الاعترافات بالدولة الفلسطينية.. الدلالات القانونية والتبعات السياسية

تحوّل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر2025، إلى منصة تتويج للاعترافات بالدولة الفلسطينية شملت 11 دولة غربية جديدة (فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال ولوكسمبورغ وبلجيكا وأندورا ومالطا وموناكو وجمهورية سان مارينو)، ليرتفع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى 160 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة.

تسارع العديد من الدول للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتحديدًا الدول الغربية الكبرى، أثار العديد من التساؤلات القانونية والسياسية، ما دفع مركز رؤية للتنمية السياسية وموقع الجزيرة نت، لاستقراء رأي عدد من الخبراء القانونيين والسياسيين حول الدلالات القانونية والتبعات السياسية لهذه الاعترافات، وقراءة البيئة السياسية الدافعة لذلك في هذا التوقيت.

وقد تم استعراض الآراء من خلال المحاور والأسئلة التالية:

– لماذا اختارت الدول الغربية هذا التوقيت للاعتراف بدولة فلسطين؟

– ما التوصيف القانوني لدولة فلسطين في ظل الاعترافات المتزايدة من قبل العديد من الدول الأوروبية؟

– كيف تنعكس هذه الاعترافات على المكانة القانونية لدولة فلسطين، سواء في العلاقة مع الاحتلال أو أمام المحافل الدولية؟

– ما الخيارات القانونية التي يمكن اللجوء إليها فلسطينيا في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، وملاحقة الاحتلال وجرائمه وانتهاكاته؟

– من الناحية السياسية، ما الانجازات التي تحققت فلسطينيا جراء هذه الاعترافات؟

– ما المطلوب فلسطينيا في هذا التوقيت لاستثمار الاعتراف بدولة فلسطين لتعزيز القضية الفلسطينية؟

– هل يمكن أن تشكل هذه الخطوة التفافا على المطالب الشعبية التي بدأت تتصاعد على المستوى الدولي لمحاكمة “إسرائيل” وإنهاء الاحتلال في ظل حرب الإبادة على غزة؟

– ما أهمية هذه الاعترافات في ظل استمرار تصعيد الاحتلال على الأرض، من ناحية الإبادة في غزة، والضم والاستيطان في الضفة الغربية؟

ويمكن تلخيص آراء الخبراء بما يلي:

  • توقيت الاعترافات يعتبر خطوة استباقية في مواجهة الرؤية الإسرائيلية اليمينية المتشددة، التي تعمل على تثبيت سيطرة “إسرائيل” على الأرض، وتهميش أي حل سياسي قائم على القانون الدولي.
  • التوقيت يمنح فرصة لأوروبا لاستعادة دورها السياسي والقانوني في الملف الفلسطيني في مواجهة النفوذ الأمريكي.
  • إنهاء أو تحجيم المقاومة قد يكون هدفا في هذا التوقيت، وذلك لخلق بديل سياسي لمنع تعزيز النموذج المقاوم.
  • الضغط الشعبي غير المسبوق في معظم الدول الغربية، وتعاظمه في ابتكار آليات جديدة، والخشية من تحوله لمطالب أكثر تشدداً تجاه العلاقة مع “إسرائيل”، دفع تلك الدول للاعتراف بدولة فلسطين باعتبارها الخطوة الأقل ثمناً.
  • شعور الدول الأوروبية بتحولات عميقة دوليا، وخشيتها من تصاعد الحرب الأوكرانية الروسية، دفعها للتحضير للولوج إلى الساحة العربية على أساس المصالح المؤقتة؛ بهدف إسنادها فيما يتعلق بالملف الأوكراني الروسي.
  • يجب النظر إلى الاعتراف بدولة فلسطين أبعد من كونه مجرد عمل سياسي، بل يجب أن يترتب عليه آثار قانونية تتحملها الدول المعترفة.
  • يشكل الاعتراف ركيزة أساسية في تحديد الوضع القانوني لدولة فلسطين في إطار العلاقات الدولية.
  • الاعتراف لا ينشئ الدولة، لكنه يُعد إقرارا بوجودها ككيان يملك مقومات الدولة.
  • الاعتراف جزءًا من استراتيجية أوروبية متدرجة للضغط الرمزي والسياسي على “إسرائيل”، من أجل فرض حل الدولتين دون انتظار تغيرات على النطاق السياسي الإسرائيلي.
  • من الناحية القانونية ستصبح فلسطين دولة تحت الاحتلال، أي أنها دولة لا تتمتع بالسيادة على إقليمها لأنها محتلة.
  • الاعتراف يجعل الدول المعترفة شريكة بالانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها “إسرائيل”، إذا لم تتخذ خطوات فعالة لوقف هذه الانتهاكات.
  • يجب أن تتوفر الإرادة الفلسطينية للاستفادة من هذه الاعترافات على صعيد مقاضاة “إسرائيل” على جرائمها.
  • لا تزال العضوية الكاملة في الأمم المتحدة تواجه عائقا بسبب الفيتو الأمريكي المتوقع في مجلس الأمن.
  • أعادت هذه الاعترافات القضية الفلسطينية إلى مركز النقاش الدولي، وفندت التوصيف الإسرائيلي على أنها ملف أمني داخلي لـ “إسرائيل”.
  • يجب العمل على خطة فلسطينية طارئة استدراكا لأية خطوات إسرائيلية انتقامية، منها تحرك قانوني دولي فوري، ورفع قضايا عاجلة ضد جرائم الحرب في غزة والانتهاكات بالضفة.

