الاتفاق التركي الإسرائيلي.. حسابات الربح والخسارة
أثارت الخطوط العريضة للاتفاق التركي الإسرائيلي جدلاً بين المراقبين؛ فبموجب الاتفاق سيتم إنهاء حالة القطيعة بين الطرفين (التي أعقبت حادثة سفينة مرمرة عام 2010 وسقوط تسعة قتلى من النشطاء الأتراك) وإعادة تطبيع العلاقات بينهما، وإذ إن هناك من امتدح الاتفاق وهناك من انتقده، وبعيدًا عن حالة الاستقطاب والمحاور التي تعيشها المنطقة والتي تقود إلى إعطاء أحكام مسبقة، يبرز السؤال حول الأطراف الرابحة والخاسرة من الاتفاق.
توجد عدة أنواع للتفاوض من أهمها التفاوض بغرض التوصّل الى اتّفاق لصالح الطّرفين أو ما يعرف بمفاوضات "اكسب واكسب" (win-win)؛ بحيث يقتنع كل طرف بضرورة التوصل إلى حلول وسط في القضية المطروحة للتفاوض.
ونوع آخر من التفاوض، وهو التفاوض من أجل تحقيق مكسب لأحد الأطراف مقابل خسارة الطرف الآخر أو ما يعرف بمفاوضات "اكسب-اخسر" (win-los)؛ وهذا يحدث عندما لا يكون هنالك توازن في القوة بين الطّرفين؛ وهذا النوع من التفاوض يكون في القضايا التكتيكية وليس الإستراتيجية.
بالنظر إلى طبيعة الاتفاق التركي الإسرائيلي يمكن الاستنتاج بأنّ المفاوضات بين الطرفين أديرت بصيغة "اكسب واكسب" ( win-win)؛ فمن الصعب القول بأنّ أحد الطرفين قد حقق جميع مطالبه، فقد نص الاتفاق (بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت 26/6/2016)1 على عدة بنود من أهمها:
- تطبيع العلاقات بين الطرفين بشكل كامل بما يتضمن تبادل السفراء والتعهد بعدم تحرك أي منهما ضد الآخر في المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والناتو.
- تسمح "إسرائيل" لتركيا بإدخال البضائع والمواد الإنسانية التي تريدها إلى قطاع غزة عبر ميناء أسدود (تحت رقابة أمنية إسرائيلية)؛ كما ستسمح "إسرائيل" لتركيا بإقامة محطة كهرباء ومحطة تنقية مياه ومستشفى في قطاع غزة.
- أبدت تركيا استعدادها للتوسط بين حماس و"إسرائيل" في موضوع جثث الجنود الإسرائيليين.
- تدفع "إسرائيل" 21 مليون دولار تعويضًا لأهالي ضحايا سفينة مرمرة من الجرحى والقتلى الأتراك.
- توقف تركيا إجراءات محاكمة الضباط الإسرائيليين المسؤولين عن حادثة سفينة مرمرة.
- تتعهد تركيا بعدم استخدام حماس أراضيها منطلقًا لعملياتها ضد "إسرائيل".
- يستأنف الطرفان علاقاتهما الأمنية.
- البدء بمفاوضات مد خط أنبوب غاز من "إسرائيل" لتركيا.
تقييم الاتفاق وتقدير المكاسب والمخاسر يستوجب الرجوع لمواقف الطرفين السابقة. الأتراك ومنذ بداية الأزمة وضعوا ثلاثة شروط لتطبيع العلاقات؛ وهي الاعتذار والتعويض وفك الحصار عن قطاع غزة، وقد استطاعت تركيا تحقيق مطلبين بشكل كامل وهما الاعتذار (الذي قدمته "إسرائيل" سابقًا) والتعويض (وهذا يعني ضمنيًا إقرار "إسرائيل" بارتكابها جريمة قتل بحق النشطاء الأتراك).
بينما حققت بشكل جزئي مطلب إنهاء الحصار، فالاتفاق لا ينص على إنهاء الحصار بشكل كامل وإنما يعطي لتركيا الحق في إدخال مساعدات عبر الموانئ الإسرائيلية؛ بالإضافة لحل معضلات العلاج الطبي وانقطاع التيار الكهربائي وشح المياه الصالحة للشرب عبر إنشاء مستشفى ومحطتي كهرباء وتنقية مياه، وهذا يعني فك الحصار بشكل جزئي، فتدفق البضائع والمواد الإنسانية لغزة سيرتبط بمدى حرارة وبرودة العلاقة بين تركيا و"إسرائيل" كما أنّ مشكلة حرية سفر مواطني غزة للخارج لم تحل.
بالنسبة للإسرائيليين فقد اشترطوا في المفاوضات عدة مطالب من أهمها وقف الملاحقة القضائية للضباط الإسرائيليين بالإضافة إلى إغلاق مكتب حماس في تركيا وطرد أعضائه، بالإضافة إلى بند برز مؤخرًا على جدول المفاوضات (بضغط من أهالي الجنود الإسرائيليين) لم يكن مطروحًا سابقًا، وهو الضغط على حماس لإعادة جثث الجنود الإسرائيليين.
نجحت "إسرائيل" في تحقيق مطلبها بوقف الملاحقة القضائية، وفشلت جزئيًّا في تحقيق مطلب إغلاق مكتب حماس فاستعاضت عنه بمطلب منع حماس من اتخاذ الأراضي التركية منطلقًا لتنفيذ أعمال المقاومة ضد الاحتلال، وفشلت بشكل كامل في ربط توقيع الاتفاق بعودة الجنود المأسورين في غزة.
علاوة على المطالب الأساسية تمكن الطرفان من تحصيل مكاسب اقتصادية وسياسية وأمنية إضافية، فالأتراك سيكسبون سياسيًّا عبر اعتمادهم كعنوان ومرجع رئيس للتعامل مع قطاع غزة في قضايا عديدة كموضوع الجنود أو إبرام هدنة، بالإضافة لتحقيق مكاسب معنوية بالظهور طرفًا إقليميًّا يهتم بحل المشاكل الإنسانية، فضلاً عن مكاسبها الاقتصادية من فتح سوق قطاع غزة أمام البضائع التركية ومد أنبوب غاز يمكِّنها من تصدير الغاز لأوروبا، أمّا الإسرائيليون فسيتمكنون -من خلال الاتفاق- من تحييد تركيا وتطبيع العلاقات معها مما يمهد لمكاسب سياسية وأمنية؛ على رأسها إزالة أي عوائق أمامها للانخراط في نشاطات الناتو وتصدير الغاز لأوروبا عن طريق تركيا.
يندرج ضمن معسكر الخاسرين من الاتفاق كل من السلطة الفلسطينية ومصر؛ فالسلطة الفلسطينية لم تكن طرفًا في الاتفاق وربما سمعت به من خلال وسائل الاعلام، ومن الخاسرين (ولو بشكل أقل) نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي سُحبت منه بشكل جزئي ورقة قطاع غزة؛ وإن بقي في يده التحكم بسفر الأفراد عبر معبر رفح.
أمّا بالنسبة لحركة حماس فقد حقق لها الاتفاق مكاسب جزئية؛ فهي كانت تطمح إلى فك الحصار بشكل كامل عبر إنشاء مطار وميناء وهذا لم يتحقق، ومن مكاسبها عدم إغلاق مكتبها في تركيا أو تضمين الاتفاق شرط تسليم الجنود المأسورين؛ مما دفع أهالي الجنود للاحتجاج والتصريح بأنّ الاتفاق يُعتبَر بمثابة "جائزة لحماس"2 ، كما أنّ الاتفاق يعني بشكل ضمني تجنيب قطاع غزة (ولو على المدى القريب) حربًا جديدة؛ فمن المستبعد أن تشن "إسرائيل" حربًا على قطاع غزة وحبر الاتفاق لم يجف بعد، وهذا ما دفع رئيس الكتلة البرلمانية للائتلاف الحاكم عضو الكنيست دافيد بيتان للتصريح بذلك وإعلانه عن قناعته بأنّ يد "إسرائيل" أصبحت مكبلة تجاه قطاع غزة3 .
خلاصة القول وكما يقال لا يوجد في السياسة أعداء أو أصدقاء دائمون بل توجد مصالح دائمة، فمصلحتا تركيا و"إسرائيل" قد التقتا من أجل إنهاء حالة القطيعة؛ فمصلحة "إسرائيل" تكمن في تقليص دائرة الأعداء وتوسيع دائرة الحلفاء والأصدقاء في منطقة متقلبة تشهد تطورات متلاحقة مع مكاسب اقتصادية نتيجة اتفاق تصدير الغاز، أمّا تركيا فمن مصلحتها التقليل من التوترات المحيطة بها، وإبعاد تهمة التواطؤ مع "الإرهاب" التي تُتَّهم بها من أطراف محسوبة على اللوبي الصهيوني في الغرب؛ فمن شأن هذا الاتفاق أن يُخفِّف من الهجمة الإعلامية على النظام التركي ويعطيه دفعة اقتصادية وسياسية.
ملاحظة: المدونة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز
_____________________________
المراجع
- يديعوت أحرونوت، 26/6/2016، جولة أخيرة: بنود الاتفاق مع تركيا. (بالعبرية) http://bit.ly/28VHXUu
- موقع ماكو الإخباري، 26/6/2016، نضال العائلات: الاتفاق مع تركيا: جائزة لحماس. (بالعبرية).
- http://bit.ly/28ZgMND
- وكالة سما الإخبارية، 26/6/2016، مكتب نتنياهو : الاتفاق مع تركيا لا يمنح الحصانة لـ"هنية".http://bit.ly/28VM2rU