مقالاتملفات وقضايا

الآثار والانعكاسات المترتّبة على سياسة فضّ إضراب المعلمين بالقوّة

أيمن دراغمة

مضى على إضراب المعلمين الفلسطينيين ما يزيد على شهرين، والذي جاء احتجاجًا على عدم تلبية الحكومة الفلسطينية لمطالب المعلمين، وعدم التزامها بالوفاء بالاتفاق الموقّع معهم سابقًا فيما يتعلق بزيادة رواتبهم، والسماح بإجراء انتخابات حرة وديمقراطية لاتحاد المعلمين، وقد نجم عن الإضراب أضرارٌ جسيمة لحقت بالطلاب والعملية التعليمية، وأدت إلى عدم انتظام العام الدراسي. وقد أثار موقف الحكومة الفلسطينية برئاسة د. محمد اشتية استغراب واستهجان المتابعين والمحللين والنخب بسبب سياسة عدم الاكتراث والإهمال في التعاطي مع مطالب الإضراب، ورفضها للجلوس مع ممثلي حراك المعلمين الذي يقود الإضراب. ولعلّ من البديهيّ، وفي السياق الطبيعي لسلوك الحكومة في التعاطي مع إضراب أوسع شريحة في قطاع الموظفين، بل وأهم مرفق من مرافق الخدمات الحكومية، أن يتم الجلوس مع قادة الإضراب وممثليه حتى الوصول لاتفاق يرضي جميع الأطراف، ويضمن الوصول إلى حلول عادلة، ولكنّ رهان السلطة الفلسطينية على عامل الوقت، واللجوء لسياسة إنهاء الإضراب من خلال تدخل الأجهزة الأمنية يشكل تكرارًا لتجارب سابقة في التعامل مع إضرابات مهنية ونقابية مختلفة مثل إضراب الأطباء وإضراب المحامين وغيرهم.

إن مثل هذه السياسة ناجمة عن عدم الثقة بالنفس، وفوقية في التعامل مع القضايا الوطنية، وعن وجود فجوة واسعة بين الحكومة والمجتمع، ولعدم تفهم تطلعات ومطالب النقابات والاتحادات المهنية، ولعدم تقبل الحكومة لهذه المطالب، وعدم استعدادها لتقديم الحلول المناسبة لضمان نجاح عمل هذه المؤسسات بشكل مهني يقدم الخدمة المناسبة للشعب الفلسطيني. ولا شك أن مثل هذه السياسة هي امتداد لسياسات السلطة العامة في التعاطي مع الحريات والرأي الآخر والتعددية السياسية والديمقراطية، حيث إنه منذ عام 2006 حتى تاريخه لم تجرِ انتخابات عامة رئاسية وتشريعية، مما غيب دور المجلس التشريعي الرقابي والقانوني، وحرم الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الديمقراطي في انتخاب ممثليه، مما ساهم في تكريس السلطات بيد الرئيس، وأضعف دور السلطة القضائية وجعلها تحت سقف السلطة التنفيذية برئاسة رئيس السلطة. وتظهر استطلاعات الرأي المختلفة أن أكثر من 75% من الجمهور غير راضٍ عن سياسة السلطة في إدارة الشأن العام، وتداول السلطة، وتغييب أسس الحياة، والممارسة الديمقراطية، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في الذهاب إلى صندوق الاقتراع.

إن سياسات السلطة في إدارة الشأن الداخلي والعام من خلال تركيز السلطات بيد الرئيس، وإعطاء دور هام للأجهزة الأمنية الفلسطينية في مصادرة الحق الطبيعي الذي نص عليه القانون الأساسي في الممارسة السياسية والنقابية وفقًا للقانون نجم عنه أجواء من عدم ثقة الجمهور في السلطة وأهليتها لقيادة الشأن العام، لدرجة أنها أصبحت غريبة ومعزولة، بل إن نظرة الشعب تجاه السلطة تشوبها الشكوك والاتهام بالقصور والعجز والفساد. في هذا السياق فإن من أسباب تلكؤ السلطة في معالجة هذه الظروف التي تسمح بعودة العلاقة الطبيعية مع الشارع الفلسطيني هو عدم استعدادها لتقبل النتائج المترتبة على ذلك، وعدم ثقتها وضمانها بأن تحظى بثقة الشارع؛ مما يسمح لحزب السلطة بالفوز والحكم. وبدلًا من المراجعة والتسديد والإصلاح الداخلي لجأت إلى سياسة القبضة الحديدية، والعنف، وفرض السياسات بالقوة، وهو الواقع البوليسي السائد لممارسات وسلوك السلطة وحكومتها، ممّا أضر بالعلاقة ما بين السلطة والشارع الفلسطيني بمكوناته المختلفة بما فيها النقابات والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني، والتي تُعتبر عمومًا غير راضية عن سلوك السلطة في الشأن العام والشأن الخارجي والسياسات الاقتصادية والسياسات الأمنية، الأمر الذي قوّض أسس الشراكة بين السلطة والشارع الفلسطيني، وضرب عناصر هذه الشراكة، خاصة وأن السلطة تعمدت بسياساتها إضعاف عناصر الوحدة وقوة المجتمع المتمثلة في الشراكة المجتمعية، والحياة والممارسة الديمقراطية، والتعددية الثقافية والسياسية، والعدل وسيادة القانون.

الآثار السلبية المترتبة على التعامل مع إضراب المعلمين بسياسة العصا الغليظة

إن من حق المعلمين، وهم أكبر شريحة في الوظيفة العامة أن يطالبوا بتحسين أوضاعهم المالية والنقابية، ولا يشكك عاقل بصدق انتماء ووطنية قطاع المعلمين الفلسطينيين، وحرصهم على مصلحة الطلاب والمصلحة العامة، وإن التشكيك بصدق مطالب ونوايا المعلمين هو ظلم وإجحاف في حقهم، وانتمائهم الوطني، خاصة وأنهم يطالبون الحكومة الفلسطينية بالوفاء بما تم الاتفاق والتوقيع عليه سابقًا. كما أن التعذر بالأزمة المالية للتهرب من تسديد الزيادة على فاتورة رواتب المعلمين ليس منصفًا، خاصة وأن قادة الحراك وافقوا على تفهم الوضع المالي للحكومة، والتعاطي بإيجابية مع مبررات الحكومة في حال أدرجت الحكومة الزيادة على قسيمة الرواتب. لقد كان الأجدى بالحكومة أن تفي بالتزامها السابق بتنفيذ الاتفاق المبرم مع قطاع المعلمين، وأن تسمح لهم بممارسة حقهم الديمقراطي في انتخاب ممثليهم في اتحاد المعلمين من خلال عملية ديمقراطية يديرها قطاع المعلمين بمساعدة مؤسسات المجتمع المدني لينتخبوا من يمثلهم ويقود الاتحاد. لقد نتج عن عدم مسارعة الحكومة للجلوس مع ممثلي حراك المعلمين للوصول إلى حل استمرار الإضراب لفترة طويلة زادت على على الشهرين. وإنّ عدم إبداء الجدية من طرف السلطة للوصول إلى حلول عادلة ومنصفة، وعدم التعامل والتعاطي مع الإضراب بسياسة عقلانية ومسؤولة من خلال الحوار المباشر للوصول إلى حل، وبدلًا من ذلك اللجوء لسياسة العصا الغليظة، وفض الإضراب بالقوة، نجم عنه أضرار متعدّدة منها:

أولًا: لقد تعطّل حق الطلاب في التعلم لمدة شهرين متواصلين، ولقد أضر هذا الإضراب بما يقارب مليون طالب على مقاعد الدراسة، كما أنه سبب معاناة لأهالي وعائلات هذا العدد الكبير من الطلاب نفسيًا ومعنويًا، زيادة على الخسارة العلمية الناجمة عن توقف العملية التعليمية، وعدم القدرة على تعويض ذلك، خاصة وأن العام الدراسي قارب على الانتهاء.

ثانيًا: أضرت هذه السياسة بنظرة الشارع الفلسطيني وقطاع المعلمين والطلاب والأهالي إلى أهلية الحكومة لإدارة الشأن العام، وقدرتها على معالجة الأزمات، خاصة وأن مطالب المعلمين لا ترتقي لسلم الأزمات، بل هي مطالب طبيعية وعادلة، وأن مطلب دمقرطة اتحاد المعلمين حق طبيعي وقانوني، وسياسة فرض قيادة للاتحاد من طرف السلطة يضر بقدرة الاتحاد على القيام بدوره في تمثيل المعلمين ومطالبهم.

ثالثًا: كان لسياسة السلطة في التعاطي مع الإضراب في ظل أجواء من احتدام الصراع مع الاحتلال وحكومته المتطرفة، وانشغال الشعب الفلسطيني وفصائله بالتصدي لها تأثيرٌ سلبيٌ على الحالة الوطنية العامة، وصهر الجميع في بوتقة التوحّد لمواجهة الخطر الرئيسي وهو الاحتلال وسياسات حكومته المتطرّفة. وكان الأولى أن يتم تصفير الخلافات، وضمان وحدة الصف، والإسراع في معالجة مشكلة الإضراب في أقل وقت ممكن.

رابعًا: عدم استجابة السلطة لمطالب المعلمين بممارسة حقهم الديمقراطي في انتخاب ممثليهم في الاتحاد هو امتداد وتكريس لسياسة فرض الأمر الواقع، ومصادرة الحقوق الديمقراطية للشعب الفلسطيني، وهو تأكيد على استمرار السلطة في عدم السماح للنقابات والاتحادات بممارسة حياتها النقابية وفق القانون، ومثل هذه السياسة لا توفر الظروف والأجواء المناسبة لعمل نقابي وطني فاعل.

خامسًا: إن الشعب الفلسطيني باعتباره شعبًا محتلًا يعاني من ظلم الاحتلال وبطشه، يأمل من السلطة أن ترعى وتساهم في نشر قيم الحرية والكرامة، وأن تحترم القانون والإنسان، وأن تضع برنامجًا يرتكز على احترام الإنسان الفلسطيني وتكريمه واحترام حريته من أجل بناء الإنسان الحر. وإن عملية البناء هذه هي ثمرة ونتاج لسياسات متكاملة نابعة من رؤية وطنية تحترم المواطن، تبدأ من البيت وتمتد للمدرسة والمجتمع، وعلى العكس من ذلك فإن سياسة الاستبداد والقمع وسياسة الممارسة البوليسية، ومصادرة الحقوق تعيق محاربتنا لسياسة الاحتلال على صعيد المؤسسات الدولية، وإن هذا السلوك ينجم عنه حالة من الضعف والتراجع والانشغال في قضايا داخلية بعيدًا عن الهدف الرئيسي.

سادسًا: إن من أسباب قوة ونهضة وصمود الشعب الفلسطيني اهتمامه بالعلم حتى عُرف عنه أنه شعب متعلم مثقف وواعٍ، ولذا فحريّ بالسلطة الفلسطينية أن تحترم العلم والمعلم وتكرم المعلمين، وإن احترام الحكومة للمعلمين هو رسالة للطلاب والمجتمع لتكريم المعلم واحترام العلم، وأننا بأمسّ الحاجة لاستمرار نهج التميز من خلال العلم، بل يجب أن يكون هناك خطة تعليمية لصناعة الأجيال القادمة، ولن يكتب لهذه الخطة النجاح بعيدًا عن احترام المعلم و تكريمه، وفي المقابل فإن تراجع دور المعلم والمدرسة سيؤدي إلى تراجع وترهل عوامل الصمود والتقدم والازدهار والتطور.

سابعًا: إن رسالة المعلم ومهمته لا تنحصر في الدور العلمي والتعليمي، بل هي مهمة متكاملة في بناء الشخصية السليمة للطالب، وفي بناء المواطن الصالح المنتمي لوطنه، والمحب لشعبه وبلده، الإنسان الواعي المتوازن الذي يمتلك مهارات التفكير الموضوعي والعلمي، ومطلوب من المعلمين أن يصنعوا أجيالًا قادرة على مواجهة التحديات، والعبور بسفينتنا الوطنية نحو بر الأمان، وعليه فإن لم يشعر المعلم بالاحترام والتقدير والإنصاف فكيف له أن ينجح في مهمته ورسالته؟

ثامنًا: تبدأ عملية بناء المواطن الصالح وتدريب الطلاب على الممارسات والسلوكيات الإيجابية في المدرسة. ولجوء السلطة لسياسة القمع والباب المغلق يؤثر سلبًا على مفاهيم تربوية متعددة لدى الطلاب والمعلمين، فكان واجبًا على الحكومة أن تؤسس لنشر ثقافة الحوار والرأي الآخر وحرية التعبير، والمطالبة بالحقوق، وتعليم أسلوب حل النزاعات والأزمات وحل الخلافات بالحوار، وإعلاء المصلحة الوطنية العامة على غيرها من المصالح، فهذا القطاع الواسع من المعلمين والذي يقارب 52 ألف قائد، يشكل أكبر شريحة  للعاملين في قطاع الخدمات الحكومية، وكل عضو فيه يؤثر سلبًا أو إيجابًا على شريحة واسعة من خلال الأسرة والجيران والأصدقاء والأقارب، والحالة السلبية الناتجة عن كسر الإضراب بالقوة سينتج عنها حالة من الانطواء والخلخلة والفرقة والاغتراب والعزوف عن المشاركة في الشأن الوطني العام كردة فعل سلبية على حالة التسلط والتنمر من قبل السلطة.

أخيرًا فإنه مطلوب من السلطة الفلسطينية بشكل رئيسي أن تراجع سياساتها في الحكم بشكل عام، وتتخلى عن مصادرة حقوق المواطنين في الممارسة الديمقراطية والسياسية والنقابية، وعلى الحكومة الفلسطينية كذلك أن تتحلى بالشجاعة في التراجع عن أخطائها المتكررة في إدارة الشأن العام، وأن تغير سياستها هذه، من خلال الانفتاح والتشارك مع المؤسسات المجتمعية، النقابية والاتحادية ومؤسسات المجتمع المدني، وأن تضع خطة جديدة تقوم على الشفافية والحوار والانفتاح والتشارك مع الشرائح المجتمعية المتعدّدة. وفي ذات الوقت فلن المسؤولية الوطنية تتطلب من مؤسسات وقوى المجتمع المدني الفلسطيني والشخصيات الاعتبارية ذات التأثير التدخل لانهاء معاناة الطلاب والحيلولة دون ضياع عامهم الدراسي والبحث عن حلول قد تكون مقبولة على المعلمين من جهة وعلى الحكومة من جهة أخرى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى