الانتخابات الإسرائيلية الثانية عام 2019: الأزمة والمستقبل
خمسة أشهر فقط هي المدة التي فصلت بين انتخابات الكنيست الإسرائيلي الـ 21، والكنيست الـ 22، وكانت هذه المدة كافية لجميع الكتل والقوائم، لإعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها من جديد، خاصة بعد أن تبين أن صوتًا واحدًا فقط، قد يكون له دورٌ في حسم مصير الحكومة القادمة لأربع سنوات. كما كانت هذه المدة كافية لأفيغدور ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، ليلقن شريكه السابق بنيامين نتنياهو، درسا في أصول التعامل لن ينساه طيلة حياته، وربما يودي به بعد عشر سنوات على كرسي رئاسة الحكومة، ليس فقط إلى مقاعد المعارضة، بل ربما إلى غرف سجن أيلون في مدينة الرملة. خمسة أشهر كانت كافية لإدخال النظام السياسي الإسرائيلي برمته، في أزمة حقيقية لم يسبق لها مثيل منذ تأسيس دولة الاحتلال. فقد أسفرت النتائج من جديد عن حصول كل من الكتلتين الكبيرتين على عدد من المقاعد أقل من المطلوب لتشكيل الحكومة، حيث حصل تجمع اليمين بزعامة نتنياهو على 55 مقعدا، بينما حصل تجمع الوسط واليسار بزعامة بيني غانتس على 57 مقعدا، وحصد ليبرمان الـ8 مقاعد المتبقية من أصل 120 مقعدًا، هي عدد أعضاء الكنيست.
ليبرمان يعيد ترتيب أولويات المجتمع الإسرائيلي
بعد عشر سنوات متواصلة من حكم اليمين بزعامة نتنياهو، واصل فيها الأخير سياسة تعزيز الاستيطان والتهويد، والعدوان على الفلسطينيين، والتحريض عليهم، مستغلا الظروف الصعبة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وانشغال العرب بأوضاعهم الداخلية، إضافة إلى تمزق الحالة الفلسطينية في ظل الانقسام، باثا سيلا هائلا من خطاباته العنصرية والمتطرفة، التي منحته خلال تلك السنوات شعبية كبيرة في صفوف أنصار اليمين والمستوطنين، وجاعلا من محاربة الفلسطينيين، وضم أراضيهم في الضفة الغربية إلى دولته بشكل رسمي أهم أولويات المجتمع والدولة. لكن ذلك توقف فجأة بفعل قرار أفيغدور ليبرمان، اليميني المتطرف، وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، بعد أن قرر الانسحاب من الحكومة في أواخر عام 2018 والذهاب إلى الانتخابات، على خلفية الخلاف بشأن قضايا الدين والدولة، وتحديدًا حول قضية تجنيد طلاب المدارس الدينية في صفوف الجيش، وهم التابعون عمليًا لحزبي “شاس” و “يهودوت هتوراه”، وهما الحزبان الممثلان لجمهور المتدينين الحريديم في الحكومة.
ومنذ ذلك الحين، باتت قضية علاقة الدين بالدولة هي القضية الأساس على سلم أولويات الناخب الإسرائيلي، إلى جانب القضايا الاقتصادية. لقد تراجع الملف الفلسطيني كثيرا في الدعاية الانتخابية للأحزاب، وفي برامجها المعلنة، مما أسهم في سحب إحدى الأوراق القوية من يد نتنياهو، والتي كان يستخدمها دائما كفزاعة في وجه الجمهور الإسرائيلي، مدعيًا بأنه الوحيد القادر على توفير الأمن في دولة الكيان. ومقابل ذلك أدرك ليبرمان جيدا حاجة الجمهور الكبير من العلمانيين، بمن فيهم علمانيو اليمين، إلى ضرورة وضع حد لتزايد تغوّل المتدينين على الدولة في السنوات الأخيرة، وفرْضهم لكثير من القوانين، سواء فيما يتعلق بإعفائهم من التجنيد، أو في قوانين العائلة، أو فيما يتعلق بعطلة السبت، وغيرها من القضايا التي تمس الحياة اليومية لليهود بشكل عام.[1]
إضافة إلى ذلك، استطاع ليبرمان خلال الخمسة أشهر الماضية، أن يقنع الكثيرين في دولة الاحتلال أنه لم يكن السبب في حالة الضعف الماثلة أمام قطاع غزة، الذي انطلقت منه الصواريخ بكثافة بعد استقالة ليبرمان، حيث تولى نتنياهو نفسه وزارة الدفاع في تلك الفترة، دون أن يفعل شيئا واحدًا أكثر مما فعله ليبرمان خلال العام الذي أمضاه في وزارة الدفاع. لقد بات واضحًا للجميع رغبة نتنياهو في عدم الدخول في مواجهة مع قطاع غزة لأسباب وحسابات كثيرة، وبالتالي تأكد ادعاء ليبرمان أنه لم يكن العقبة في وجه قرار الرد بعنف تجاه مطلقي الصواريخ من القطاع.
أزمة الانتخابات… هل تقود إلى تغيير شكل النظام السياسي؟
في الجولة الثانية من انتخابات 2019، حصل حزب الليكود بزعامة نتنياهو على 32 مقعدًا، وحزب شاس على 9 مقاعد، وحزب يهودوت هتوراه على 7 مقاعد، وحزب اليمين الجديد على 7 مقاعد أيضا، وبذلك يبلغ عدد مقاعد اليمين 55 مقعدًا. بينما حصل تجمع المركز واليسار على 57 مقعدًا توزعت كما يلي: حزب “أزرق أبيض” بزعامة بيني غانتس 33 مقعدًا، القائمة العربية الموحدة 13 مقعدًا، حزب العمل 6 مقاعد، والمعسكر الديمقراطي 5 مقاعد، وحصل حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة ليبرمان على 8 مقاعد.[2]
أعاد هذا المشهد الجميع إلى نفس النقطة التي كانوا عليها قبل خمسة أشهر، مع فارق بسيط وهو أن اليمين تراجع من 60 مقعدًا إلى 55، بينما قفز ليبرمان من 5 مقاعد إلى 8، كما أن العرب ازدادت مقاعدهم بعد الاتحاد في قائمه واحدة، من 10 مقاعد إلى 13.
في هذه الحال، فإن أيًا من الطرفين، اليمين واليسار، عليه إقناع ليبرمان بالانضمام إليه ليحقق النسبة المطلوبة لتشكيل الحكومة، وهي 61 مقعدًا، أو أن يتفق الطرفان على تشكيل حكومة وحدة، الأمر الذي يبدو حتى اللحظة بعيد المنال.
في البداية، كلف رئيسُ الدولة رؤوفين ريفلين رئيسَ حزب الليكود بنيامين نتنياهو بتشكيل الحكومة. ولكن نتنياهو فشل في ذلك، وانتهت المدة الممنوحة له دون التوصل إلى اتفاق مع الأحزاب، فهو لا يريد، ولا يستطيع الذهاب إلى حكومة وحدة دون شركائه من اليمين. كما أن ليبرمان رفض كل العروض للانضمام من جديد إلى تحالف اليمين، مُمْعنًا في إذلال الليكود ونتنياهو ليسقيهم من نفس الكأس المر الذي جرعوه إياه قبل أقل من عام، حتى أخذ الخلاف أبعادًا شخصية رافقها كيْلٌ من الشتائم والسباب بين الطرفين، وصل ذروته عندما وصف ليبرمان وزيرة الثقافة ميري رجيف بأنها بهيمة، ووزير الخارجية يسرائل كاتس بأنه حقير وكاذب، وهما من حزب الليكود.[3]
واليوم، أحال رئيس الدولة التكليف إلى بيني جانتس، وبذلك يصبح الوضع أكثر تعقيدًا لسبب بسيط، وهو أن ليبرمان لا يستطيع الذهاب إلى حكومة مع العرب لأسباب أيديولوجية بحتة، لأنه إذا ما أقدم على ذلك فقد يكلفه الأمر خسارة أغلب جمهوره في المستقبل. لكن يبقى هناك احتمال ضئيل، وهو أن يدعم العرب حكومة أقلية بزعامة جانتس من الخارج، بمعنى أن لا يشاركوا في الحكومة، وإنما يمنحونها الدعم في الكنيست، وهذا قد يحدث رغم صعوبته، وذلك بسبب رغبة العرب وليبرمان في الخلاص من نتنياهو. أما الخيار الأخير، والذي لا يريده الجميع، فهو الذهاب إلى انتخابات ثالثة قد تقود إلى نقطة الصفر من جديد.[4]
لكن الأهم من ذلك كله، هو أن الأزمة الحالية، وغير المسبوقة في تاريخ الكيان، أعادت إلى الواجهة من جديد الحديث عن ضرورة التفكير في تغيير شكل النظام السياسي، حيث بدأت تعلو الأصوات المنادية بضرورة إعادة انتخاب رئيس الحكومة من قبل الشعب مباشرة، أو أن يتولى رئاسة الحكومة، وبشكل تلقائي، زعيم الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد. لكن ذلك بالتأكيد، لن يكون قبل الخروج من الأزمة الحالية، وممارسة الكنيست لعمله وصلاحياته.[5]
نهاية اليمين أم نهاية نتنياهو؟
يدرك قادة أحزاب اليمين جيدا أن ما حدث هو ضربة موجعة لهيمنتهم على الدولة ومؤسساتها، حيث مكنتهم فترة العشر سنوات الماضية والمتواصلة، من تعيين عدد كبير من كبار الموظفين في الدولة، سواء في المؤسسات العسكرية والأمنية، أو القضائية والقانونية، أو مختلف الوزارات والمجالس المحلية، وهم ممن ينتمون سياسيا لليمين، لكن ذلك مهدد الآن بالتوقف، إذا لم يستطع اليمين مواصلة قيادة الحكومة.
يبدو أن أحد أهم معضلات اليمين هو نتنياهو نفسه؛ فهم يدركون تماما أن خروجه من المشهد سيفقدهم الشيء الكثير، خاصة في ظل عدم وجود أي شخص حاليا في صفوف اليمين قادر على سد الفراغ بذات الكفاءة ونفس المقدرة، ويحظى بإجماع كل أحزاب اليمين. ومن ناحية أخرى، يرى الكثيرون في اليمين أن هناك إمكانية لمواصلة البقاء في السلطة عبر تشكيل حكومة وحدة مع حزب “أزرق أبيض” بالتناوب وبعيدا عن نتنياهو. وخلال تلك الفترة يتم العمل على تحضير وتأهيل شخصية يمينية قادرة على سد الفراغ الذي سيتركه نتنياهو، مراهنين على إمكانية تفكك حزب “أزرق أبيض” مستقبلًا، كما هي حال أحزاب الوسط واليسار تاريخيًا. لقد استعد جانتس لحكومة وحدة مع الليكود، يتبادل فيها رئاسة الحكومة مع عضو من الحزب بشرط أن لا يكون نتنياهو، واستعد أن لا يكون هو البادئ في رئاسة الحكومة. لكن نتنياهو كان منتبهًا لذلك، فدعا إلى انتخابات داخل الليكود على رئاسة الحزب، إلا أن مجلس قيادة الليكود اكتفى بقرار ينص على أن ممثلهم الوحيد لرئاسة الحكومة هو بنيامين نتنياهو.[6]
ليس من السهل القول إن فترة حكم اليمين إلى زوال، سواء بنتنياهو أو بدونه؛ لأن أنماط التصويت لدى فئات عديدة من المجتمع الصهيوني آخذة بالاتجاه نحو اليمين. فمثلًا، الحريديم وغالبية الشرقيين والروس يصوتون بنسبة عالية جدا لليمين، ومن المتوقع استمرارهم بذلك، كما أن نسبة التصويت لديهم أعلى من غيرهم. وإلى حين عودة الحياة من جديد لصفوف أنصار اليسار والوسط، لا يمكن تأكيد نهاية عهد اليمين في دولة الكيان. كما يجب الأخذ بالحسبان أن ليبرمان هو يميني متطرف، لكن خلافه الشخصي مع نتنياهو، وأهمية قضايا الدين والدولة لدى جمهوره، جعلته يدير ظهره لليمين، لكن ذلك كله بالتأكيد مؤقت.
العرب…مكسب بطعم الخسارة
استفاد العرب جيدا من إعادة الانتخابات، فقد حصلوا في الجولة السابقة على 10 مقاعد توزعت على قائمتين، لكنهم عادوا واتحدوا في هذه الجولة في قائمة واحدة حصدت 13 مقعدًا، بعد أن استطاعوا إقناع جمهورهم بالنزول إلى صناديق الاقتراع، والتصويت للقائمة المشتركة. كما أن تحريض نتنياهو وبعض أقطاب اليمين ضدهم أسهم في تعزيز نسبة التصويت في الوسط العربي. ولا شك أن ذلك سيمنحهم قوة أكبر، ومقدرة على المناورة أفضل من قبل، لكن ذلك يجب فهمه في سياقه الصحيح، فالمؤسسة الصهيونية بشكل عام تنظر بعين الشك والريبة إلى العرب داخل الكيان. لكن أهمية وجود الأحزاب العربية، وحضورها السياسي، تبرز في الحفاظ على الهوية الجمعية للعرب كسكان أصلانيين داخل كيان استعماري استيطاني يسعى كل يوم لمحو هويتهم، ويعمل جاهدا على “أسرلتهم”. لا شك أن حجم المشاركة العربية لن يغير في جوهر السياسة الصهيونية كثيرا، التي تصوغها في الأساس المؤسسة الصهيونية. لكن توحّد العرب في قائمة واحدة قد يمنحهم وزنًا مؤثرًا داخل الكنيست، وفي التصويت على القوانين، وخاصة في ظل حالة الانقسام الحاد داخل اليمين. كما يمكن تعزيز الحضور العربي مستقبلًا، ورفع نسبة التصويت لدى العرب. فبالحسابات النظرية البحتة يمكن للعرب الحصول على 20 مقعدًا إذا ما زادت نسبة التصويت في صفوفهم عن 85%، وهذا ممكن إذا لمس المواطن العربي إيجابية حقيقية لدور القائمة العربية في الكنيست.
وأخيرًا، يبقى النجاح العربي الصغير داخل الكيان، ممزوجًا بالرغبة الصهيونية الدائمة في تحجيم دورهم، وإبقائهم على هامش التأثير في شتى المجالات. لكن السنوات الأخيرة أثبتت مقدرة العرب على منافسة الصهاينة في كثير من المجالات، فهل تمنح السياسة وتعقيداتها وخباياها، العربَ إمكانية التأثير سياسيًا، والتخفيف من سياسات”إسرائيل” البشعة تجاه قضاياهم، وهم المواطنون الأصلانيون داخل الكيان؟ من المبكر التفاؤل، في دولة تعتبر جزءًا ليس بالقليل من مواطنيها أعداء.[7]
[1])رويتل فولج. (10-6-2019).هبحيروت هلالو هن هزدمنوت لهفردات دت ومديناه،(هذه الانتخابات هي فرصة لفصل الدين عن الدولة). تم الاسترداد من https://bit.ly/2OZ4TKW
[2]معريخت هبحيروت (عملية الانتخابات للكنيست الـ 22).تم الاستردار من المركز الإسرائيلي للديمقراطية.(24-9-2019)، https://bit.ly/2oX9GSr
[3]هأرتس (7-10-2019) ليبرمان:ميري ريجيف بهما ويسرائيل كاتس شكران،(ليبرمان: ميري ريجيف بهيمة ويسرائيل كاتس كاذب) تم الاسترداد منhttps://bit.ly/35PDwJm
[4]معاريف (16-10-2019). بكحول لفان لو بوسليم ممشيلت أحدوت بتميخات همشوتيفت(في أزرق أبيض لا يستبعدون حكومة أقلية بدعم من القائمة المشتركة) تم الاسترداد منhttps://bit.ly/2VXkL1N
[5]جلعاد شارون (3-10-2019). شتي أفشريوت لشينوي شيطات هممشال(خياران لتغييرنظام الحكم). تم الاسترداد من https://bit.ly/35Oval5
[6]آنا بارسكي (10-10-2019). نتنياهو لو هجيع، مركاز هليكود أشرر ات معمدتو لرشوت هممشلاه(نتنياهو لم يصل، مركز الليكود أقر ترشحه لرئاسة الحكومة). تم الاسترداد منhttps://bit.ly/2J4pM3G
[7]رفائيل جويخمن (11-9-2019). نتنياهو: هعرفيم روتسيم لهشميدات كولانو( نتنياهو: العرب يريدون تدميرنا كلنا). تم الاسترداد منhttps://bit.ly/2BvNktK