التحديات “الإسرائيلية” على الجبهة الشمالية: هل تقود إلى حرب شاملة؟
كريم قرط، مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية – رام الله
يشهد الجنوب اللبناني منذ بداية العدوان على قطاع غزة تصعيدًا بين الاحتلال وحزب الله، يوصف بالتضامني مع القطاع، بالرغم من أنّ هذه الجبهة لم تتحول إلى جبهة حرب شاملة، إلّا أنّ المعطيات على أرض الواقع باتت معقدة، وقد تفضي إلى احتمالين: تصاعد المواجهة لحرب شاملة مع حزب الله، أو الحفاظ على وتيرة تصعيد تحت السيطرة، غير أنّ جبهة جنوب لبنان تحولت إلى مصدر قلق وجودي لدى مستوطني مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، التي أخلاها الاحتلال مع بداية العدوان خشية اندلاع مواجهة شاملة مع حزب الله، وبالرغم من أنّ هذه المواجهة لم تندلع بعد، إلّا أنّ الخطر مازال قائمًا بالنسبة للمستوطنين، خشية تكرار سيناريو “السابع من أكتوبر” في مستوطناتهم، ما بات يستدعي من الاحتلال إيجاد حل لهم في ظل تهديد المستوطنين بعدم عودتهم إلى مستوطناتهم، الأمر الذي من شأنه ضرب جذور المشروع الصهيوني، لا سيما وأنّ خيارات الاحتلال للتعامل مع هذا الواقع محدودة.
يعكس هذا التقرير تحديات الاحتلال على جبهته الشمالية، والخيارات المطروحة أمامه للتعامل مع الواقع، ومحددات تلك الخيارات ونتائجها، والتي يحاول الاحتلال تجنبها.
جبهة تضامن:
بدأت جبهة جنوب لبنان بالتصاعد شيئا فشيئًا منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما تبعها من عدوان همجي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ بدأ حزب الله تنفيذ عمليات ضد الاحتلال في 8 أكتوبر، وتبِع ذلك إعلان رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله هاشم صفي الدين أنّ حزب الله في هذه المعركة “ليس على الحياد“. وعلى الرغم من أنّ عمليات حزب الله العسكرية ظلت ضمن المدى الذي يمكن التحكم فيه، إلّا أنّ الاحتلال سارع إلى اتخاذ عدة خطوات استباقية على جبهته الشمالية تحسبا لاندلاع مواجهة شاملة مع الحزب، إذ حشد جزءًا كبيرًا من قواته على الجبهة، وبدأ بإخلاء المستوطنات الشمالية بشكل متدرج، حتى وصل عدد المستوطنات المخلاة إلى 43 مستوطنة على طول الشريط الحدودي بين فلسطين المحتلة ولبنان، وبعمق يتجاوز 5 كم.
بدا واضحًا للاحتلال مع مرور الوقت أنّ جبهة جنوب لبنان لن تتوسع إلى مواجهة شاملة، لا سيما بعد خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي أعلن فيه أنّ جبهة جنوب لبنان هي جبهة تضامن ومساندة بشكل أساس، وقد أبقى الباب مفتوحًا لكافة الخيارات، وأكّد أنّ التطور على جبهة جنوب لبنان مرتبط بأمرين وهما: توسّع العدوان “الإسرائيلي” على لبنان وتوجّه الاحتلال لشن عملية عسكرية موسعة ضد حزب الله، والأمر الآخر هو مجريات العدوان في قطاع غزة.
في خطابه الثاني قال نصر الله: إنّ الميدان هو الذي يقرر طبيعة المواجهة، لكن حزب الله، إلى جانب الإجماع في لبنان حول هذا الأمر، لا يسعى إلى البدء بالحرب هو، ويتمسك بتجنيب لبنان الحرب، إلّا إذا فُرضت عليه .كما أعلن حزب الله في ذات السياق التزامه بالهدنة التي جرت بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال بين 24 -30 نوفمبر/تشرين الثاني، وقد أعلن حينها أنّه سيلتزم ما التزم الاحتلال بها، بالرغم من أنّه لم يكن طرفًا فيها، وقد التزم الاحتلال من جانبه بالهدنة على جبهة جنوب لبنان، ومع انهيارها في غزة عاد حزب الله إلى مهاجمة أهداف الاحتلال.
يشير هذا الأمر إلى أنّ الاحتلال نفسه لم يكن معنيًا باستمرار المواجهة مع حزب الله، وأنه تقبّل فكرة أن تكون جبهة جنوب لبنان جبهة تضامن، تقوم على مبدأ الفعل ورد الفعل، وليست جبهة حرب، إذ لو كان الاحتلال معنيًا بالمواجهة مع حزب الله لما التزم بالهدنة في جنوب لبنان، وأبعد من ذلك، لعلّ هذا الأمر يشير إلى أنّ الاحتلال لم يكن من الأساس معنيًا بالمواجهة مع الحزب، وأنه حشد قواته على الشمال كإجراء احترازي فقط، والتصور في هذا الإطار أنه بانتهاء العدوان على غزة، فإنّ الجبهة الشمالية ستعود للهدوء.
بدا واضحًا من البداية أنّ الولايات المتحدة تسعى لعدم شنّ دولة الاحتلال ضربة استباقية ضد حزب الله حتى لا تتوسع الحرب وتفتح بقية الجبهات، وقد وردت تقارير أمريكية تفيد بأنّ “نتانياهو” كان على وشك إصدار أمر بتنفيذ ضربة استباقية ضد حزب الله في 11 أكتوبر/تشرين الأول، ولكنّ “بايدن” منعه، في حين وردت تقارير “إسرائيلية” تفيد بأنّ “نتانياهو” هو الذي رفض طلب وزير الحرب “يؤاف غلانت” بتوجيه ضربة استباقية، وسعى لتشكيل حكومة الحرب وإدخال “بني غانتس” و”غادي آزنكوت”، وهما رئيسا هيئة أركان سابقين، ليتمكن من اتخاذ قرار منع الضربة بدعمهما، وسواء كان من منع الضربة هي أمريكا أم حكومة الاحتلال، فهذا يشير بوضوح إلى أنّ أيّ منهما لم تكن لديه رغبة بتوسيع الحرب وفتح جبهة أخرى مع حزب الله في جنوب لبنان، وهذا ما يؤكد عليه الأمريكيون منذ بداية العدوان، بأنهم لا يريدون توسيع الحرب وتحوّلها إلى حرب إقليمية.
تعمق الأزمة الشمالية:
إنّ المشكلة العميقة التي واجهت الاحتلال، وبدأت تتكشف له مع الوقت هي أنّ الواقع الذي نتج في الشمال أدى إلى رفض عودة مستوطني مستوطنات الشمال إليها، حتى ولو انتهت الحرب على جبهة غزة، فقد بات واضحًا أنّ المستوطنين هناك لن يعودوا لمستوطناتهم التي أُخلوا منها طالما بقي الخطر محدقًا بهم، لأنّ سيناريو السابع من أكتوبر أصبح عالقًا في عقول المستوطنين الذين يخشون أن يتكرر في مستوطنات الشمال، لا سيما وأنّ حزب الله قد أعلن مِرارًا منذ سنوات طويلة أنه في حال فُرضت حرب على لبنان فإنه سيحرر الجليل، وقد بات اسم “قوة الرضوان” – قوات النخبة لدى حزب الله- يثير الخوف لدى الاحتلال، الذي تعامل مع هذا السيناريو بجدية منذ فترة طويلة، وحتى قبيل اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، ومع تزايد المناوشات بين حزب الله والاحتلال، كان الاحتلال يستعد لسيناريو احتلال “قوة الرضوان” الجليلَ.
عبّر المستوطنون أكثر من مرّة وما زالوا يعلنون رفضهم العودة إلى مستوطناتهم يوما بعد يوم، حيث قال مؤخرًا رئيس بلدية مستوطنة “كريات شمونة“، المحاذية للحدود اللبنانية “أفيحاي شتيرن”: “إذا لزم الأمر، سأستلقي على شارع 90 وأغلق الطريق، ولن أسمح للسكان بالعودة ليكونوا غنما للذبح… كلنا نريد العودة إلى ديارنا، لكن “قوة الرضوان” تجلس على طول السياج”، مضيفًا أنّ :”هذا الواقع يجب أن يتغير، وإذا لم يحدث ذلك فلن نتمكن من العودة”.
تتزايد مخاوف المستوطنين بشكل مستمر مع تصاعد وتيرة الحرب، ومع استمرار تبدّي مظاهر الفشل الاستخباراتي والعملياتي للاحتلال في قطاع غزة، فبعد كشف الاحتلال عن أحد أنفاق المقاومة الفلسطينية الذي يمتد لمئات الأمتار ويتسع لمرور سيارة بداخله في غزة، ثارت المخاوف على الجبهة الشمالية خشية وجود أنفاق لحزب الله بهذا التطور، تمتد إلى داخل الأراضي المحتلة، وقد بدأ جيش الاحتلال على إثر ذلك عملية بحث عن الأنفاق في شمال فلسطين المحتلة، وما عزز هذه المخاوف هو أنّ جيش الاحتلال قد عثر فعلًا على 6 أنفاق لحزب الله عام 2018، تمتد إلى داخل الأراضي المحتلة.
وصف المحلل العسكري في “هآرتس” “عاموس هارئيل” هذه المعضلة بأنّ “إسرائيل ستواجه على المدى الأبعد مشكلة استراتيجية في الشمال، حتى لو نجحت في حربها في غزة”، مشيرًا إلى أنّ “قوة الرضوان” ما تزال موجودة في جنوب الليطاني، بما يخالف القرار 1701 لمجلس الأمن، وما زال حزب الله يمتلك ترسانة عدادها أكثر من 150 ألف صاروخ وقذيفة، حسب زعمه، ويرى في ظل هذا الوضع أنه سيكون من الصعب إقناع مستوطني مستوطنات الشمال بالعودة إلى بيوتهم، حتى لو انتهت الحرب في غزة بنجاح “إسرائيلي”.
خيارات الاحتلال:
أضحى لدى الاحتلال أمام هذا المشهد خياران فقط؛ فإمّا أن يقبل بالوضع القائم، وبذلك يحقق حزب الله إنجازًا قد يمتد تأثيره على مستوطنات الجولان وأبعد من الجليل، وإمّا أن يجد حلّاً لوجود حزب الله في جنوب لبنان، وبطبيعة الحال، لن يقبل الاحتلال خيار عدم عودة المستوطنين إلى مستوطناتهم في الشمال، لما في ذلك من خطر على المشروع الصهيوني برمّته، وهكذا يتبقى أمام الاحتلال مواجهة الخطر على مستوطنيه.
في الخيار الثاني لدى الاحتلال أيضا خياران؛ وهما الحل الدبلوماسي أو العمل العسكري، إذ صرّح عدد من قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين بأنهم سيجبرون حزب الله على التراجع لشمال الليطاني بالدبلوماسية أو الحرب، ويتمحور الحل الدبلوماسي في المطلب “الإسرائيلي” بتطبيق قرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، الذي أنهى حرب تموز 2006، وخصوصًا في المادة التي تنص على “إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، بحيث تكون خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان واليونيفيل”، ما يعني إبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني في جنوب لبنان، وبذلك تكون هذه المنطقة منقطة عازلة بين حزب الله والاحتلال.
انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في الجهود والضغوط على لبنان لمحاولة إجبار حزب الله على القبول بتطبيق القرار مقابل إدخال قوة دولية إلى منطقتي مزارع شبعا وشمالي قرية الغجر، وقد وصل الأمر بتهديد لبنان بتطبيق القرار بالقوة، تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجيز استخدام القوة لفرض قرارات المنظمة، وفكرة الحل بإبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني هي فكرة غير منطقية، فحزب الله ليس جيشا منظّما له قواعد عسكرية وثكنات ووجود مرئي بالعين، وإنما هو تنظيم يعتمد أسلوب الحرب غير المتناظرة، وقواته ليست نظامية، وهي مكونة من أهالي الجنوب أنفسهم، كما أنّ عتاده مخزّن في مواقع سرية، وفي الأنفاق التي لا تتوفر معلومات عن مكانها وحجمها.
يرفض حزب الله من جهته العودة إلى ما وراء الليطاني، إذ قال أحد نوابه في البرلمان اللبناني لصحيفة العربي الجديد أنّ: “الاحتلال وداعميه الأميركيين والغربيين لن يفرضوا أيّ مخطط مرتبط بجنوب الليطاني، مهما ارتفعت تهديداتهم، وعلى العدو أن يوقف خروقاته في لبنان، وينسحب من الأراضي المحتلة”، مؤكدًا على أنّ جبهة جنوب لبنان مرتبطة بجبهة غزة، ولن يكون هناك أيّ حديث والعدوان مستمر على غزة، في حين أكّد رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي أنّ بلاده مستعدة لتنفيذ قرار 1701، ولكن بشرط انسحاب الاحتلال من الأراضي اللبنانية المحتلة، وهي مزارع شبعا وتلال كفر شوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر.
ليس من الوارد أن يوافق الاحتلال على هذا الانسحاب، وهو ما يثبته التاريخ، ومن ناحية أخرى لن يكون انسحاب الاحتلال من هذه المناطق هو نهاية المطالب اللبنانية، فهناك 13 نقطة خلافية على الحدود بين لبنان والاحتلال وقرى لبنانية يحتلها الاحتلال منذ عام 1948، غير أنّ موقف حزب الله بهذا الخصوص يعني فعليًا رفضه لفكرة الانسحاب رفضًا كاملًا، وأيضا رفضه لتطبيق القرار 1701، ومن الطبيعي أن يرفض الحزب تنفيذ القرار، لأنّ هذا القرار يدعو ضمن بنوده إلى تطبيق قرارات سابقة لمجلس الأمن، من ضمنها القرار 1559 الصادر عام 2004، الذي يدعو إلى “حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها”.
لا يستطيع الاحتلال وحلفاؤه على أية حال فرض هذه القرارات على حزب الله، لا سيما وأنّ الاحتلال لا يفي بما تطالبه به هذه القرارات، وحتى لو اتجه حلفاء الاحتلال إلى مجلس الأمن لتعديل القرار 1701 وإدراجه ضمن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فإنهم لا يضمنون ألّا يستخدم أحد الأعضاء الدائمين للمجلس، وتحديدا روسيا والصين، حق النقض “الفيتو” ضد إقراراه، وحتى لو تمكنوا من تمريره، فإمكانية تطبيقه بالقوة هي مسألة خطيرة رغم محدوديتها، وقد تؤدي إلى اندلاع حرب يحاول الاحتلال وحلفاؤه تجنبها.
لا يبقى أمام الاحتلال في ظل هذا الواقع المعقّد سوى الخيار العسكري، ولكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر على دولة الاحتلال نفسها، فلدى حزب الله قدرات عسكرية كبيرة ، وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد، ففتح جبهة الحرب معه قد يعني فتح جبهات أخرى بصورة أعنف وأقوى، من ضمنها جبهة الجولان، ما يقود إلى سيناريو اندلاع حرب شاملة لا تريدها الولايات المتحدة ولا الاحتلال.
يصف المحلل السياسي “آري شفيط” هذا الواقع المأزوم في مقال له على موقع “مكور ريشون” العبري، بقوله: “المعضلة واضحة: الوضع الحالي لا يُحتمل، وليس في إمكان “إسرائيل” قبول أن يسكن سكان “كريات شمونه” في طبريا، كما لا تستطيع قبول وضعا يكون فيه من الصعب العيش في “مرغليوت”، وفي “المنارة”، وفي “يفتاح”، وإذا لم يعُد سكان الجليل في أقرب وقت إلى منازلهم، فستنهار الصهيونية من تلقاء نفسها، لكن الحرب الشاملة مع حزب الله، ومع المقاومة الفلسطينية في لبنان، معناه حدث لم نشهد مثله في تاريخنا، لا نعرف ماذا سيجري في قواعد سلاح الجو عندما ستُهاجَم بمئات الصواريخ الدقيقة، وليس واضحاً ماذا سيحدث لمحطات توليد الطاقة عندما ستُقصف، ولا نعرف إلى أيّ حد “إسرائيل” مستعدة لتحمُّل هجوم على منشآتها الاستراتيجية وبناها التحتية الحيوية”، ويضيف أنّ هذا الأمر سيؤدي إلى اندلاع حرب شاملة، ويشكك بإمكانية قبول حزب الله تنفيذ قرار 1701، ويشكك أيضًا في جدوى مثل هذا القرار، “نظراً إلى أنّ عناصر حزب الله مقاتلون مدربون على حرب العصابات، مزروعون وسط السكان المدنيين، ليس من الواضح قط ما هو مغزى إبعادهم إلى ما وراء الليطاني، ومن الصعب تنفيذ سيناريو يقتلعهم من قراهم الشيعية في الجنوب اللبناني، في حين توجد في الأنفاق تحت الأرض مخازن سلاح متطورة وآلاف الصواريخ”، وفي المقابل يدعو إلى تنفيذ القرار 1559، الذي سيرفضه حزب الله بكل تأكيد أيضًا.
انسداد الأفق أمام الاحتلال:
ربما كان قرار الاحتلال بإخلاء مستوطنات الشمال خطأ كبيرًا، وبالرغم من أنّ مستوطنيه كانوا سيطالبون على أية حال بإيجاد حلّ لهم، إلّا أنّ هذه المطالبة لن تكون بالحدة التي هي عليها الآن والمستوطنون يرفضون العودة إلى مستوطناتهم، وأمام هذا الوضع المعقد يضطر الاحتلال للكذب على مستوطنيه، ويدّعي بأن حزب الله بدأ بسحب “قوة الرضوان” من الحدود، وهو خبر سّربه الاحتلال عن قصد، حتى يصوّر لجمهوره بأنّ هناك حلحلة للأزمة في الشمال، وأنّ حزب الله بدأ بسحب قواته فعليًا بعيدًا عن الحدود، ما يمكّنهم من العودة لمستوطناتهم، غير أنّ هذا الادّعاء مخالف للمنطق، ف”قوة الرضوان”، وكل قدرات حزب الله العسكرية، ليست ظاهرة للعيان حتى يزعم الاحتلال أنّ الحزب سحبها، ولو كانت في مرأى الاحتلال لما تردد في استهدافها والقضاء عليها لحرمان الحزب من قوته الهجومية مرة واحدة وإلى الأبد، أو على الأقل سيضمن في هذه الحالة هدنة طويلة الأمد، لأنّ الحزب سيحتاج سنوات طويلة حتى يعيد بناء هذه القوة، في حال استهدفها الاحتلال.
يستمر الاحتلال وقادته العسكريون في ذات الوقت بمحاولة إقناع المستوطنين بأنّ جيش الاحتلال يحقق إنجازات في الشمال، وأنه يُضعف قدرات حزب الله ويردعه، إذ إنّ وزير حرب الاحتلال “غالانت” أدلى بتصريحات على الحدود الشمالية في إطار تقييم أمني عقد في مقر القيادة الشمالية في جيش الاحتلال، قال فيها: “نحن نوجّه ضربات صعبة جدًا لحزب الله، وهناك 150 قتيلًا في صفوفه، كما أنّ هناك أضراراً كبيرة لحقت بممتلكاته، وتم إبعاد قواته عن الخط الحدودي إلى مسافة بعيدة جدًا داخل الأراضي اللبنانية، وسلاح الجو يحلّق بحريّة تامة فوق لبنان، وسنعزز جميع هذه الجهود”.
يرتبط هذا الزعم مع التقارير العبرية التي تشير إلى أنّ الاحتلال خفف من طموحه بإبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني، واكتفى بالمطالبة بإبعاده بضعة كيلومترات عن الحدود، والمقصود أن يكون حزب الله وقواته بعيدين عن مرأى المستوطنين في الشمال، إذ إنّ حزب الله كان قبل الحرب قد نشر عشرات نقاط المراقبة على الحدود، وكان عناصره يظهرون علانية بمحاذاتها، وهو مشهد يحاول الاحتلال إبعاده عن أعين مستوطنيه حتى يطمّئنهم ليعودوا لمستوطناتهم، ولكن مستوطنيه لا يصدقون هذه التصريحات، ويستمرون بالمطالبة بإيجاد حل حقيقي، وإلّا فإنهم لن يعودوا إلى مستوطناتهم، وهذا الواقع يشكّل مأزقًا حقيقًا للاحتلال، وهذا المأزق يتضاعف إذا ما قُرأ في ظل عجز الاحتلال، بعد قرابة 3 أشهر من تحقيق أهدافه في قطاع غزة بالقضاء على حركة حماس، ما يعني أنه قد يواجه مأزقًا في إعادة مستوطني ما يُسمى “غلاف غزة” إلى مستوطناتهم، الذين يرفضون هم أيضا العودة طالما بقيت حماس موجودة.
دراماتيكية الميدان:
أن السيناريوهات المطروحة لابد أن تبقى مفتوحة على خيارات قد يفرضها الميدان، لا سيما أننا نتحدث عن أن الدافع الأساس لإشغال جبهة الشمال لا زال قائمًا، والمتمثل في الاستمرار بالحرب على غزة، وهو ما يعني احتمالية أنّ تتطور، أضف إلى ذلك دخول تطورات دراماتيكية للميدان، كما جرى في عملية الاغتيال التي نفذها الاحتلال “الإسرائيلي” في الضاحية الجنوبية لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، التي قد تفتح الباب إما أمام انزلاق يتطور لإشتغال المواجهة بشكل شامل، أو البقاء ضمن حسابات دقيقة من قِبل حزب الله، وكذلك الحال بالنسبة للاحتلال “الإسرائيلي” انطلاقًا من مبدأ عدم رغبة الطرفين بالدخول في المواجهة المفتوحة، وإنّما محاولة كل طرف منهما الحفاظ على قواعد اشتباك قد تفضي لأثمان سياسية مستقبلية.
أعلن الأمين العام لحزب الله اللبناني في خطابه يوم الجمعة عن أنّ قرار الرد أصبح للميدان، وقد تُرجم على شكل إطلاق رشقات صاروخية يوم السبت 6 يناير/كانون الثاني2024، وهو ما أعلن عنه الحزب أنه رد أولي، في إشارة إلى إمكانية أن يكون هناك تتابع لردود أخرى قد تبقى في ذات المستوى أو تتخطاها بحسب التقديرات التي قد تكون عليها ردة الفعل “الإسرائيلي” بعد ذلك.
في الجهة الأخرى، بات “بنيامين نتنياهو” هو الآخر معني في افتعال الأزمات داخل أروقة الكيان “الإسرائيلي”، أو على الجبهات الخارجية، وقد تكون أحد مصالحه في الذهاب إلى توتير جبهة الشمال لتكون جزءًا من استمرارية حالة المواجهة، والتي يمكن أن توفر له غطاءًا زمانيًا لإطالة مدة الحكم والسيطرة على المشهد السياسي “الإسرائيلي”، أو محاولة توريط الولايات المتحدة الأمريكية لتكون هي في واجهة التصدي للأخطار الخارجية، كما جرى في تشكيل الحلف الأمني الدولي لتأمين التجارة في باب المندب والتصدي للمسيرات والصواريخ التي تطلقها جماعات أنصار الله الحوثي، في كلا الحالتين فإنّ “نتنياهو” لا زال على قناعة تامة أنه في الوقت الذي ستتوقف فيه الحرب سيكون أمام لجان تحقيق على غرار لجنة “فينوغراد” عام2006، على إثر الفشل “الإسرائيلي” في الحرب على لبنان بذلك الوقت.
على الرغم من ذلك، يبقى هناك خيار آخر، وهو ما تلقي به الولايات المتحدة ثقلها وجهودها في ظل زيارة وزير الخارجية “بلينكن” إلى المنطقة، والتي تهدف بشكل أساس إلى خفض مستوى التصعيد، والحد من توسع ارتدادات الحرب على غزة إقليميًا، هذه الجهود الدبلوماسية الأمريكية تعكس حجم المخاوف من القرارات “الإسرائيلية” غير المحسوبة، والتي يمكن أن تعمق الأزمة بدلًا من حلها، وهو ما قد يتوج ذلك بالدفع باتجاه حل سياسي كما أشار إلى ذلك “نتنياهو” ووزير جيشه “غالانت”، على الرغم من ضعف فرص ذلك كما يقولون، أو ربما وفقًا لما ألمح به الأمين العام لحزب الله في خطابة يوم الجمعة عن إمكانية تحصيل حقوق في السيادة على الأراضي المحتلة في جنوب لبنان بشكل مواز لوقف الحرب على قطاع غزة، وكأنه بات هناك بحث في إمكانية قبول الأثمان السياسية مقابل وقف احتماليات التصعيد.
الخاتمة:
إنّ الخيارات المطروحة أمام الاحتلال صعبة ومكلفة، ولكن قد لا يكون أمامه سوى خيار الحرب الشاملة التي يدفع باتجاهها “نتنياهو” وائتلافه الحكومي المتطرف بمشاركة “بنغفير” و”سموتريش”، لتحقيق أهدافهما في البقاء في مربع السياسية والحكم ب”إسرائيل”، ما يشير إلى احتمالية توجّه الاحتلال لهذا الخيار هو حجم التصعيد المتزايد الذي يبادر به الاحتلال تجاه لبنان وسورية وإيران أيضا على الجبهة الشمالية، وكذلك الحال افتعال الأزمات الداخلية لتجب ضغط الشارع في الذهاب إلى صفقة تبادل أو وقف للحرب، إذ شهدت الأيام القليلة المنصرمة تزايدًا في القصف “الإسرائيلي” على أهداف داخل سورية، استهدف بعضها الفصائل الموالية لإيران وعدد من قيادات الحرس الثوري الإيراني، أبرزهم اللواء رضي موسوي، وأمّا على الجبهة اللبنانية، فقد أخذ الاحتلال يصعّد عدوانه ضد قرى الجنوب اللبناني، وصولًا إلى اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري وعدد من قيادات الحركة في لبنان بغارة استهدفت اجتماعًا لهم في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي معقل حزب الله الأساسي.
تعتبر حادثة اغتيال العاروري خرقًا لخطين حمر، أولهما تنفيذ الاغتيال على أرض لبنان، وهو الأمر الذي كان نصر الله قد هدّد بأنه سيقابل برد كبير، والأمر الثاني هو أنّ الاغتيال حدث في بيروت وفي الضاحية الجنوبية معقل حزب الله، وهذا تجاوز لما هو متّبع منذ بداية العدوان، إذ إنّ كل التصعيد انحصر في المنطقة الحدودية، سواء في جنوب لبنان أو في فلسطين المحتلة، ولم يكسر حزب الله ولا الاحتلال هذا المدى طيلة أيام العدوان.
يبدو من مجمل هذه الأحداث أنّ الاحتلال يسعى إلى جر إيران أو حزب الله لفتح الحرب على الجبهة الشمالية، فاغتيال العاروري سيتطلب ردًا من حزب الله، ومن المحتمل أن يستغل الاحتلال هذا الرد لتصعيد العدوان ضد لبنان، ما يؤدي إلى التدحرج نحو الحرب المفتوحة.