الانقسام الطائفي في إسرائيل
يُعتبر التنوع الطائفي، كما التنوع الديني والمذهبي، ظاهرة طبيعية لدى معظم الشعوب. وقد عايشته العديد من الشعوب والدول عبر التاريخ، وما زال يشكل أحد المركبات المجتمعية حتى يومنا هذا. ومن الواضح أنه سيستمر مستقبلاً ما دامت البشرية، لأن الاختلاف مسألة طبيعية. وكلما توسعت البشرية جغرافيًّا وديموغرافيًّا، كلما توسعت اتجاهاتها.
بعض الشعوب والمجموعات تمكنت من التعامل مع هذه التنوعات بإيجابية، فحولتها إلى مصدر قوة وتنافس إيجابي، وبعض الشعوب تحولت التنوعات لديها إلى مصدر للاقتتال ومواصلة النزاع. وفي بعض الحالات تحولت هذه التنوعات إلى حربٍ أهلية راح ضحيتها الآلاف، وربما مئات الآلاف من الناس. هذا ما حدث في رواندا وكثير من دول إفريقيا، وفي أوروبا نفسها قبل الحربين العالميتين وأثناءهما، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا.
أقيمت "إسرائيل" في ظروفٍ استثنائية، ليس لها مثيل في التاريخ، تمثل ذلك في ادعاء فئة دينية التفوق العرقي، ثم انغلاقها على نفسها، ثم ادعاء هذه الفئة "القومية" ملكيتها لوطن شعب آخر، هو الشعب الفلسطيني، وهي تزعم أنها أُبعدت عنه قصرًا لما يقرب من ألفي عام، وأنها ترغب في العودة إليه بأي أسلوبٍ كان. وهذا لم يحصل في التاريخ الحديث، ولا حتى في التاريخ القديم.
احتاجت الحركة الصهيونية لتحقيق ادعائها "باستعادة" فلسطين إلى تجميع اليهود من معظم دول العالم، مما أدى إلى تباين اجتماعي وتنوع طائفي، وخاصة بين اليهود الغربيين الذين يطلق عليهم إشكنازيم، واليهود الشرقيين الذين يطلق عليهم سفراديم.
لم ينجح المشروع الصهيوني في توحيدهم، أو على الأقل في تقليص الثغرات بينهم، ولربما لا يجمع بينهم أحيانًا إلا استشعار الخطر الخارجي، وحتى ضمن الطائفة الواحدة توجد تمايزات واختلافات شديدة. هذا إضافة إلى الثغرات مع الروس والإثيوبيين والعرب، وغيرها من أشكال الانقسام التي تتفشى في المجتمع الإسرائيلي.
منذ أيام "اليشوف"، أي قبل إقامة الدولة، وحتى يومنا هذا، يجري النقاش حول التمايز والفروقات بين الإشكنازيم والسفراديم، لدرجة أن هذه التمايزات وصفت بأنها "عفريت طائفي"، تعبيرًا عن المخلوق المخيف الذي سرعان ما سيخرج من قمقمه، ولكن الذي يمنع خروجه هو استشعار الخطر الخارجي.
الانقسامات في "إسرائيل" كثيرة ومتنوعة، تبدأ من علاقة الدين بالقومية؛ فهل اليهودية هي دين فقط؟ أم هي قومية تُعبّر حتى عن اليهودي غير المؤمن بالدين؟ وهناك أيضًا الانقسام بين العلمانيين والحريديم، أي المتدينين، فالعلمانيون يؤمنون بالحداثة والانفتاح، والمتدينون يؤمنون بأن القانون التوراتي هو القانون الأعلى.
لقد انبثق عن هذا الانقسام حرب ثقافية، فكل تيار يحاول أن يبلور منطلقاته ومحدداته الفكرية بشكل منفصل، حتى بات من المؤكد أنه لا يمكن التجسير بين القضايا الاجتماعية والثقافية المختلفة، ومنها الدعوات إلى الانفتاح والانغلاق، والدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة، وموضوع التجنيد في الجيش، والموقف من قانون العودة الذي يزداد الخلاف بشأنه، وتعريف من هو يهودي: هل يقتصر على من ُولد لأم يهودية، أم يشمل الذين ولدوا لآباء يهود وأمهات غير يهوديات؟ كما تشمل هذه القضايا الانقسام حول حرية الدين والحرية من الدين: هل يجب فرض الحفاظ على السبت وأكل "الكوشير"، أي الطعام الحلال؟ وهكذا (ملخين، 2003).
تتضمن الدراسة ثلاثة أبواب، يستعرض الباب الأول صورة شاملة عن التنوع الطائفي في "إسرائيل"، مركزًا على الإشكنازيم، أي اليهود الغربيين، والسفراديم، أي اليهود الشرقيين، وعلى أهم الفروقات بين الطائفتين وجذور الانقسام بينهما. ويتضمن هذا الباب أهم الأحداث العنيفة التي وقعت على خلفية طائفية، ونظرة اليهود لأنفسهم كـ "أبناء عرق مميز".
ويتناول الباب الثاني أهم معايير التمييز، وهي المجالات التي تكشف الثغرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الطائفتين. ومنها مكان السكن ما بين المدن الكبرى والأحياء الفارهة، وبين القرى ومدن التطوير وأحياء الفقر، ومدى علاقة ذلك بالفرز الطائفي. ومنها أيضًا مستوى الحياة ونسبة الدخل لدى كل من أبناء الطائفتين، لأن هذا المعيار مهم في التحصيل الأكاديمي وتحديد مكان السكن، وبالتالي في الاهتمام والاندماج في المشاركة السياسية. ومن المعايير أيضًا التفاوت في التوظيف وتولي الوظائف العليا في الدولة، كالمحكمة العليا والمدراء العامين في الوزارات.
أما الباب الثالث فيستعرض مخاطر استمرار عدم تحقيق المساواة بين الطائفتين، محللاً كل حالة بالأمثلة المتعلقة بها.
تحاول هذه الدراسة الإجابة على بعض التساؤلات التي، بمجموعها، تكشف عن الصورة العامة للشأن الداخلي في "إسرائيل"، وبالتالي يمكن أن ترسم صورة عن سيناريوهات المستقبل، انطلاقًا من التقديرات المتعلقة بالصراع الطائفي.
تتدرج التساؤلات من التساؤل حول مفاهيم الإشكنازيم والسفراديم، وكيف نشأت هذه التقسيمات قبل إقامة الدولة وبعدها؟ وهل وصل التصنيف الطائفي إلى حد الانقسام، وهل وقعت أحداث عنيفة على هذه الخلفية؟ ما هي أهم مقاييس التمايز الطائفي، وما هي دلالاتها؟ ما هي الإجراءات والخطوات التي اتخذتها "إسرائيل" لإزالة الصراع الطائفي، أو التخفيف من حدته؟ وهل نجحت أم فشلت في ذلك؟ ثم تتصاعد التساؤلات نحو: هل هناك تغير في النظر إلى الانقسام الطائفي في العشر سنوات الأخيرة مقارنة بما قبلها؟