د. ياســر العموري، أستاذ القانون الدولي، جامعة بيرزيت

يشكل هذا الاعتراف أحد الركائز الأساسية في تحديد الوضع القانوني للدول في إطار العلاقات الدولية. فوفقاً للممارسة الدولية، الاعتراف لا ينشئ الدولة، بل يُعد إقرارا بوجودها ككيان يملك مقومات الدولة. بالتالي، وبالرغم من أهمية الاعترافات المتزايدة بدولة فلسطين، إلا أن الوصف القانوني لدولة فلسطين لم يتغير.  وبالنظر إلى شروط اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، فإن فلسطين تعد دولة مستوفية الشروط التي تقوم عليها الدول (شعب، إقليم حتى لو كان تحت الاحتلال، حكومة، وقدرة على الدخول في علاقات دولية)، وبالتالي فإن فلسطين تعد دولة حسب المعايير الدولية، وهذا ما تم التأكيد عليه من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة  بقرارها رقم 19/67 (2012)، الذي منحها صفة “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة، وما تم تعزيزه بشكل واضح من خلال تمكنها من الحصول على العضوية الكاملة في العديد من المنظمات الدولية والإقليمية، والانضمام إلى المعاهدات الدولية، والتي كان منها نظام روما لمحكمة الجنايات الدولية.

لكن التوصيف القانوني الوارد يجب ألا يمس بالمركز القانوني لفلسطين، إذ إن التكييف القانوني، ولتفادي أي التباس، يبقى أن فلسطين دولة تحت الاحتلال، أي أنها دولة لا تتمتع بالسيادة على إقليمها بسبب وجود الاحتلال.

بالتالي، يجب النظر إلى الاعتراف بدولة فلسطين أبعد من كونه مجرد عمل سياسي، بل يجب أن تترتب عليه آثار قانونية تتحملها الدول المعترفة. وباعتبار فلسطين دولة تحت الاحتلال، فإنه يُفرض على هذه الدول واجب مضاعف بعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال، أو أي آثار قانونية تنجم عنه، وذلك وفقا للآراء الاستشارية التي صدرت عن محكمة العدل الدولية. وبناءً عليه، فإن الاعتراف بفلسطين يجعل من أي تعامل رسمي للدول المعترفة مع المستوطنات أو الضم الإسرائيلي، شريكة بالانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها “إسرائيل” كسلطة قائمة بالاحتلال، وتحملها المسؤولية والمساءلة الدولية.

هذا بالإضافة إلى أن اعتراف هذه الدول بدولة فلسطين يفعل التزامات إيجابية بموجب المادة الأولى المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربعة (1949)، التي تلزم الدول الأطراف بـ “احترام وضمان احترام” الاتفاقيات في جميع الأحوال. أي أن الدول المعترفة بفلسطين يجب عليها ألا تكتفي برفض الاعتراف بالاحتلال، بل تُصبح مطالبة قانونيا باستخدام أدواتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، للضغط على “إسرائيل” لوقف انتهاكاتها بحق الفلسطينيين.

كما أن الاعتراف يقوي حجية مبدأ “التعاون الدولي لمنع الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني”، وفقا لما ورد في المادة (41) من مشروع لجنة القانون الدولي حول مسؤولية الدول (2001)، التي تنص على التزام جميع الدول بالتعاون لإنهاء أي وضع غير مشروع ناتج عن انتهاك جسيم لقاعدة آمرة، مثل حق تقرير المصير. وبالتالي، تتحول هذه الاعترافات إلى التزام قانوني يوجب على الدول المعترفة اتخاذ خطوات عملية، مثل حظر منتجات المستوطنات، أو دعم المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

مع أهمية كل ما تقدم من إمكانيات قانونية متاحة، إلا أنها لا يمكن أن تكون فاعلة، وتحدث أثرا حقيقيا، إلا إذا ترجمت على شكل التزامات فعلية على أرض الواقع، فجوهر الفاعلية الحقيقي لا يعتمد على توفر الأدوات القانونية فقط، وإنما يحتاج لإرادة سياسية فعلية لتطبيقها.

بالتالي يتعين على دولة فلسطين، أن تطالب الدول الغربية والأوروبية وسائر الدول المعترفة، بترجمة هذا الاعتراف إلى تعاون ملموس مع المحكمة الجنائية الدولية. فرغم أن الالتزام بالتعاون المنصوص عليه في المادة (86) من نظام روما الأساسي، قائم منذ انضمام الدول إلى المحكمة، إلا أن الاعتراف بفلسطين يفرض على هذه الدول واجبا إضافيا ومضاعفا لتفعيل التعاون بصورة عملية، بما يشمل تبادل المعلومات، وتنفيذ أوامر القبض، وتسليم المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. إن مطالبة فلسطين بهذا التعاون تمثل خيارا قانونيا جوهريا لتحويل الاعتراف إلى أداة لمساءلة الاحتلال، وضمان العدالة للضحايا.

كما يحق لفلسطين أن تطلب من الدول المعترفة بها، تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية ضمن تشريعاتها الوطنية، باعتباره أحد الخيارات القانونية الأكثر فعالية في سد الفجوات التي قد تحد من قدرة المحكمة الجنائية الدولية على ملاحقة الجناة. فهذا المبدأ، القائم قبل الاعتراف، يتيح محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة بغض النظر عن مكان ارتكابها، أو جنسية مرتكبها أو ضحاياها. غير أن الاعتراف بفلسطين يُعزز من قوة مطالبتها لهذه الدول بإنفاذ هذا المبدأ.

أما على صعيد الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين، فهي تشكل فرصة حقيقية لتوسيع الخيارات القانونية المتاحة أمامها في مواجهة ممارسات الاحتلال، إذ يمكن لفلسطين أن تُطالب هذه الدول بترجمة الاعتراف إلى التزامات عملية تنسجم مع قواعد القانون الدولي والقانون الأوروبي، بما يعزز قدرتها على ملاحقة “إسرائيل” عن انتهاكاتها الجسيمة.

وفي هذا السياق، يبرز خيار مطالبة فلسطين للدول الأوروبية المعترفة بها، بمراجعة اتفاقية الشراكة المبرمة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل”، نظرا لأن المادة الثانية منها تنص بوضوح على أن احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، شرط جوهري لاستمرار نفاذها. ومع ما أثبتته التقارير الدولية من خروقات ممنهجة ترتكبها “إسرائيل”، يصبح من حق فلسطين أن تطالب هذه الدول باستخدام نصوص الاتفاقية كأداة ضغط قانونية، من خلال تعليق بعض الترتيبات، أو إعادة النظر في الامتيازات التجارية الممنوحة لـ “إسرائيل”.

كما يفتح حكم محكمة العدل الأوروبية الصادر عام 2019، مجالا إضافيا للمساءلة القانونية، إذ أكد على وجوب التمييز بين منتجات المستوطنات والمنتجات الإسرائيلية الأخرى، استنادا إلى مبدأ عدم الاعتراف بالوضع غير القانوني. ومن ثم، تستطيع فلسطين أن تطالب الدول الأوروبية المعترفة بها، بتفعيل هذا الحكم عبر منع دخول منتجات المستوطنات إلى أسواقها، أو وسمها بشكل صريح بمصدرها الحقيقي، وبذلك يتحول الموقف القضائي الأوروبي إلى آلية عملية لرفض الاستيطان ودعم الحقوق الفلسطينية.

وإلى جانب ذلك، يُعد الموقف الأوروبي المشترك بشأن صادرات الأسلحة لعام 2008، أداة قانونية أخرى يمكن لفلسطين استثمارها. فهذا الموقف يحظر منح تراخيص التصدير إذا كان هناك خطر من استخدام الأسلحة في انتهاكات لحقوق الإنسان، أو للقانون الدولي الإنساني. وبما أن التقارير الدولية أثبتت استخدام “إسرائيل” لتلك الأسلحة في ارتكاب جرائم جسيمة، فإن مطالبة فلسطين للدول الأوروبية المعترفة بها بوقف أو تعليق صادرات الأسلحة إلى “إسرائيل”، تمثل خيارا قانونيا مباشرا لمحاسبة الاحتلال، ومنع تمكينه عسكريا في جرائمه.

وعليه، فإن مطالبة فلسطين للدول المعترفة بها بتفعيل الأدوات القانونية الدولية، يحول الاعتراف من مجرد موقف سياسي إلى التزام عملي يُترجم في سياسات وإجراءات ملموسة تعزز مبدأ المساءلة، وتضع حدا لسياسة الإفلات من العقاب. كما أن استجابة الدول لهذه المطالب، تُعد دليلا على إرادتها السياسية في جعل اعترافها بفلسطين خطوة حقيقية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، ومساندته في مسعاه المشروع للتخلص من الاحتلال.

في ظل تصاعد سياسات الاحتلال الإسرائيلي، من الإبادة والمجازر في غزة إلى الضم والاستيطان في الضفة الغربية، تكتسب الاعترافات الدولية الحديثة بدولة فلسطين أهمية خاصة، وإن كانت آثارها العملية على الأرض تبقى محدودة بفعل موازين القوى والتحالفات الدولية.

فعلى المستوى السياسي، تمنح هذه الاعترافات فلسطين رصيدا إضافيا من الشرعية الدولية، وتدعم حضورها في المحافل الأممية، غير أنها لا توقف بشكل مباشر سياسات الاحتلال أو جرائمه، وهو ما يجعل أثرها الفوري أقرب إلى الضغط السياسي المعنوي منه إلى التغيير الملموس.

وعلى المستوى القانوني، يتيح الاعتراف لفلسطين توسيع استخدامها لآليات العدالة الدولية وأدوات المساءلة التي تم تفصليها أعلاه. إلا أن فعالية هذه المسارات تظل مرهونة بمستوى التعاون الدولي، الذي غالبًا ما يتأثر بالتجاذبات السياسية، وبالتحالفات الداعمة لـ “إسرائيل”.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، يمكن للاعتراف أن يشكل أساسا لتشديد الضغط على “إسرائيل” عبر فرض قيود اقتصادية، أو مراجعة أشكال التعاون السياسي معها، أو من خلال دعم قرارات في مجلس الأمن والجمعية العامة. غير أن هذه الإجراءات عادة ما تتسم بالبطء والتدرج، وتعتمد على توافق دولي يصعب تحقيقه في ظل خصوصية موقع “إسرائيل” في النظام الدولي.

وعليه، فإن الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، تمثل مكسبا سياسيا وقانونيا مهمًا يعزز مكانتها، ويفتح أمامها أدوات إضافية للمساءلة والضغط، لكنه لا يغير الواقع القائم ما لم يُترجم إلى سياسات عملية منسقة، تضع حدا لسياسات الاحتلال وانتهاكاته.

د. سامر نجم الدين، أستاذ القانون، جامعة الخليل

الضغط الشعبي غير المسبوق في معظم الدول الغربية، والتعاظم في ابتكار آليات جديدة، والخشية الحقيقية من تحول الاحتجاجات إلى أعمال عنف، خصوصا الأحداث الفردية التي لا يمكن توقعها أو التنبؤ بها، دفعت هذه الدول إلى خطوة الاعتراف، فهي محاولة لامتصاص غضب الشعوب باتخاذ خطوة إيجابية سياسيا تجاه فلسطين، وبالتالي قد تعفيها من خطوات أخرى أكثر شدة تجاه “إسرائيل”.

لكن المهم الآن هو أن يتحول هذا الاعتراف إلى عضوية كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، من أجل استكمال انضمام فلسطين إلى المنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة، مما يكسبها مزيدا من الزخم القانوني لمواجهة ممارسات الاحتلال، ويلزم الدول الأعضاء أو يحرجها أمام ما قد يصدر من قرارات عن هذه المنظمات والوكالات.

من الناحية القانونية،⁠ ستصبح فلسطين في المحافل الدولية دولة، ويتم التعامل معها على هذا الأساس، ويحق لها فتح سفارات في جميع الدول التي اعترفت بها، ولها الحق بعضوية جميع اللجان الدولية والانضمام لجميع الاتفاقيات.

يمكن قراءة دافعية الدول الغربية لهذه الاعترافات من الناحية السياسية، على أنها نتاج نجاح الدبلوماسية، لكن لا بد من الاعتراف بأن تضحيات الشعب الفلسطيني طوال عامين من حرب الإبادة على غزة، هي العامل الحقيقي والفعلي، وأن الدبلوماسية الفلسطينية مكملة لدور الصمود المجتمعي.

⁠المطلوب فلسطينيا تعزيز دور الكل الفلسطيني دون إقصاء أي طرف، واستغلال ذلك على المستوى المحلي والدولي، والقيام بخطوات نحو الذهاب إلى انتخابات عامة دون قيود على الترشح أو إقصاء للآخرين. من جانب آخر، يجب البناء على القيمة التاريخية للمنظمة، لا التنكر لها ولمبادئ وجودها، وبالتالي لا يكون الاعتراف بالدولة الوليدة التفافا على عنق المقاومة، ومحاولة لإنهاء وجودها، خصوصا في ظل الحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح.

قد يكون التحرك الرسمي الغربي بدافع الالتفاف على الإرادة الشعبية بعد أن باتت تشكل الشعوب فيه جماعات ضاغطة على حكوماتها. وبينما هناك بعض الحكومات صادقة فعلاً في توجهاتها، هناك حكومات أخرى تستخدم الاعتراف لمآرب أخرى، من بينها بريطانيا، لذا من المهم أن نفهم الدوافع لكل طرف من الأطراف.

⁠إلى جانب الأهمية السياسية لهذه الاعترافات، هناك أهمية اقتصادية تتعلق بتعزيز مقاطعة منتجات المستوطنات، لأن مقاطعتها ستصبح مستندة إلى قوانين محلية لتلك الدول، وإلى اتفاقيات دولية، إضافة إلى إمكانية زيادة الدعم للشعب والحكومة الفلسطينية في ظل الدولة.

شخصياً، لدي تفاؤل حذر تجاه هذه الخطوة، لكن أعتقد أن إنهاء أو تحجيم المقاومة هو المستهدف بالأساس في هذا التوقيت، فهم يسعون إلى خلق بديل سياسي لمنع تعزيز النموذج المقاوم.

د. رائد أبو بدوية، أستاذ القانون والعلاقات الدولية، الجامعة العربية الأمريكية، رام الله

جاء الاعتراف الأوروبي في لحظة تصعيد إسرائيلي ميداني وسياسي في غزة والضفة، مع عمليات استيطان وضم متسارعة، وانتهاكات جسيمة لحقوق المدنيين. بالتالي يمثل هذا الاعتراف خطوة استباقية لمواجهة الرؤية الإسرائيلية اليمينية المتشددة، التي تعمل على تثبيت سيطرة “إسرائيل” على الأرض، وتهميش أي حل سياسي قائم على القانون الدولي.

يتيح التوقيت لأوروبا استعادة دورها السياسي والقانوني في الملف الفلسطيني، في مواجهة النفوذ الأميركي التقليدي، وإرسال رسالة واضحة لـ “إسرائيل” بأن السياسات الأحادية ستقابل برفض دولي متزايد.

ويشكل الاعتراف جزءًا من استراتيجية أوروبية متدرجة للضغط الرمزي والسياسي على “إسرائيل”، مع إمكانية التطوير لاحقًا إلى أدوات ضغط ملموسة، إذا تم تنسيقها مع السلطة الفلسطينية والدول الإقليمية.

كما تعزز هذه الاعترافات تصنيف فلسطين كدولة ذات شرعية دولية متزايدة، لكنها لا تزال تواجه عائق العضوية الكاملة في الأمم المتحدة؛ بسبب الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن.

يمكن لفلسطين استثمار هذه الشرعية القانونية للانضمام إلى المعاهدات الدولية والمحاكم الدولية، مما يوسع قدرتها على ملاحقة الاحتلال قانونيًا.

وتمثل هذه الشرعية تحولًا استراتيجيًا من سلطة حكم ذاتي محدود إلى مستوى الدولة، وتمنح فلسطين القدرة على استخدام الأدوات الأوروبية للضغط على “إسرائيل”، دبلوماسياً واقتصادياً وقانونياً، بما يرفع كلفة السياسات الإسرائيلية أحادية الجانب.

من الناحية السياسية والاستراتيجية، تعزز الاعترافات من الشرعية الدولية، وتمنح فلسطين رصيدًا دبلوماسيًا مهمًا يمكن استثماره في المحافل الدولية لتعزيز الموقف القانوني والسياسي. وتعيد القضية الفلسطينية إلى مركز النقاش الدولي، بحيث لم تعد ملفًا أمنيًا داخليًا لـ “إسرائيل”، بل مسألة شرعية دولية وحقوقية. كما تفتح المجال لتوسيع التحالفات مع الدول الداعمة للسلام، ما يخلق ضغطًا مستمرًا على “إسرائيل”. وفي نفس السياق، لا بد من استثمار العزلة التي باتت تعاني منها “إسرائيل” بسبب جرائمها في قطاع غزة.

ومن شأن الاعترافات أن تعزز الوحدة الفلسطينية الداخلية، فالشرعية الدولية يمكن أن تدعم جهود إعادة بناء السلطة وتوحيد الصفوف الداخلية، لتقوية القدرة على استثمار الاعترافات الأوروبية بشكل فعّال.

المطلوب فلسطينياً يتمثل في مجموعة خطوات، منها توحيد الصفوف الداخلية، ومعالجة الانقسام بين الضفة وغزة لتجنب تآكل الشرعية الوطنية، وتحويل الاعتراف الدولي إلى أدوات عملية باستخدام الضغط القانوني، والتحركات الدبلوماسية، والربط الاقتصادي مع أوروبا لرفع كلفة الاحتلال، والعمل على خطاب فلسطيني داخلي واقعي ومتوازن، وتجاوز وعود الإصلاح الفارغة وخطاب الإقصاء، لضمان شرعية السلطة داخليًا، واستثمار الزخم الخارجي بفعالية، والعمل على استراتيجية شاملة ومتوازنة تجمع بين الدبلوماسية الدولية والتحرك القانوني والضغط الاقتصادي، وربطها بخطط ملموسة لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية على الأرض.

أما المخاطر والتحديات، فتتمثل في خطر تحول الاعترافات إلى اعترافات رمزية بلا تأثير، إذا لم تُستثمر ضمن استراتيجية فلسطينية متكاملة، واستمرار الانقسام الداخلي مما يقلل من قدرة السلطة على استثمار الشرعية الدولية، ويفتح الباب لتآكل الشرعية داخلياً، وغياب التنسيق الإقليمي والدولي مما يقلل من أثر الاعترافات، ويحد من قدرتها على فرض أي ضغط ملموس على “إسرائيل”.

على المستوى الاستراتيجي، تمثل الاعترافات الأوروبية فرصة لفلسطين لتعزيز الضغط على “إسرائيل” في ظل الانتهاكات المستمرة، وقاعدة لتفعيل حلول دبلوماسية وقانونية متكاملة، وتحويل الشرعية الرمزية إلى أدوات ضغط فعلية، وفرصة لإعادة دفع الصراع نحو حل الدولتين على أساس القانون الدولي، مع استثمار حالة العزلة الإسرائيلية الدولية.

لا بد الآن من التفكير في خطة طارئة فلسطينية استدراكا لأية خطوات إسرائيلية انتقامية، وبالتالي يجب العمل على تحرك قانوني دولي فوري، برفع قضايا عاجلة أمام محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية، ضد جرائم الحرب في غزة والانتهاكات في الضفة، وتوثيق الانتهاكات داخليًا وإقليمياً؛ لضمان أدلة قانونية قوية لدعم الملاحقات الدولية.

د. أمير مخول، باحث في مركز التقدم العربي للدراسات، حيفا

اختيار توقيت الاعترافات ليس استثنائيا، وكانت هذه الاعترافات ستتم قبل الحرب الإسرائيلية على إيران، لكن تأجيل المؤتمر في الأمم المتحدة على خلفية هذه الحرب أجل الاعترافات إلى هذا التوقيت. كما أن هذه الاعترافات هي محصلة مداولات ومشاورات على مدار العامين تقريبا، بين المفوضية الأوروبية والعديد من الأطراف، وقد عبر عن ذلك جوزيف بوريل منذ بداية الحرب على غزة، وأكد أن على المجتمع الدولي أن يفرض حل الدولتين، ولا ينتظر أن تحدث هناك تغيرات على النطاق السياسي داخل “إسرائيل”.

التوقيت هو نتيجة الجهود التي كانت، فحرب الإبادة على غزة كانت محفزا لتحريك الشعوب الغربية والقطاعات النقابية والاتحادات الأوروبية، التي دفعت بالتعبير عن موقفها وتحميل حكوماتها مسؤولية هذه الحرب، رغم المحاولات الأمريكية لتعطيل هذه الاعترافات، والمحاولات الإسرائيلية لوصفها بالإرهاب ومعاداة السامية.

الخيارات القانونية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية مهمة، وهي أن هناك دولة فلسطينية تحت الاحتلال، وتتعرض لكل هذه الانتهاكات، وهذا سيعزز دور ومكانة محكمتي العدل والجنايات الدولية. وقد يكون هناك تحول في التمثيل السياسي الأوروبي في فلسطين من بعثات دبلوماسية إلى قنصليات أو سفارات في رام الله، وهذا تحول يمكن أن يكون جزءًا من الحماية، ويرفع من مكانة فلسطين سياسيا لمواجهة العقوبات الإسرائيلية والتلاعب الإسرائيلي بالاستحقاقات الاقتصادية الفلسطينية.

ولأول مرة يشعر الشعب الفلسطيني منذ بداية حرب الإبادة على غزة، أن هناك بارقة أمل قد يستفيد منها، وتدفعه داخليا لنقاش جدي ومتسارع لترتيب الأولويات الفلسطينية والبيت الداخلي بشكل حقيقي لا يقبل التأجيل.

على المستوى الدولي، لا أعتقد أن هذه الخطوة هي عملية التفاف على الإرادة الشعبية، بل إنها يمكن أن تعزز من الخطوات التي بدأ العمل عليها من ملاحقات قانونية أمام الجنائية الدولية للضباط والجنود الإسرائيليين المشاركين بحرب الإبادة، وحتى أولئك السياسيين الذين تواطئوا مع نتنياهو، مما قد يساهم في انهيار السور الحديدي الذي حاولت “إسرائيل” عبر التاريخ أن تبنيه حول نفسها. ف “إسرائيل” اليوم أمام حالة انكشاف حقيقية، وبالتالي ستحاول أن تسرع في فرض واقع الضم على الضفة أو تصعيد الحرب على غزة، لكن الحقيقة أن “إسرائيل” أمام واقع جديد، وربما سنكون أمام حقائق مختلفة.

محمد القيق، باحث سياسي وإعلامي

جاء اختيار التوقيت نتيجة عدد من الظروف، من بينها حالة الجماهير الغربية والنقابات والاتحادات، التي بدأت مواقفها تتصاعد وتتحول من مجرد تظاهرات منددة بالحرب، إلى مطالب لاتخاذ خطوات حقيقية، إضافة إلى شعور الدول الأوروبية أن هناك تغيرات فيما يتعلق بمشهد الحرب الأوكرانية الروسية، بالتالي سعت هذه الدول للتحضير للولوج إلى الساحة العربية، على أساس المصالح المؤقتة والمحددة؛ بهدف إسنادها فيما يتعلق بالملف الأوكراني الروسي، طبعا كنتاج للاجتماعات التي عقدها ترمب مع القيادات الأوروبية التي رتبت ملف الصراع الأوكراني الروسي. إضافة إلى أن هناك حالة من الخوف الأوروبي نتيجة الفشل الإسرائيلي بتحقيق أهداف الحرب، وبالتالي الخشية من أن تكون المعادلة على حساب الأوروبي، فتوسيع دائرة الحرب يعني الدفع بمئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، وربما غيرهم من منطقة الشرق الأوسط، للهجرة نحو الدول الأوروبية. وفي حال أخفقت “إسرائيل”، فإن ذلك يعني تصاعد الهجرة العكسية لليهود الذين سيعودون إلى تلك الدول التي أتوا منها، وهي في غالبها دول أوروبية تخلصت منهم على مدار سنوات طويلة، وبالتالي هذا التحرك ليس مدفوعا بالحرص على وقف الدماء الفلسطينية، أو انتصارا للحقوق الإنسانية، وإنما انطلاقا من المصالح الأوروبية، وعدم يقينها بقدرة “إسرائيل” على الوصول إلى نقطة الحسم المطلق في الصراع مع الفلسطينيين، بالتالي فإن الحل الأمثل هو أن يكون لهم دولة إلى جانب الدولة اليهودية.

السلطة الفلسطينية غير قادرة على الملاحقة لأن لديها التزامات سياسية، كما أنها ما زالت من الإطار السياسي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي ما دمنا في هذا الإطار فلن يكون هناك تحرك خارج السقف أو المظلة الأمريكية التي تحمي الاحتلال الإسرائيلي. بينما إذا ما خرجنا كفلسطينيين من تحت العباءة الأمريكية، وأحسنّا استثمار التحولات الدولية، فإنه يمكن وقتها الذهاب أكثر في ملاحقة الاحتلال قانونيا عبر المؤسسات والمحاكم الدولية.

ملخص هذه الاعترافات هو أن المقاومة تصنع حقائق سياسية، إذ إن صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني على مدار عامين، جعل تلك الأنظمة السياسية تغير من سياساتها، وبالتالي نحن اليوم أمام منعطفات حقيقية، ويجب العمل على استثمار هذا التحول والمتابعة فيه؛ بهدف تحويل هذه الاعترافات إلى قرارات متتابعة في عزل الاحتلال وملاحقته، وكذلك ضرورة تقوية الموقف الفلسطيني الداخلي حتى ينجح في معادلة الضغط الدولية. المسار الآخر هو المتعلق بالبعد العربي والإسلامي، وباعتقادي شكّل الاعتداء الإسرائيلي على قطر جرس إنذار حقيقي، وربما تعيد العديد من الدول العربية حساباتها بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وشكل العلاقة المستقبلية مع الاحتلال.

د. مأمون أبو عامر، الباحث المختص بالشؤون الإسرائيلية

لا يمكن قراءة هذه الاعترافات بمعزل عن السياق العام، وبما يجري في غزة، والشعور بحالة العجز عن الفعل المباشر في الضغط على دولة الاحتلال، وبالتالي البحث عن أدوات ضغط على نتانياهو لدفعه إلى وقف الحرب، ما يعني أن هذه الاعترافات هي تظاهرة دولية احتجاجا على الجرائم الإسرائيلية في غزة، وتصاعد الممارسات الإسرائيلية من خلال التوسع في بناء المستوطنات، والاعتداءات الإجرامية التي يرتكبها المستوطنون في الضفة.

المكاسب الفلسطينية كبيرة جدا، فقد أضعفت نتانياهو سياسيا على مستويين، المستوى الدولي بحيث أظهرته معزولا ومطاردا، حتى تسلل هذا المشهد إلى نتانياهو شخصيا من خلال تصريحاته حول “اسبرطة الفريدة”. والمستوى الثاني يتعلق بالحديث عن فشل عميق في سياسة نتانياهو، الذي كان يتباهى بأنه جمد الحديث عن الدولة الفلسطينية، وحتى القضية الفلسطينية، عبر الاتفاقات الإبراهيمية، ولكن اليوم ينفجر الموقف الدولي في وجهه، وتعود مسألة الدولة الفلسطينية إلى الصدارة.

المطلوب فلسطينياً، إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس وطنية، وإعادة صياغة البرنامج الوطني للتعامل مع المرحلة القادمة؛ بهدف الاستفادة من الوضع السياسي والقانوني لموقع فلسطين القانوني، والتحضير للمعركة السياسية، وممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية للاستجابة للمطالب الدولية، والتراجع عن خططها التوسعية.

الاعترافات هي سلاح ذو حدين من بعض الدول، وذلك بالتهرب من اتخاذ خطوات فاعلة ضد دولة الاحتلال، خاصة بعض الدول التي وضعت شروطا على تنفيذ الاعتراف، وربطته بقضايا أخرى، مثل إطلاق حماس سراح الأسرى الإسرائيليين لديها، وإصلاحات في السلطة الفلسطينية، وخاصة إصلاحات في التعليم.

الاعتراف الكامل من الدول يعطي لفلسطين الحق القانوني في مقاضاة منتهكي الحقوق الوطنية الفلسطينية، ما يسمح بتفعيل أدوات المقاطعة الاقتصادية لدولة الاحتلال، حتى تخضع للقانون الدولي، وتنسحب من الأراضي الفلسطينية، وكذلك محاسبة الشركات التي تعمل وتتعاون مع المؤسسات والشركات والأشخاص الذين ينتهكون القانون الدولي على أرض دولة فلسطين، سواء كانوا مستوطنين، أو شركات تعمل في المستوطنات، أو تشتري من المستوطنات، وكذلك الشركات التي تصدر السلاح أو تنقله لجيش الاحتلال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى