ملفات وقضاياتقاريرالاقتصاد الفلسطيني

اقتصاد غزة بعد السابع من أكتوبر:من أزمة الحصار إلى ويلات الحرب والدمار

رغد عزام1

تنزيل التقرير

يؤثر عدم الاستقرار السياسي والتوترات الجيوسياسية على النشاط الاقتصادي، ليس فقط في فلسطين ومحيطها الإقليمي، بل على مستوى الاستقرار المالي وأداء الاقتصاد العالمي، الذي يواجه تهديدات بعودة الضغوط التضخمية نتيجة الاضطرابات في سلاسل التوريد، لا سيما أزمة حركة الملاحة في البحر الأحمر، ومخاطر التأمين على البواخر هناك، وانخفاض عدد الرحلات عبر تلك المنطقة. وبالحديث عن اقتصاد فلسطين، فإن أزمته الاقتصادية مزمنة ومرتبطة منذ عقود بوجود الاحتلال وتصرفاته التعسفية وانتهاكاته المتواصلة، فلا يمكن التعامل مع الاقتصاد الفلسطيني بذات المقاييس التي يتم التعامل فيها مع أي دولة أخرى ذات سيادة، وتمتلك مواردها ولها كامل الحرية في اتخاذ قراراتها، ولها حيز كافٍ لممارسة سياساتها المالية والاقتصادية، الأمر الذي يفتقده الاقتصاد الفلسطيني في ظل الاحتلال.  

وبعرض سريع لآثار الدمار والإبادة التي مارسها الاحتلال بحق قطاع غزة، وبالاستناد إلى أحدث الإحصاءات المتوفرة لدى جهاز الإحصاء الفلسطيني (حتى تاريخ 6 مايو 2024)، يتبين أن عدد الشهداء بلغ 35,233 شهيدًا، منهم 14,873 من الأطفال، و 9,801 من النساء، و1,049 من الشيوخ. أما على صعيد المباني والمنشآت، فقد دمر الاحتلال 294,000 مبنى بشكل جزئي، و25,010 بشكل كلي، و86,000 وحدة سكنية مدمرة بالكامل، إضافة إلى 103 من المدارس والجامعات مدمرة بشكل كلي، و309 مدمرة بشكل جزئي، و32 مستشفى خرج عن الخدمة بالكامل. عدا عن تدمير المساجد والكنائس والمقرات الحكومية وغيرها ممن طالها الدمار بشكل كلي أو جزئي.

  1. واقع الاقتصاد في قطاع غزة

لم يكن حال الاقتصاد الغزي قبل السابع من أكتوبر أفضل بكثير مما هو عليه الآن، إذ عانى لسنواتٍ طوال من الحصار والتضييق والتهميش، وقُطّعت أوصاله وفُصل عن العالم الخارجي، ومُنع من استخراج الغاز الطبيعي من الحقول التي اكتُشِفت في التسعينيات في البحر الأبيض المتوسط قبالة شاطئ غزة، وضَيّق عليه في ثرواته المائية الغنية. وقد تسبب هذا بأوضاع كارثية لعموم قطاع غزة، إذ بلغت نسبة انعدام الأمن الغذائي في القطاع، بحسب تقرير للبنك الدولي في مايو الماضي، حوالي 53%، ما يعني أن أكثر من نصف السكان كانوا يعانون من خطر انعدام الأمن الغذائي. كذلك فإن أكثر من نصف القوى العاملة كانت تعاني من بطالة، ويتلقى 83% من العاملين أجرًا أقل من الحد الأدنى للأجور. إضافة إلى أزمات العجز في إمدادات الماء والكهرباء لقطاع غزة، وارتفاع تكلفتها وعدم انتظامها، وتحديات اجتماعية واقتصادية أخرى. مما تسبب في انحسار قطاع الزراعة، وتراجع قطاع الصناعة، اللذيْن يشكلان عضدي الاقتصاد، وأدى هذا إلى ضعف القدرة على إحداث تنمية حقيقية في قطاع غزة، وجعل الهيكل الإنتاجي فيه مشوهًا، ويميل للشكل الخدمي، وينحرف عن مقصده الإنتاجي، ويعمل بأقل من قدرته الإنتاجية الطبيعية بكثير.

أما بعد السابع من أكثوبر، وعقب كثافة واتساع الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على القطاع، فقد تدهور الوضع الاقتصادي، وأخذت المؤشرات الاقتصادية الرئيسة في القطاع بالانحدار بتسارع شديد. فمع نهاية شهر 12/ 2023، أظهرت التقديرات المبكرة انخفاضًا حادًا في الظروف المعيشية، إذ بلغ معدل البطالة 79.3% (بزيادة تقدر بحوالي 75% مقارنة بالعام السابق)، وارتفع معدل الفقر بين الغزيين إلى حوالي 96% (بزيادة تقدر بحوالي 48% مقارنة بالعام السابق). أما الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد منه، فقد سجلا انكماشًا بحوالي 24% و 26% على التوالي مقارنة بالعام السابق.

فقطاع الزراعة الذي ساهم في رفد الناتج المحلي في قطاع غزة خلال الربع الثالث من عام 2023 بحوالي 58 مليون دولار، تدهور لتصل إنتاجيته إلى 5 مليون فقط خلال الربع الذي تلا السابع من أكتوبر (الشكل 1). وقد رصدت منظمة يونوسات (UNOSAT) التابعة للأمم المتحدة، من خلال صور الأقمار الصناعية، التغيرات الملحوظة في المناطق الزراعية خلال إطار زمني يمتد من أكتوبر 2023 حتى فبراير 2024، حيث يمكن من خلال هذه الصور ملاحظة التراجع في المحاصيل الزراعية نتيجة تأثير الأعمال التخريبية للاحتلال، مثل التجريف والقصف الجوي والمدفعي وحركة الآليات العسكرية الثقيلة. ويظهر التحليل الإحصائي ارتفاع نسبة الأراضي الزراعية المتضررة خلال هذا العدوان من 5.36% في أكتوبر 2023 إلى 33.13% في فبراير 2024.

تأثر قطاع الصناعة أيضا بالدمار الواسع، وبقطع التيار الكهربائي المتواصل، وبانقطاع سلاسل الإمداد كذلك. وكما يتضح من الشكل (1)، فإن الإنتاج الصناعي انخفض حوالي 51 مليون دولار في الربع الرابع من عام 2023 مقارنة بسابقه. يوضح الشكل (1) أيضًا، مقدار الانكماش الحاد في القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية في قطاع غزة، خلال الربع الذي تلا السابع من أكتوبر مقارنةً بالربع الذي سبقه. بينما قدر البنك الدولي  نسبة الأضرار والتدمير التي طالت القطاعات الاقتصادية المختلفة في قطاع غزة كما يلي: قطاع التعليم 73%، قطاع الصحة 81%، الخدمات البلدية 75%، المياه والصرف الصحي 55%، المعلومات والاتصالات 75%، النقل 63%، التجارة 80%، والإسكان 62%.

 بينما يوضح الشكل (2) مساهمة كل قطاع من القطاعات في الناتج المحلي نهاية 2023، والذي يُظهر الخلل في الهيكل الإنتاجي بعد نمو قطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية الأساسية الأخرى كالصناعة والزراعة. وقد وصف الأونكتاد كارثية الوضع بأن “الظروف المعيشية في غزة هي في أدنى مستوياتها منذ بدء الاحتلال عام 1967.

الشكل (1): التغير في القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية في قطاع غزة خلال الربع الثالث والرابع لعام 2023

القيمة بالمليون دولار، بالأسعار الثابتة (سنة الأساس 2015)

الادارة العامة والدفاع، الرسوم الجمركية، وصافي ضريبة القيمة المضافة على الواردات

المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني

الشكل (2): مساهمة أهم القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي في غزة خلال الربع الرابع من عام 2023

الادارة العامة والدفاع، الرسوم الجمركية، وصافي ضريبة القيمة المضافة على الواردات

المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

  • توقعات البنك الدولي لاقتصاد قطاع غزة

وبالحديث عن توقعات البنك الدولي، فقد أظهر تقريره الأخير الصادر في إبريل 2024، أن تزايد الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، قد ألقت بظلالها على نمو اقتصاد المنطقة ككل، إذ تراجع النمو الاقتصادي، وارتفعت مستويات المديونية، وتزايدت حالة عدم اليقين. وتوقع التقرير أن تعود اقتصادات الشرق الأوسط إلى معدلات النمو المنخفض، المماثل للفترة التي سبقت جائحة كورونا. كما توقع البنك الدولي زيادة أسعار السلع الأولية إقليميًا وعالميًا في حال طال أمد تعطل طريق البحر الأحمر، واستمرت حالة الخوف من مرور السفن التجارية عبر قناة السويس.

  • آفاق التنمية وإعادة الإعمار

لا شك أن الحروب دائمًا ما تترك تحديًا صعبًا، وتخلف آثارًا مدمرة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتستمر تبعاتها لفترات طويلة، وتكون أكثر تعقيدًا من العدوان بحد ذاته، وعادة ما تستغرق إعادة الإعمار وقتًا طويلًا، وتستدعي جهودًا مضنية، وتواجه فيه المشاريع الصغيرة والكبيرة، حكومية كانت أم خاصة، إشكاليات وعثرات تحد من قدرتها على مواصلة نشاطها بالشكل المطلوب،

إن عملية إعادة الإعمار تتطلب سياسات اقتصادية إصلاحية، تستهدف بداية البنية التحتية، كضرورة أساسية لخفض تكاليف الأنشطة الاقتصادية لاحقًا، وتسهيل عودة عملها بالشكل الطبيعي. يلي ذلك إعادة هيكلة عمل القطاعات، ونقل الاقتصاد المحلي من الاعتماد على القطاع الخدمي إلى الشق الإنتاجي، من خلال استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة، إلى جانب توفير فرص العمل، والتخفيف من وطأة البطالة والفقر بين فئات المجتمع.

وقد أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكو)، في 2 أيار/ مايو 2024،  تقريرًا حول تقديرات الوضع في غزة وحجم الآثار التدميرية على الفلسطينيين والاقتصاد والتنمية البشرية. وقد توقع التقرير أن يستمر العدوان من 7 إلى 9 أشهر. وقدر التقرير أن سيناريو استمرار الحرب لتسعة أشهر، سيرفع معدل الفقر في فلسطين ككل، إلى أكثر من ضعفي ما كان عليه قبل الحرب، وستبلغ خسائر الناتج المحلي الإجمالي حوالي 7.6 مليار دولار.  وأشار التقرير إلى التراجع الكبير في مؤشر التنمية البشرية، الذي تأثر بخسارة الشباب والقوى العاملة لفرص العمل.

الخاتمة

قد يكون الحديث عن إمكانية إحداث تنمية اقتصادية في قطاع غزة ضربًا من الخيال في الوقت الحالي، في أرض بات ينتشر فيها الفقر بأسوأ أشكاله. إلا أن امتلاك قطاع غزة لقدرات وطاقات وكفاءات بشرية مذهلة، وارتفاع مستويات التعليم، وتوفر العمالة الماهرة، هي نقاط قوة في كفة الغزيين، إضافة إلى امتلاكهم ثروات طبيعية من موارد بحرية وحقول غاز طبيعي وغيرها. إلا أن قطاع غزة بحاجة ماسة لحزمة إجراءات تنموية، ولنموذج استرشادي لتجربة أحد البلدان الإقليمية أو الدولية، التي مرت بظروف شبيهة من الصراع والدمار، وانعدام الأمن والاستقرار، وتمكنت من أن تحدث تغيرًا ملموسًا، وتحقق تنمية اقتصادية، وتنهض بظروفها المعيشية. وقد شهد التاريخ الحديث عددًا من التجارب النهضوية لأمم لم يكن بالإمكان التصور يوما ما بأن يكون لها مستقبل اقتصادي، بعد أن رزحت عقودًا في قاع الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستطاعت خلال فترة قياسية أن تقفز قفزات هائلة جعلتها تتحول للاعب أساسي بين الاقتصادات، كتجربة إعادة إعمار أنغولا بعد انتهاء الحرب، وتجربة نهوض رواندا بعد إنهاء الاستعمار وتوقف الحرب الأهلية عام 2000، ومعجزة انتعاش اقتصاد فيتنام التي بدأت بعد انسحاب القوات الأمريكية منها عام 1974، إضافة لنموذج تطور ماليزيا وسنغافورة بعد خروج الاستعمار البريطاني منهما.

(1) د.رغد عزام : باحث في مركز رؤية للتنمية السياسية، مختصة في شؤون الاقتصاد الفلسطيني، وآثار المقاطعة الاقتصادية على الاقتصاد الفلسطيني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى