الانتخابات الفلسطينية وطريق إعادة بناء النظام الفلسطيني وإنهاء الانقسام
مراد أبو البهاء
أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 15/1/2021 مرسومًا حدد فيه مواعيد إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية واستكمال المجلس الوطني، وذلك بعد موافقة حركة حماس على إجراء هذه الانتخابات بشكل متتالٍ، وبناء على تعهدات حصلت عليها من عدة دول في المنطقة، تتضمن إجراء الانتخابات بمراحلها الثلاثة خلال ستة شهور.
ومنذ الانقسام الفلسطيني عام 2007، دخلت حركتا فتح وحماس في عدة جولات من الحوار، ووُقعت العديد من الاتفاقيات بينهما برعاية دولٍ عربية وإقليمية، إلا أن تلك الاتفاقيات لم تجد طريقها للتطبيق، وبقي الانقسام على حاله. غير أن الخطوات المتسارعة التي حصلت في العامين الأخيرين، وأهمها صفقة القرن، وخطط الضم، واتفاقيات التطبيع، دفعت الحركتين إلى البدء بجولةٍ جديدةٍ من الحوار، فتم ما عُرف بمؤتمر الرجوب والعاروري من رام الله وبيروت عبر الفيديو في 2/7/2020، ثم تم ما عُرف باجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في 3/9/2020، وذلك للاتفاق على استراتيجيات إنهاء الانقسام الداخلي، والوقوف في وجه مخططات تصفية القضية الفلسطينية. كل ذلك مهّد لإصدار المرسوم الرئاسي بشأن الانتخابات.
كما أن تردي الوضع الفلسطيني الداخلي، وتراجع دور المؤسسات الرقابية بعد حل المجلس التشريعي، وسطوة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، والتي تمثلت مؤخرا بإصدار الرئيس محمود عباس في 12/1/2021، مرسومًا بتعديل قانون السلطة القضائية… كل ذلك يستوجب العمل الجدي من قبل الجميع، من أجل إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وتحديثه من جديد، ولا طريقة لذلك بغير الانتخابات.
ولكن يبرز هنا سؤال محوري وهام، كيف يمكن للتوافق الأخير الذي جرى بين الفصائل الفلسطينية على إجراء الانتخابات العامة، أن يكون مدخلًا حقيقيًا لإعادة بناء النظام الفلسطيني، وإنهاء الانقسام؟
ومع أن فرص التراجع، أو تأجيل إجراء هذه الانتخابات قد تكون واردة، فإن هذه الورقة تطرح عدة سيناريوهات في هذا الموضوع.
السيناريو الأول: الذهاب إلى انتخابات بقوائم فصائلية وغير فصائلية:
يطرح هذا السيناريو فكرة أن تذهب الفصائل الفلسطينية، كل بشكل منفصل، وكذلك المستقلين، إلى تشكيل قوائم خاصة، لخوض الانتخابات، والمنافسة على مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، والعمل بشكل منفصل، كل من طرفة، على كسب أصوات الناخبين.
من المعروف أنه، وخلال أية انتخابات تقليدية من هذا النوع، تطفو إلى السطح، وبقوة، الخلافات بين المتنافسين، وتدخل الأحزاب في مشاحنات كبيرة خلال فترة طرح البرامج الانتخابية، ولا تخلو الحملات الإعلامية للأحزاب المتنافسة من هجوم على الخصوم، وتوجيه الانتقادات لهم، وذلك في محاولةٍ لكسب أصوات الناخبين كل لصالحه.
وفي الحالة الفلسطينية، من المتوقع أن تكون حدة الاستقطاب عالية في أجواء كهذه، خاصة في ظل انعدام الثقة بين مؤيدي الفصيلين الكبيرين وكوادرهما، والذي أوصل الأمور إلى حد الاقتتال الداخلي عام 2007.
ولا يمكن لحالة الانقسام الحاصلة بالفعل على أرض الواقع، إلا وأن تفرض حضورها على المشهد، من قبيل غياب الحريات، أو تقييدها على أقل تقدير، أثناء ممارسة الدعاية الانتخابية، وستدخل حركتا فتح وحماس في سجالٍ واتهامات متبادلة بخصوص تقييد الحريات.
كما أن تجربة حركة حماس في الضفة الغربية في انتخابات عام 2006، وقيام الاحتلال آنذاك باعتقال جميع أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين على قائمتها، وكذلك العاملين في حملتها الانتخابية، ستبدو حاضرة، ومن غير المتوقع أن تذهب الحركة إلى إعادة تكرار نفس التجربة، وبنفس الطريقة.
و في حال تمكن الجميع من تجاوز كل العقبات سابقة الذكر، رغم صعوبة ذلك، سيعيد إفراز الانقسام، ولكن بطريقة ديمقراطية. فإذا ما تمت الانتخابات بنزاهة، فمن المتوقع أن تتقاسم الحركتان أصوات الناخبين، وبنتائج متقاربة جدا، وما يتبقى من مقاعد قليلة يتقاسمها المستقلون وقوائم الفصائل الأخرى، وذلك لن يغير الكثير من المعادلة. وبذلك فإن الذهاب إلى الانتخابات بهذه الطريقة، لن يحقق غاياته، فلا نتاج لمؤسسة تشريعية مستقرة تمارس دورها وصلاحياتها الرقابية والتشريعية، ولا إنهاء لحالة الانقسام الداخلي الفلسطيني.
السيناريو الثاني: الذهاب إلى الانتخابات بقائمة مشتركة:
يطرح هذا السيناريو فكرة أن تذهب حركتا فتح وحماس إلى تشكيل قائمة مشتركة، وقد ينضوي في إطارها أيضا مستقلون وفصائل أخرى، وتخوض هذه القائمة الانتخابات ضد أية قوائم أخرى قد تدخل حلبة المنافسة.
يبدو هذا الخيار من السهولة، بحيث يمكّن كلا الحركتين من تجاوز أغلب عقبات السيناريو الأول، فلا استقطاب أو حملاتٍ إعلاميةٍ، أو صدامات ميدانية بين كوادر الحركتين على الأرض، ولا تقييد للحريات يستهدف أيا من الأطراف المشاركة في هذه الانتخابات. كما ستتمكن حركة حماس بذلك من تجاوز معضلة استهداف الاحتلال لها في الضفة الغربية، وسيتاح أمامها الكثير من الخيارات وقتها. والانتصار المحقق والأكيد آنذاك، هو انتصار لكلا الحركتين.
غير أن المشاركة في الانتخابات بهذه الطريقة، يلقى معارضة قوية من قبل الكثير من الكوادر والقيادات في كلا الحركتين. فاختلاف البرامج السياسية، وتاريخ الصراع الطويل بينهما، والذي دفعت هذه الكوادر ثمنه على الأرض، ما زال حاضرا. كما أن الكثير من القيود المفروضة، والتي تستهدف، بشكل أو بآخر، ذات الكوادر والقيادات، لم يتم تجاوزها بعد، من قبيل استمرار الاعتقالات السياسية، والملاحقات الأمنية، وتقييد الحريات على الأرض، وسياسة قطع الرواتب، وفرض العقوبات. كل ذلك ما زال حاضرًا، وبقوة، في مشهد الانقسام الداخلي.
كما أن المشاركة في الانتخابات بقائمة مشتركة، في حال تم تجاوز عقبات المعارضة الداخلية في كلا الفصيلين، يُفرغ الانتخابات من مضمونها، وبذلك يكون الرجوع إلى الشارع شكليا، ولن تستطيع قوائم أخرى المنافسة بجدية، وهذا سيدفع أعدادًا كبيرةً من الناخبين والمرشحين المحتملين، للعزوف عن المشاركة في هذه الانتخابات.
قد يكون هذا الخيار هو الخيار الأسهل من ناحية خصوصية واقع الانقسام الفلسطيني، ولكنه بالتأكيد، لن يكون الأمثل لبناء نظام سياسي فلسطيني جديد، وستعود بذلك نفس الشخوص إلى ممارسة مهامها في النظام السياسي الفلسطيني، ولا يتوقع أن يكون هناك تغيير جذري في السياسات والنهج، وسيتعامل الفلسطينيون مع الانتخابات على أنها انتخابات شكلية، ومضمونة النتائج.
السيناريو الثالث: إعادة تعريف دور مؤسسات النظام الفلسطيني من جديد
بالنظر في السيناريوهين السابقين، يبدو أن الفلسطينيين أمام خيار صعب، فهم يبغون إعادة بث الروح في نظامهم السياسي، وإعادة بناء مؤسساته، ولا سبيل لذلك بغير انتخابات تقليدية وفق السيناريو الأول، غير أن الانتخابات بصيغتها تلك، قد تدمر مسعىً آخر، ورغبة عارمة أخرى يرجون تحقيقها، ألا وهي إنهاء الانقسام.
وبما أن فكرة تجاوز الخلافات العميقة بين الفصيلين الكبيرين فتح وحماس، عبر خوض الانتخابات بقائمة مشتركة وفق السيناريو الثاني في حال تحققت، لن يُحدث تغييرًا جوهريًا في الهدف المرجو بإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وبث الروح في مؤسساته.
من هنا، وللخروج من هذا المأزق، بين الرغبة في الحصول على ثمرة الانتخابات بإعادة بث الروح في مؤسسات النظام الفلسطيني من جهة، وعدم الرغبة بالدخول في حالة استقطاب بين الفصائل الفلسطينية، وتعزيز الانقسام الداخلي من جهة أخرى، تبدو فكرة إعادة تعريف المهام المنوطة بمؤسسات النظام الفلسطيني، والهدف من إعادة تشكيلها عبر الانتخابات، مهمة جدا. فالمجلس التشريعي الفلسطيني هو الجهة صاحبة الاختصاص في سن القوانين، ومراقبة تنفيذها من قبل الحكومة الفلسطينية، والتي بدورها تختص في إدارة وتسيير شؤون الحياة اليومية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبوضوح الدور المنوط بالمجلس التشريعي للقيام به، واتفاق الجميع على الرغبة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد عبر هذه الانتخابات، فلا أقل من أن تتفق حركتا فتح وحماس بالضرورة، ومعهما باقي الفصائل الفلسطينية إن أمكن، بعد الانتخابات التشريعية، على تشكيل كفاءات مشهود لها بالنزاهة، وقد تكون هذه الشخصيات مستقلة أو غير مستقلة، شرط إعلان استقالة من يتم التوافق عليهم من فصائلهم، في حال كان لهم أي انتماء فصائلي.
وبذلك يتم تشكيل حكومة إلى حد ما، بعيدة عن الفصائلية، وتحظى بالتنوع المطلوب للقيام بدور وطني معروف، بعيدًا عن السياسة، أو إدارة الصراع مع الاحتلال. صحيح أن العقبات التي تواجهها الحكومة الفلسطينية والمجلس التشريعي يوميًا في إدارة حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، هي عقبات كثيرة، غير أن دورهما يقتصر على إدارة الحياة المدنية للفلسطينيين، والصمود أمام إجراءات الاحتلال.
وانطلاقا من ذات المبدأ في إعادة تعريف مهام مؤسسات النظام الفلسطيني، تتحمل منظمة التحرير الفلسطينية، صاحبة الولاية السياسية على القضية الفلسطينية، مسؤولية مواجهة الاحتلال، وتأخذ دورها المنوط بها، وعبر انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، الذي يفترض أن يمثل فلسطينيي الداخل والشتات، وتدخل هنا الفصائل الفلسطينية للمنافسة على مقاعده، حتى تتمكن من طرح رؤاها السياسية ومشاريعها عبر المجلس الوطني، وهو اللبنة الأولى في إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. وعدم اعتماد فكرة استكمال المجلس الوطني التي جاءت في المرسوم الرئاسي لإعلان الانتخابات العامة، والتي تثبت بنية المجلس الوطني الحالي.
وتقوم المنظمة بعد ذلك، عبر مجالسها المنتخبة، والبعيدة إلى حد ما عن سطوة الاحتلال، بتحديد البرنامج السياسي، وأساليب النضال في وجه الاحتلال، والتي تتناسب ومتطلبات المرحلة، وذلك بحكم إمكانية عقد اجتماعات المجلس الوطني في الخارج.
خلاصة
وفق السيناريو الثالث، وبتشكيل الحكومة الفلسطينية المنبثقة عن المجلس التشريعي المنتخب، والتي تمارس دورها وصلاحياتها المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك بتشكيل مجالس منظمة التحرير المنبثقة عن انتخاب المجلس الوطني، ممكن أن يتحقق كلا الهدفين: إنهاء الانقسام، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني.
وتبقى مؤسسة الرئاسة، والتي يبدو أن التداخل في صلاحياتها السياسية، سيكون واضحًا مع المنظمة وقيادتها. فالأسلم هنا، هو تأجيل انتخاب الرئيس إلى ما بعد إعادة بناء المنظمة، وقد يتم تدارس خيار إبقاء المنصب، أو إنهائه، في ظل وجود رئيس ومجالس للمنظمة تهتم بالشأن السياسي، وتدير الصراع مع الاحتلال.
ولعل هذه الحالة، هي الوحيدة التي يمكن فيها للانتخابات أن تشكل رافعةً للحالة الفلسطينية، وأن تساهم في إعادة بناء النظام الفلسطيني، بعيدًا عن الدخول في استقطابٍ ومناكفاتٍ بين الفصائل، ويكون نتاج هذه الانتخابات وحدة حقيقية، وجهودًا مشتركة من الجميع في تحمل أعباء المرحلة، كل في موقعه، ومؤسسته المنتخبة ديمقراطيًا، والمدعومة شعبيًا.