الإبادة التعليميّة في غزّة: واقع التعليم بعد اتفاق وقف إطلاق النار

هدى نعيم
تم إعداد هذا التقرير قبل استئناف حرب الإبادة من قبل جيش الاحتلال ضد قطاع غزة في 18 مارس الجاري.
عانى قطاع غزة لعقود طويلة من ظروفٍ سياسية واقتصادية صعبة انعكست بشكلٍ مباشر على واقع التعليم ومستقبله، وتفاقمت هذه التحديات بشكل خاص منذ فرض الحصار الإسرائيلي عام 2007، ما أثّر سلبًا على جودة التعليم ومخرجاته، وأعاق جهود التنمية البشرية في القطاع.
واجه النظام التعليمي في غزة تحديات متراكمة بسبب نقص الموارد، وتقييد حركة الطلبة والمعلمين، والتصعيدات العسكرية المتكررة، فضلًا عن أزمة الاكتظاظ الشديد داخل المدارس. إذ أدى العدد الكبير للطلبة مقارنةً بقلة المباني المدرسية إلى اضطرار العديد من المدارس للعمل بنظام الفترتين الصباحية والمسائية لاستيعاب هذه الأعداد المتزايدة.
وفقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2023، بلغ عدد المدارس في قطاع غزة 796 مدرسة، تتوزع بين المدارس الحكومية ومدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بالإضافة إلى المدارس الخاصة، في حين بلغ عدد المباني المدرسية 550 مبنى فقط[1]، وهو ما يفسّر استمرار الاكتظاظ الشديد. وقد وصل إجمالي عدد الطلبة في القطاع إلى نحو 608 آلاف طالب وطالبة، في حين بلغ عدد المعلمين حوالي 22 ألف معلم ومعلمة.
أما على مستوى التعليم العالي، فقد ضم القطاع خلال العام الدراسي 2021/2022 نحو 17 مؤسسة تعليمية، بالإضافة إلى جامعة مفتوحة لها فروع في غزة والضفة الغربية، التحق بها حوالي 87 ألف طالب وطالبة، بينما بلغ عدد الأكاديميين والإداريين العاملين فيها نحو 5000 موظف، من بينهم 2000 أكاديمي.
ويتولى إدارة التعليم الأساسي والثانوي هيئتان إشرافيتان رئيستان هما وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، حيث تدير الأونروا التعليم الأساسي (الصفوف 1-9) والتعليم المهني للاجئين الفلسطينيين، في حين تدير الوزارة المدارس الحكومية ومؤسسات التعليم العالي العامة.
إلا أن حرب الإبادة الإسرائيلية التي بدأت في 7 أكتوبر 2023 شكّلت نقطة تحول كارثية في المنظومة التعليمية، وحولت الأزمة التعليمية من تحدٍ إداري وتنظيمي إلى كارثة وجودية تهدد مستقبل جيلٍ كامل من الطلبة والمعلمين. يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على الآثار والتبعات التي خلفتها حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في واقع التعليم، إضافة إلى محاولات استدراك جزء من العملية التعليمية خلال الحرب. وفي مقابل ذلك يسعى التقرير إلى استكشاف واقع التعليم في القطاع بعد التوصل إلى هدنة هشة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، والجهود الرسمية المبذولة لاستدراك الفاقد التعليمي والصعوبات والعقبات التي ما زالت تواجه محاولات استئناف العملية التعليمية واستدراكها، سواء في مراحلها الأساسية أو العليا.
هندسة الدمار: البنية التحتية التعليمية تحت القصف
وفقًا للتقارير الحقوقية الصادرة عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن حوالي 88% من مدارس القطاع تعرضت للقصف المباشر، ودُمّرت 61% منها كليًا أو أصيبت بأضرار جسيمة، في حين تحوّلت معظم المباني المدرسية المتبقية إلى مراكز إيواء للنازحين، لتصبح غير صالحة للعملية التعليمية. هذا الدمار الواسع أدى إلى تعطيل المسيرة الدراسية لأكثر من 625 ألف طالب فلسطيني، ودفع منظمة اليونيسف إلى التحذير من أن أطفال غزة قد يخسرون ما يعادل خمس سنوات تعليمية، وهو ما سيترك آثارًا نفسية واجتماعية كارثية طويلة الأمد على الأجيال القادمة.
وفي ذات السياق، تعرّضت مؤسسات التعليم العالي لدمارٍ أشد وأوسع نطاقًا، إذ دُمّرت 11 من أصل 19 جامعة بشكل كامل، وتضررت الجامعات الأخرى جزئيًا أو كليًا بنسبٍ وصلت إلى حوالي 80% من مبانيها. ومن أبرز هذه الجامعات، الجامعة الإسلامية التي تعرّضت لقصفٍ مباشر دمّر معظم منشآتها الأكاديمية والإدارية، وجامعتا الإسراء وفلسطين اللتان دُمّرتا بشكلٍ كامل، في حين تعرّضت جامعتا الأقصى والأزهر لقصفٍ مكثّف أدّى إلى تدمير أجزاء واسعة من بنيتهما البحثية والإدارية. أما جامعة غزة، والقدس المفتوحة، وكلية فلسطين التقنية، فقد تعرضت لتدمير جزئي، وأصبحت مبانيها المتبقية مراكز إيواء للنازحين.
وترافق هذا التدمير مع خطاب إسرائيلي سياسي وعسكري يعتبر الجامعات “مراكز لإنتاج الإرهاب”، وهي الذريعة التي استخدمت لتبرير الهجمات على هذه المؤسسات وتجريدها من صفتها المدنية، في محاولة واضحة لمحو أي بيئة أكاديمية فلسطينية.
ولم يقتصر الدمار على البنى التحتية فقط، بل امتد ليشمل الموارد التعليمية أيضًا؛ فقد أشارت تقارير الأونروا (UNRWA) إلى أن معظم مناهج التعليم المطبوعة فقدت بسبب استهداف المخازن التعليمية، ما أدى إلى فقدان الطلاب الكتب والمواد الدراسية الأساسية. كما أدى انقطاع الإنترنت والكهرباء المستمر إلى استحالة تطبيق أي شكل من أشكال التعليم الإلكتروني، ما جعل إمكانية استمرار التعليم في غزة أشبه بعملية مستحيلة، حيث لا بنية تحتية، ولا معلمين، ولا أدوات تعليمية يمكن البناء عليها لاستئناف الدراسة في المستقبل القريب. كما أن المشكلة لا تتعلق فقط بتدمير المباني أو غياب الأساتذة، بل أيضًا بفقدان الملفات الأكاديمية، وضياع الأبحاث التي كانت جزءًا من عملهم الأكاديمي، مما يعني أن سنوات من الجهد ضاعت في لحظة، وأن مستقبلهم أصبح مرهونًا بمدى قدرة المجتمع الدولي على إعادة بناء المنظومة التعليمية.
إنّ هذا الدمار الشامل لا يمكن اعتباره مجرد أثر جانبي للحرب، بل هو سياسة ممنهجة تستهدف تدمير النظام التعليمي، وهو ما يُعرف بمصطلح “الإبادة التعليمية” (Educide)، والذي يشير إلى التدمير المتعمد للمنظومات التعليمية بهدف قمع وإخضاع المجتمعات المستهدفة. وقد استخدم هذا المصطلح للمرة الأولى من قبل هانس كريستوف فون سبونيك، المنسق الإنساني السابق للأمم المتحدة في العراق، عام 2011، في مؤتمر عقد بجامعة غينت عام 2011، حيث وصف فيه التدهور المنهجي للنظام التعليمي في العراق نتيجة الحروب والعقوبات الاقتصادية. ولاحقًا، أصبح المصطلح يُستخدم في الأبحاث الأكاديمية لوصف التدمير الممنهج للتعليم في مناطق النزاع، بما في ذلك ما حدث في غزة بعد حرب الإبادة الجماعية 2023. وفي السياق ذاته، ابتكرت الأستاذة كرمة النابلسي من جامعة أكسفورد مصطلح “الإبادة المدرسية” (Scholasticide)، لوصف الهجمات الممنهجة ضد البنى التعليمية بهدف تعطيل مسار المعرفة وإضعاف الشعوب المستهدفة.
من جهتها وثقت مؤسسة الدراسات الفلسطينية مجموعة إجراءات منهجيّة لاستهداف التعليم في غزة، أبرزها:
- اغتيال الطلاب والمعلمين، واعتقالهم، والتضييق عليهم.
- تدمير البنية التحتية التعليمية ونهبها.
- فرض قيود مشددة على إعادة الإعمار والتعاون الدولي.
تُظهر هذه الإجراءات بوضوحٍ أنّ ما حدث في غزة يتجاوز كونه مجرد “أضرار جانبية”، ليصبح سياسة مدروسة تهدف إلى تدمير المنظومة التعليمية، والقضاء على فرص الفلسطينيين في بناء مستقبلٍ معرفيٍ وثقافيٍ مستقل.
إبادة العقول: استهداف الطلبة والمعلمين
وثقت تقارير حقوقية استشهاد أكثر من 450 أكاديميًا وإداريًا في قطاع غزة منذ بدء الحرب، بما في ذلك ثلاثة رؤساء جامعات، وسبعة عمداء، و64 أستاذًا. من أبرزهم البروفيسور سفيان تايه، رئيس الجامعة الإسلامية في غزة، الفيزيائي الحائز على جائزة اليونسكو، والذي قُتل مع عائلته في غارة جوية. كما أُعدم الدكتور أحمد حمدي أبو عبسة، عميد كلية هندسة البرمجيات في جامعة فلسطين، ميدانيًا بعد احتجازه لمدة ثلاثة أيام. وشمل الاستهداف أيضًا البروفيسور محمد عيد شبير، أستاذ علم المناعة والرئيس السابق للجامعة الإسلامية، والبروفيسور رفعت العرعير، أستاذ الأدب المقارن والشاعر ومؤسس مشروع “نحن لسنا أرقامًا”، والدكتور سعيد الزبدة، رئيس الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية.
وامتدت حملة الاستهداف لتشمل الدكتورة ختام الوصيفي، رئيسة قسم الفيزياء في الجامعة الإسلامية والمتخصصة في فيزياء الجسيمات والطاقة المتجددة، والدكتور موسى المصري، أستاذ الهندسة الكهربائية وأحد المساهمين في تطوير مناهج الهندسة في غزة، والدكتور رياض الأشقر، أستاذ الإعلام المختص بالإعلام الرقمي وتأثير الحروب على الصحافة الفلسطينية، والدكتور عبد الكريم شبير، المتخصص في القانون الدولي وانتهاكات حقوق الإنسان. هؤلاء وغيرهم كانوا يمثلون نخبة أكاديمية وعلمية، شكلت خسارتهم ضربةً قاسية للبنية الأكاديمية والمؤسسية في غزة، ما يفرض صعوبات كبيرة أمام إعادة بناء هذا القطاع بشكل سريع.
أما الطلبة، فقد دفعوا ثمنًا باهظًا، إذ استشهد أكثر من 13,000 طفل في سن الدراسة وأصيب حوالي 25,000 آخرين، بينهم كثيرون بإصابات ستترك إعاقات دائمة. كما فقد قطاع التعليم العالي آلاف الطلاب الذين لم يرصد عددهم بشكل ثابت فعلى الرغم من توثيق العديد من التقارير الحقوقية لضحايا الحرب من الطلبة والأكاديميين، إلا أنه لا تتوفر إحصائية دقيقة حول عدد الشهداء من الطلبة الجامعيين تحديدًا. ويعود ذلك إلى صعوبة عملية الحصر والإحصاء في ظل ظروف الحرب، والانقطاع المستمر لوسائل الاتصال، وغياب مؤسسات قادرة على القيام بإحصاءات دقيقة بسبب الدمار الواسع في البنية التحتية، وتشتّت الأسر، والنزوح الداخلي الكبير للسكان.
وعلى مستوى الكادر التعليمي في المدارس، فإن الخسائر لم تكن أقل فداحةً؛ إذ تشير التقارير إلى مقتل أكثر من 400 معلم ومعلمة جراء القصف وهو رقم أولي أيضًا. هذه الخسائر البشرية خلقت فجوة واسعة في عدد الكوادر التدريسية المؤهلة، مما يجعل عملية إعادة إحياء المنظومة التعليمية بعد الحرب أكثر تعقيدًا. وفي غزة، لا يُعدّ المعلمون مجرد ناقلين للمعرفة، بل هم جزء من النسيج الاجتماعي وأساس الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب، ومع فقدانهم، ستصبح عملية التعافي التربوي والنفسي للطلبة تحديًا بالغ الصعوبة.
التعليم في زمن الإبادة: تحديات إعادة الإعمار
خلال الحرب، ومع تدمير أكثر من 80% من المباني المدرسية، لجأت وزارة التربية والتعليم إلى حلول بديلة لضمان استمرار التعليم. فأُنشِئَت مدارس افتراضية ومراكز تعليمية مؤقتة، بالإضافة إلى استخدام منصات تعليمية إلكترونية مثل منصة “وايز سكول” (Wise School)، لتوفير بديل مؤقت عن التعليم التقليدي. مع ذلك، واجهت هذه المبادرات تحديات كبيرة، أبرزها انقطاع الكهرباء وضعف خدمات الإنترنت، مما صعّب الوصول إلى تلك المنصات. لكن التحدي الأكبر تمثل في غياب البيئة الآمنة، إذ أدى استمرار الهجمات وفقدان المأوى إلى أن يصبح التعليم مسألة هامشية مقارنةً بالنضال اليومي من أجل البقاء.
في محاولة للتغلب على هذه العقبات، ظهرت مبادرات محلية مثل مركز “Hub Fiber” الذي أسسه عبد الرحمن إبراهيم في شقة متضررة جزئيًا، والذي وفّر للطلبة والمعلمين مكانًا آمنًا نسبيًا للدراسة ومتابعة أعمالهم. كما ظهرت مبادرات تعليمية دولية، مثل مبادرة “إعادة الأمل” التي أطلقتها جامعة بيرزيت لتوفير التعليم الإلكتروني لطلبة غزة بعد تدمير مؤسساتهم التعليمية.
ومع استمرار الأزمة، لجأت الوزارة إلى إنشاء “الخيام التعليمية“، وهي مراكز مؤقتة أقيمت في المخيمات والمناطق الأكثر تضررًا، لتوفير بيئة تعليمية آمنة للأطفال الذين فقدوا منازلهم ومدارسهم. لكن هذه الحلول بقيت محدودة التأثير، نظرًا لنقص المعلمين والموارد التعليمية، واقتصارها على تدريس المواد الأساسية فقط.
وفي محاولة أكثر طموحًا، أعلنت وزارة التربية والتعليم في فبراير 2025 عن انطلاق العام الدراسي الجديد 2024-2025، في خطوةٍ تهدف إلى تدارك الفاقد التعليمي الناتج عن توقف العملية التعليمية لأكثر من 15 شهرًا. وضعت الوزارة خططًا مكثفة لإعادة تأهيل المدارس المتضررة والاستمرار في استخدام الحلول البديلة كالمنصات الافتراضية، بالإضافة إلى برامج متخصصة للدعم النفسي والاجتماعي للطلبة والمعلمين. وإعادة تأهيل المدارس المتضررة أو الاستمرار في استخدام الحلول البديلة كالمراكز التعليمية الافتراضية.
ولتعويض الفاقد التعليمي، لجأت الوزارة إلى دمج العامين الدراسيين 2023-2024 و2024-2025 في عام دراسي واحد مكثف، مع تقليص المناهج إلى وحدات دراسية تعويضية تركز على المهارات الأساسية. مع ذلك، فإن ضغوط التعليم المكثف في بيئة غير مستقرة قد تزيد من الأعباء النفسية على الطلاب، خاصةً وأن تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) تشير إلى أن 60% من أطفال غزة يعانون من اضطرابات نفسية ناتجة عن الصدمة والتشريد.
ما بعد الحرب: هل يمكن إنقاذ التعليم في غزة؟
كانت وزارة التربية والتعليم في قطاع غزة قد اضطرت إلى إغلاق العام الدراسي 2023-2024 رسميًا، واعتماد تقييمات للطلبة استنادًا إلى الحضور الوجاهي والتعليم الإلكتروني لضمان عدم ضياع جهودهم التعليمية. ولكن في إطار محاولة التعافي ومحاولة تعويض الفاقد التعليمي فقد وضعت الوزارة خططًا دراسية مكثفة ومركّزة، تتضمن دمج عامين دراسيين في عام واحد مع تقليص المناهج، إلى جانب توفير دروس تقوية مجانية للطلبة الذين يعانون من فجوات كبيرة بسبب الحرب. غير أن هذه البرامج التعليمية المكثفة قد تشكل ضغطًا نفسيًا إضافيًا على الطلبة، ما يستدعي تعزيز برامج الدعم النفسي والاجتماعي بالتوازي مع هذه الجهود.
بناءً على تلك الخطط، أعلنت الوزارة عن بدء العام الدراسي الجديد (2024-2025) في 23 فبراير 2025، مستخدمةً المباني المدرسية المتبقية، إضافةً إلى إنشاء مدارس ميدانية مؤقتة، مع مواصلة الاعتماد على منصات التعليم الإلكتروني مثل Teams وWISE School للطلبة الذين يصعب عليهم الحضور المباشر. إذ إن الوزارة تعمل على تعزيز وتطوير التعليم الرقمي والتعلم عن بُعد باعتباره أحد الحلول الضرورية لاستمرار العملية التعليمية في ظل الظروف الحالية، من خلال تطوير البنية التحتية الرقمية، وتوسيع الشراكات مع الجامعات والمؤسسات الدولية، وتوفير أجهزة إلكترونية وخدمات إنترنت مجانية أو بأسعار منخفضة للطلبة الأكثر احتياجًا. حسب ما أفاد خالد أبو ندى[2]، وكيل وزارة التربية والتعليم في غزة.
وضمن الخطط لتعويض ما أمكن من الفاقد التعليمي فقد أولت اهتمامًا خاصًا بالدعم النفسي والاجتماعي للطلبة والمعلمين من خلال برامج متخصصة بالتعاون مع منظمات دولية، وذلك نظرًا إلى الضغط النفسي الكبير الناتج عن الحرب والذي يؤثر على الطلبة والمعلمين.
في موازاة ذلك، عملت الوزارة على تجهيز 120 قاعة لعقد امتحانات الثانوية العامة الاستثنائية بالتعاون مع جهات دولية، وتوزيع 6000 جهاز تابلت لإتمام الامتحانات إلكترونيًا. وبخصوص التعليم العالي، أوضح أبو ندى أن الوضع أكثر تعقيدًا؛ إذ لم تبدأ بعد أي عمليات إعادة إعمار فعلية للجامعات، مما يهدد مستقبل آلاف الطلبة الجامعيين، كما أنّ الكوادر الأكاديمية والإدارية لم تتلقَّ رواتب منذ أشهر، ولم تتوفر حتى الآن أي مصادر تمويل دولية حقيقية لإعادة تشغيل المؤسسات الجامعية.
ولكن محاولات وزارة التعليم، بالشراكة مع جهات دوليّة وإنسانيّة، ما زالت تواجه عقبات ومصاعب جمّة لا تكفي خطط الوزارة، في ظل الإمكانيات المتوفرة وحالة التدمير الشامل التي يعاني منها القطاع، للتعامل معها أو مواجهتها.
أن هذه الجهود تواجه عقبات كبيرة بسبب تدمير البنية التحتية التعليمية ونقص الموارد الأساسية مثل القرطاسية، والأثاث المدرسي، والطاقة الكهربائية، إضافة إلى استمرار أزمة النازحين الذين يشغلون عددًا كبيرًا من المدارس، ما يشكل أزمة مزدوجة تتمثل في نقص حاد في المباني التعليمية، والاحتياج المستمر لإيجاد حلول بديلة مؤقتة لاستيعاب الطلبة. فعلى الرغم من الجهود الشاقة التي تبذلها الوزارة لاستئناف العملية التعليمية بعد الحرب، فإن التحديات لا تزال جسيمة، وتحتاج إلى إستراتيجيات شاملة ومستدامة لضمان استمرارها. ومن الضروري الإسراع في تنفيذ خطط طوارئ قصيرة ومتوسطة الأجل لإعادة تأهيل الجامعات والمدارس وإزالة الركام، مع ضرورة إنشاء صناديق طوارئ دولية لدعم الجامعات الفلسطينية في غزة، كما أوضح أبو الندى.
خاتمة
لم يكن استهداف التعليم في غزة خلال الحرب الأخيرة مجرد خسائر جانبية، وهو ما دفع جنوب أفريقيا لتقديم دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بالإبادة الجماعية، خاصة مع استهداف قطاع التعليم العالي بشكلٍ ممنهج. إن تدمير المدارس والجامعات واغتيال العقول الفلسطينية وحرمان جيل كامل من حقه في التعليم لا يمثل فقط انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، بل هو تهديد وجودي لمستقبل المجتمع الفلسطيني بأكمله.
فالإبادة التعليمية التي شهدتها غزة ستترك آثارًا مدمرة لا تقتصر على الجيل الحالي فحسب، بل تمتد لتؤثر في أجيالٍ قادمة، مما يفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويُضعف قدرة المجتمع على الصمود والنهوض. لذا، فإن ما تعرض له قطاع التعليم في غزة لم يكن مجرد حرب على البنية التحتية، بل كان استهدافًا مباشرًا للعقول والهوية الفلسطينية، ومحاولةً ممنهجة لتجريد الفلسطينيين من أدوات المعرفة والثقافة.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة لإنقاذ التعليم وإعادة إعماره، فإن مستقبل التعليم في غزة سيظل مرهونًا بتوفر الدعم الدولي والإقليمي لإعادة الإعمار، ومدى قدرة المؤسسات التعليمية على التكيف وإيجاد حلول مستدامة في ظل الواقع القاسي الذي فرضته الحرب. إعادة بناء التعليم في غزة هي معركة وجودية تهدف إلى حماية هوية الأجيال الفلسطينية القادمة وتمكينهم من أدوات الصمود والبقاء. من هنا، فإن إنقاذ التعليم ليس مجرد ضرورة إنسانية عاجلة، بل ضمان أساسي لبقاء المجتمع الفلسطيني، وحماية حقه في التعليم، وهويته الثقافية والحضارية.
[1] عدد المباني المدرسية أقل من عدد المدارس لأن بعض المباني يتم استخدامها لفترتين دراسيتين مختلفتين، صباحية ومسائية، وبالتالي يُحتسب المبنى الواحد كمدرستين منفصلتين. وهذا النظام يسمى “نظام الفترتين” أو “الدوامين”، وهو شائع في قطاع غزة بسبب النقص الحاد في عدد المباني المدرسية مقارنة بعدد الطلبة الكبير، ما يؤدي إلى استخدام المبنى الواحد لأكثر من مدرسة واحدة في نفس اليوم.
[2] أجرت الباحثة المقابلة مع خالد أبو ندى بتاريخ 5 مارس/آذار 2025 عن بعد، وقد اعتمد الجزء الأخيرة من الورقة بشكل أساسي على المقابلة مع أبو الندى ومجموعة الأوراق والوثائق الصادرة عن الجهات الرسمية التي زود أبو الندى الباحثة بها.