الاحتلال والمواجهة المفتوحة مع الأمم المتحدة ومؤسساتها

د. عدنان أبو عامر

مقدمة

تبدي المحافل السياسية والدبلوماسية الإسرائيلية قلقا متزايدا من تنامي الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة مؤخرا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ورغم أن دولة الاحتلال قامت بالأساس وفق القرار الدولي الصادر عن الأمم المتحدة، والمعروف بقرار التقسيم في نوفمبر 1947، وحظيت في كثير من المراحل التاريخية بنوع من الحماية القانونية والغطاء السياسي من هذه المنظمة الأممية، سواء بفعل الانحياز الغربي لها، أو الفيتو الذي دأبت الولايات المتحدة على استخدامه ضد أي قرار من شأنه إحقاق الحق الفلسطيني، إلا أن الآونة الأخيرة شهدت بدء ظهور ملامح علاقة جديدة بين الاحتلال والأمم المتحدة.

تستعرض السطور التالية أبرز محطات التوتر الإسرائيلي الأممي، وانعكاساته على وضع الاحتلال في المنظومة الدولية، وانعكاس ذلك على الصورة النمطية لكيان الاحتلال لدى المؤسسات الحقوقية والقانونية الدولية، في محاكاة لا تخطئها العين لما آل إليه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

القضاء الدولي

تمثلت آخر محطات الهجوم الإسرائيلي على الأمم المتحدة باستجابة الجمعية العامة للطلب الفلسطيني بتوجيه محكمة العدل الدولية في لاهاي “ICJ” لفحص شرعية الاحتلال للضفة الغربية، حيث تتخوف دولة الاحتلال من قبول الاقتراح الفلسطيني، وتكمن خشيتها من تحديد أنها ترتكب جريمة الفصل العنصري، مما يعني تلقيها عواقب وخيمة، لدرجة تجميد العلاقات معها من جانب الدول الأخرى، وربما الوصول لمرحلة فرض العقوبات.

رغم أن الاقتراح الفلسطيني بتأليف رأي استشاري حول شرعية الاحتلال للأراضي المحتلة حصد في تصويت اللجنة الرابعة للجمعية العامة أغلبية 98 دولة مقابل معارضة 17 فقط، إلا أن الطلب لن يدخل حيز التنفيذ إلا بعد التصويت في الجمعية العامة في الأسبوع الأخير من ديسمبر.

بدا لافتا قبيل التصويت المرتقب بدء الخارجية الإسرائيلية محاولات لإقناع الدول بالمعارضة، أو الامتناع عن التصويت، لكنها مقتنعة أن الاقتراح سيمر في ضوء الأغلبية التي تنحاز للفلسطينيين في الأمم المتحدة، مما يشكل مصدر إحباط لديها. وتعتبر فرصة فرض العقوبات على دولة الاحتلال ضئيلة، لأن مثل هذه الخطوة تتطلب موافقة مجلس الأمن، حيث ستكون الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قادرة على فرض حق النقض. بالمقابل، إذا كانت هناك دعوة للضغط عليها لإنهاء احتلالها؛ فسيحق للدول أن تفرض عقوبات فردية على دولة الاحتلال، إذ يمكن لأي دولة وقف التجارة معها، مع أن الحركة العالمية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حصلت على أكبر دعم بعد رأي استشاري من لاهاي في قضية ناميبيا، التي كانت حتى 1990 خاضعة لانتداب جنوب أفريقيا.

تشير المخاوف الإسرائيلية إلى أن رأي المحكمة المتوقع سيخلق تحديات كبيرة لعلاقات الاحتلال مع دول العالم، حتى مع الصداقات الوثيقة، وسيتركز الضرر المتوقع في زيادة موقفه الإشكالي في المؤسسات الدولية، مما يجعل الرأي السائد يتركز في عدم التعاون مع المحكمة الدولية، بزعم طبيعتها السياسية المعادية.

القوائم السوداء

بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين الأطفال 61 شهيدا، فيما اعتقل 811 طفلا منذ مطلع 2022، ما أسفر عن ظهور دعوات حقوقية دولية بإدراج جيش الاحتلال في “القائمة السوداء”، مما دفع الأمم المتحدة لإيفاد مبعوثتها للأطفال ومناطق الحرب فيرجينيا غامبا، لزيارة دولة الاحتلال، ولقاء كبار مسؤوليها السياسيين والعسكريين، عقب تحذيرها من قتل الأطفال الفلسطينيين.

لم تخف أوساط الاحتلال أن خطورة الزيارة الأممية تكمن في أن تكون فرصة للفحص عن كثب عما إذا كان هناك مجال لوضع إسرائيل على “القائمة السوداء” للدول التي تستهدف الأطفال، لذلك أخذت الزيارة على محمل الجد، وأولتها أهمية كبيرة، إذ أعد الاحتلال تقارير مدعمة بمقاطع فيديو وعرضها على الوفد الأممي استعدادًا للزيارة.

من جهة أخرى، من المتوقع أن يوسع مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قريبا “القائمة السوداء” للشركات العاملة في المستوطنات أواخر ديسمبر، والتي نشرت للمرة الأولى عام 2020، وضمت 112 شركة تعمل في المستوطنات، 94 منها إسرائيلية، والباقي من ست دول غربية، خمس منها أمريكية، مع العلم أن نشر القائمة قد يؤدي لتوقف المزيد من الشركات العالمية عن ممارسة الأعمال التجارية في المستوطنات، أو حتى في إسرائيل بشكل عام. تجدر الإشارة إلى أن سفيرة الاحتلال لدى مؤسسات الأمم المتحدة في جنيف، ميراف شاحار إيلون، التقت بمساعدة وزير الخارجية الأمريكية للمنظمات الدولية ميشيل سيسون، وسفيرتها بمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ميشيل تايلور، والمفوض الأممي لحقوق الإنسان فولكر تورك، تفاديا لنشر القائمة من جديد في الأيام المقبلة، وإعلانا أن نشرها يعني “موقفا غير متكافئ ومتحيزا ضد إسرائيل”.

في السياق ذاته، اتهم عضو الكنيست، ورئيس الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير أيمن عودة، بالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الاحتلال بأنه لا يوفر الحماية لفلسطينيي 48، محذرا أن الحكومة القادمة تشكل تهديدًا لهم. وقدم عودة خلال اللقاء الذي جرى  دون التنسيق مع أي جهة إسرائيلية رسمية، معطيات حول عدد جرائم القتل في أوساط فلسطينيي 48.

حرب غزة

في سياق متصل، أصدرت اللجنة الحقوقية القانونية التابعة للأمم المتحدة، وبعد مرور أكثر من عام ونصف على العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو 2021، تقريرها الخاص بتحقيقاتها الميدانية عما شهدته الأراضي الفلسطينية المحتلة آنذاك، مما استدعى غضبا إسرائيليا، واحتجاجا على ما وصفه الاحتلال بالانحياز الأممي لصالح الفلسطينيين، لأن التقرير تضمن 277 إشارة إليه، ولم يتضمن أي إشارة لحركة حماس بالمسؤولية عما حصل، حسب زعمه.وخلص التقرير إلى أن هناك أساسًا معقولاً للتوصل إلى استنتاجات بشأن عدم شرعية الاحتلال للأراضي الفلسطينية وفقا للقانون الدولي، بسبب كونه دائما، وبسبب سياسة الضم الفعلية، التي يمكن اعتبارها جريمة حرب وفقًا للقانون الدولي، فيما اتهم الوفد الإسرائيلي لدى المنظمة الدولية أعضاء لجنة التحقيق بأنه ليس لديهم شرعية للتعامل مع القضية، بزعم أنهم جزء من الأجندة المعادية لإسرائيل، في حين انضم رئيس الوزراء المنتهية الإسرائيلي ولايته يائير لابيد، للجوقة في مهاجمة الأمم المتحدة، واصفا تقريرها بـ”المنحاز، والكاذب، والتحريضي، وغير المتوازن بشكل صارخ، ومن كتبه معادون للسامية”.

أثار الغضبَ الإسرائيلي ربطُ التقرير بين إدانة ضم روسيا لأربع مقاطعات أوكرانية، وبين الممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، واعتبارها أن أي محاولة أحادية الجانب لضم أراضي دولة من قبل دولة أخرى تشكل انتهاكًا للقانون الدولي، وهي لاغية وباطلة، مما يجعل إسرائيل تتحمل المسؤولية الدولية عن انتهاكات حقوق الفلسطينيين كأفراد وكشعب من خلال إنشاء المستوطنات، أو المساعدة بإقامتها، مع تجاهل أحكام القانون الدولي، ونقل المستوطنين إليها.

لم يتردد التقرير الأممي من تحذير الاحتلال من عواقب وخيمة على المديين القصير والطويل لسياساته التعسفية بحق الفلسطينيين، مما يستوجب معالجتها بشكل عاجل، لأن بعض هذه السياسات والإجراءات تعمل على إدامة الاحتلال، وتسهل الضم الفعلي للأراضي الفلسطينية، وهي جريمة مكتملة الأركان وفقًا للقانون الجنائي الدولي، بما في ذلك جريمة الحرب المتمثلة بنقل السكان الفلسطينيين من أراضيهم المحتلة، وجريمة ضد الإنسانية متمثلة في الترحيل القسري.

مقاطعة البعثات

لم يقتصر السلوك الإسرائيلي المعادي للأمم المتحدة على إدانة تقاريرها، بل وصل إلى وقف التعاون مع وكالاتها الإنسانية، بزعم أنها تتخذ مواقف معادية لها، حتى وصل الأمر إلى تأجيل إصدار تأشيرات دخول جديدة لموظفي الوكالة الأممية “OCHA”، بزعم أن تقاريرها تشوه عدد القتلى الإسرائيليين من الهجمات الفلسطينية بشكل منهجي، وتوجه أصابع الاتهام دائمًا نحو إسرائيل، حتى أن سفير الاحتلال في الأمم المتحدة غلعاد إردان طالب “أوتشا”، بأن تذكر في تقاريرها هجمات الفلسطينيين بالحجارة والزجاجات الحارقة ضد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. وزعمت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن الأمم المتحدة، ومن شدة اصطفافها مع الفلسطينيين، وضد إسرائيل، أقالت رئيسة مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية في الأراضي المحتلة سارة موسكروفت، من منصبها الرفيع،، لأنها رحبت بوقف إطلاق النار بعد العدوان الأخير على غزة في أغسطس، واستنكرت الصواريخ الفلسطينية على إسرائيل، مضيفة أن رئيس قسم الشرق الأوسط في الوكالة الأممية شخصية فلسطينية، “وليس محايدا”.

من جهة أخرى، تدرس دولة الاحتلال اتخاذ قرار بمنع مبعوثة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، المحامية الإيطالية فرانشيسكا ألبانيز، من دخول الأراضي المحتلة، بزعم إدلائها بسلسلة من التصريحات لصالح المقاومة الفلسطينية، وتأييدها للعمليات ضد الإسرائيليين، إذ كانت قد صرحت أن “الاحتلال يتطلب العنف، وهو من يتسبب به، لأن حق الشعب الفلسطيني في الوجود محروم منذ 55 عامًا”، كما سبق لها أن قارنت نكبة 1948، بالهولوكوست، واتهمت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري.

يشار إلى أن قائمة المبعوثين الأمميين الذين يمنعهم الاحتلال من دخول الأراضي المحتلة طويلة، وتشمل دبلوماسيين دوليين كبارا، لمجرد أنهم أدلوا بتصريحات معادية له، وأيدوا مقاومة الفلسطينيين، الأمر  الذي يكشف حالة الهستيريا التي تصيب الاحتلال من أي موقف دولي ينتصر للقضية الفلسطينية، ويكشف انتهاكاته وجرائمه المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني.

ذكرى النكبة

في سياق متصل، تسبب تأييد الجمعية العامة للأمم المتحدة للاقتراح الفلسطيني بعقد حدث لإحياء ذكرى النكبة الـ75 في مايو 2023 عاصفة سياسية ودبلوماسية إسرائيلية، لتزامن هذه الذكرى الفلسطينية الأليمة مع إعلان دولة الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الموافقة الكاسحة التي حصل عليها الاقتراح الفلسطيني بتأييد 90 من دول العالم، مما أعطى انطباعا عن مصداقية الرواية الفلسطينية في المجتمع الدولي. وكانت البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحددة أبدت انزعاجا مما يشهده مدخل الجلسة العامة لمجلس الأمن الدولي في نيويورك، لوجود معرض بعنوان “قضية فلسطين والأمم المتحدة”، بزعم أنه “يفتقر للحياد”، لأنه يقدم الرواية الفلسطينية فقط عن الصراع الممتد عقودا طويلة، خاصة أن قرابة مليون سائح يقفون أمامه سنويًا، يتعرفون من خلاله على المزيد عن الاحتلال الإسرائيلي، والتحدي الفلسطيني له.ويتضمن المعرض الفني تاريخ القضية الفلسطينية، على جدار أخضر مزين بشجرة زيتون، وصور لفلسطينيات يشرن بأصابعهن لجيش الاحتلال على حواجز الضفة الغربية، وأطفال يحملون حقائب مدرسية على أنقاض منازل دمرها طيران الاحتلال في غزة، وشارع مزدحم في مخيم للاجئين بعد حصار إسرائيلي، وصورة رفع علم فلسطين لأول مرة أمام مبنى الأمم المتحدة، وصور للأونروا التي يتهمها الاحتلال بترسيخ كراهيته بين اللاجئين الفلسطينيين.

خاتمة

أظهرت السطور السابقة حجم الهجوم العدائي الذي تشنه تل أبيب على الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، وعلى مختلف المستويات: سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا، بزعم انحيازها لصالح الفلسطينيين، عقب تحقيقها إنجازات سياسية وقانونية صنّفها الاحتلال بأنها انتكاسات دبلوماسية له.

تكشف المواجهة السائدة مع الأمم المتحدة عن تراجع مكانة الاحتلال في المنظمة الدولية، إذ دفعت السياسات العدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين العديد من دول العالم لرفض التسليم بها، والتأكيد على أنها لا تأخذ موافقات مفتوحة على انتهاكاتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تجلى في جملة القرارات ومشاريع القوانين الدولية الأخيرة التي حقق فيها الفلسطينيون إنجازات سياسية كبيرة، ومني الاحتلال فيها بانتكاسات مهينة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى