يوفر غطاءً شرعيًّا وسياسيًّا لقدرات إسرائيل النوعية كحقّ دائم ومؤسّسي. بينما يرتبط الثاني في شبكة التحالفات الإقليمية ومسار التطبيع مع دول محورية في الشرق الأوسط، بما يعزّز الحماية الدبلوماسية للتفوق النوعي دون أي تنازل عن القدرة العملياتية النوعية لإسرائيل.
فمن جهة؛ تم تحويل التفوق العسكري النوعي لإسرائيل إلى قاعدة رسمية ضمن التشريعات الأميركية، بحيث أصبح أي بيع سلاح لدول الشرق الأوسط خاضعًا لتقييم أثره على ميزاتها النوعية، بما يضمن الحفاظ على ميزان القوة لصالح إسرائيل قبل تمرير أي صفقة. ويتمثل أبرز تجسيد لذلك في قانونNaval Vessel Transfer Act””عام 2008، ونصّ قانون تصدير الأسلحة (AECA) ، الذي ألزم وزارة الدفاع الأميركية بمراجعة أي صفقة أسلحة متقدمة لدول المنطقة -باستثناء إسرائيل- وفق تقرير مسبق للكونغرس للتأكد من أنها لن تُضعف التفوق النوعي الإسرائيلي. ويمنح هذا الإطار إسرائيل غطاءً سياسيًا‑قانونيًا يضمن “حق تفوق دائم”، بحيث تصبح أي صفقة أسلحة -خصوصًا لأنظمة جوية أو دفاعية متقدمة- مرشحة للمراجعة أو التعديل أو التأجيل أو الرفض.
ومن جهة أخرى؛ وظّفت إسرائيل مسار “التطبيع الإبراهيمي” كأداة إستراتيجية لتعزيز تفوقها النوعي والحفاظ عليه. فلم تقتصر العلاقات على البعد الدبلوماسي والاقتصادي، وإنما أتاح إقامة تعاون أمني واستخباراتي تقني، ووُقّعَت مذكرات تفاهم بين شركات دفاع إسرائيلية وشركات إماراتية. لكن رغم فتح قنوات التعاون وتقديم إسرائيل نفسها شريكًا أمنيًّا وتقنيًّا، إلّا أنها أبقت الدول العربية محدودة الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، مع فرض شروط صارمة على أي صفقة قد تمس ميزان القوة الإسرائيلي، إذ عبّرت عن تحفظاتها على صفقة مقاتلات F‑35 للإمارات بعد اتفاق التطبيع عام 2020، مطالبة بمراعاة منع مساواة القدرات المتقدمة للطائرات مع النسخة الإسرائيلية، في خطوة أكدت أنّ أي صفقة تسلّح أو تعاون عسكري، حتى مع دول مطبّعة، تبقى خاضعة لمراجعات وقيود تقنية وسياسية دقيقة تُحدد سقف ما يمكنها امتلاكه من مقاتلات أو دفاعات جوية أو مسيّرات هجومية؛ لضمان الاحتكار الإسرائيلي للتسليح النوعي.
كما يشكّل الملف النووي السعودي المدني امتدادًا لهذا المسار، إذ ربطته واشنطن بدايةً في شرط تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كما تصرّ إسرائيل على أن يخضع لضوابط دولية صارمة تمنع أيّ مسار للتخصيب المحلي، أو ما يفتح له إمكانات إستراتيجية مستقبلية. بالتالي، شكّل التطبيع والتحالفات الإقليمية آلية مزدوجة لإسرائيل؛ حيث تمكّنها من توسيع نطاق التعاون الاستخباراتي والتكنولوجي بما يخدم الأمن الإسرائيلي لكن دون مشاركة امتيازاتها الإستراتيجية وانتقال قدرات عسكرية متقدمة إلى الدول الشريكة، وضمن إطار يقيّد حتى المسارات النووية المحتملة في المنطقة. بهذا المعنى، فإن التفوّق النوعي لم يُقوّض أو يُشارك، بل توطّن داخل منظومة تحالفات تجعل من إسرائيل مركز التوازن الأمني، بينما تبقى الدول الأخرى داخل نطاق ضوابط واضحة للإمكانيات العسكرية النوعيّة.
التوازن بوصفه هيمنة: منطق نزع الموازنة بعد أكتوبر 2023
إنّ منطق نزع الموازنة الذي تعكسه ممارسات وسياسات إسرائيل أعلاه، يحيلنا إلى التساؤل النقدي حول ماهية معادلة التوازن في الفكر الأمني الإسرائيلي. إذ يبين ما سبق أنّ العقلية الإسرائيلية تستند في تقييم القوة الإقليمية إلى مبدأ مغاير تمامًا لمفهوم التوازن التقليدي؛ حيث يُنظر إلي أي تطور دفاعي أو هجومي لدى أي تنظيم أو دولة في المنطقة -حتى لو كانت حليفة- باعتباره تهديدًا مباشرًا لميزان التفوق النوعي، وبالتالي يُصنّف على أنه “كاسر للتوازن”، رغم الاحتكار الإسرائيلي لنوعيّة سلاحَيْ الدفاع والهجوم.
وفق هذا المنطق، يكون التوازن هنا ليس موازنة نسبيّة للقوى أو الموارد، بل توازن هيمنة يضع إسرائيل في مركز القرار والسيطرة المطلقة وتحديد خطوط القوة المقبولة في الإقليم. حيث تكشف هذه المعادلة عن بنية ذهنية إستراتيجية محكمة، فالقوة ليست مجرد عدد طائرات أو صواريخ أو أنظمة دفاعية، وإنما في القدرة على التحرك بحرية وإخضاع المجال الإقليمي لقواعد إسرائيلية تضمن أن كل قدرة دفاعية أو هجومية قد تتيح لأي دولة مجاورة تحقيق استقلالية نسبية أو الردع، تُعامل على أنها كسر للتوازن. وذلك لأنّ أي امتلاك عربي لمنصات جيل خامس من المقاتلات يفتح الباب أمام “سماء مشتركة” بدلاً من “سماء إسرائيلية خالصة”، كما ينظر إلى الدفاعات الجوية المتقدمة على أنها تهديد مباشر لسيادة إسرائيل على الفضاء الجوي الإقليمي، بتجاوز غايات التطور التقني للدول، واعتبارات حماية السيادة الوطنية والأمن القومي في إقليم تحاط به الدول بتهديدات متعددة وفق خصوصية كل منها في هذا السياق.
عمليًّا، يُترجم هذا المبدأ منذ أكتوبر 2023 في تصعيد الخطاب السياسي والدبلوماسي الإسرائيلي تجاه مصر وتركيا خاصةً، حيث يتم تصوير أي تطور عسكري هجومي أو تعزيز دفاع جوي من صفقات تسليح أجنبية، باعتباره ضررًا إستراتيجيًا وتهديدًا مباشرًا لتفوق إسرائيل النوعي في المنطقة. حيث عارضت إسرائيل في 2025 حصول تركيا على طائرات F-35، واعتبرت مؤخرًا أن اتفاقية مقاتلات “يوروفايتر تايفون” الأوروبية مع تركيا قد يغير ميزان القوى في المنطقة. كما حذرت على امتداد عام 2025 من تنامي القوة الجوية المصرية، فاعتبرت أن تسلّمها طائرات من طراز “رافال” الفرنسية؛ وشراء مقاتلات أوروبية من طراز “ميتيور”؛ مع اقترابها من الحصول على طائرات من طراز (FA-50) من كوريا الجنوبية، سيمنح مصر قدرة قتالية متقدمة قد تُخلّ بتفوقها النوعي في المجال الجوي. كما حذرت من أن الجيش المصري قد يشكل تهديدًا أمنيًا لما يملكه من منظومة تسليح وقوّات بريّة متطوّرة.
إضافة إلى ذلك، تبين عملية “الأسد الصاعد” ضدّ إيران أن إسرائيل لا تحصر التهديد في السلاح النووي وحده، بل في أي قدرة صاروخية هجومية طويلة المدى تُتيح لإيران توجيه ضربة إستراتيجية محتملة ضدّها، حيث كان تقويض البنية الصاروخية البالستية أحد أهداف هجماتها في يونيو 2025. وهو ما يكتسب أهمية خاصة لأن إيران عمليًا لا تمتلك أسلحة نوعية أخرى تتيح لها حماية نفسها، فالصواريخ والمسيّرات تمثل مرتكز قدرتها على الردع والدفاع، وبالتالي أي ضرب لهذه القدرات يعادل عمليًا نزع أي قدرة دفاعية إستراتيجية لديها أمام إسرائيل. وقد برز هذا النهج أيضًا في المطالبات الإسرائيلية من واشنطن بتوسيع بنود المفاوضات النووية مع طهران لتشمل أيضًا تقويض قدرات البرنامج الصاروخي البالستي، بما يضعف بشكل مباشر إمكانات إيران الدفاعية، ويضمن التفوق الإسرائيلي الأحادي في مواجهة أي تهديد محتمل.
كما تجدر الإشارة إلى التحرك الإسرائيلي السريع في أعقاب سقوط النظام في سوريا تحت مسمّى عملية “سهم باشان”، وتوجيه مئات الضربات للأسلحة السورية وتدميرها. كما أنّ بعضها تم بالتزامن مع توجيه ضرباتها إلى العمق الإيراني، ما يعكس أن جوهر السيادة الجوية الإسرائيلية يقوم على فكرة “حرية الحركة العملياتية” لإسرائيل، والتي تتمثل عمليًا في القدرة على تنفيذ ضربات بعيدة، واستهداف عمق جغرافي في دول متعددة -كإيران- باستخدام المجال الجوي للدول المجاورة دون موافقة أو قدرة ردع مقابلة. إذ تعتمد إسرائيل على هذه الحرية لمراقبة خطوط الإمداد من إيران إلى لبنان عبر سوريا، ولتنفيذ ضربات في البحر الأحمر، ولتطوير شبكة مراقبة واستطلاع عابرة للحدود لا يمكن تعطيلها دون بناء دفاعات جوية إقليمية معقّدة. وهو ما تسعى إسرائيل إلى منع ظهوره بكل الوسائل بهدف إبقاء المجال الجوي مفتوحًا للتدخلات الإسرائيلية المستقبلية. ذلك كله يمثل تجسيدًا عمليًّا لمبدأ نزع الموازنة، عبر توظيف التفوق النوعي كأداة إستراتيجية شاملة لضبط الإقليم، وفرض الهيمنة، وإعادة هندسة أي توازن محتمل لصالح إسرائيل وحدها.
خاتمة
تُظهر الوقائع أنّ التفوّق النوعي الإسرائيلي -بأبعاده الجوية والاستخباراتية والنووية- بُني عبر عقود على رؤية إستراتيجية متكاملة وطويلة الأمد، تجمع بين الفكر النظري الجذري والتطبيق العملي، لتشكّل عناصر مترابطة في بنية أمنية واحدة، وفّرت لإسرائيل القدرة على البقاء والحسم معًا. وأنّ التفوّق النوعي لم يعد يُنظر إليه كاحتياطي إستراتيجي للردع فقط، وإنما أداةً عملياتية لإعادة تشكيل البيئة الأمنية الإقليمية، عبر آليات متعددة تشمل الإعاقة المسبقة، والتدخل الجوي المتكرّر، وتحطيم حلقات التطور العسكري للدول والجماعات المسلّحة قبل أن تتحوّل إلى تهديد فعلي، لإنتاج “سقف إقليمي ثابت” يمنع نشوء أي توازن محدود مع إسرائيل.
كما توضح هذه المعطيات التاريخية والعملية الراهنة أنّ إسرائيل تتعامل مع إمكان التهديد بنفس الحزم الذي تُعالج به التهديد الفعلي. إذ لا يقتصر التهديد على نوع أو كمية التسليح، بل يشمل أي قدرة محتملة قد تُضعف الهيمنة الإسرائيلية. فمع تراكم الممارسات السابقة، أصبح التفوق النوعي بنية سياسية–إقليمية تتحكّم بتوزيع القوة داخل المنطقة، حيث إنّ احتكار التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، والتحكم بمسارات تحديث الجيوش العربية، واشتراطات الصفقات التسليحية، كلها نتاج لبنية واحدة تهدف إلى تثبيت التفوق الإسرائيلي. بهذا المعنى، يعد التفوق النوعي مبدأ حاكماً يوجّه سياسات إسرائيل تجاه الجوار، سواء كانوا خصومًا مباشرين أو شركاء ضمن ترتيبات أمنية، ويضبط حدود السيادة العسكرية للدول الأخرى، ويحوّل الإقليم إلى فضاء تُدار توازناته عبر مركز واحد.



