احتجاجات المحامين الفلسطينيين: الجذور والدافع والمطالبات
د. إياد أبو زنيط و سليمان بشارات[1]
يُشكل الدور النقابي للمحامين الفلسطينيين أمرًا مُهماً في التأسيس لحياة قانونية في أطر المجتمع الفلسطيني بكل أطيافها، وقد لعبت الأجسام النقابية التي كونّها المحامون الفلسطينيون وتحديداً فترة الاحتلال ”الإسرائيلي“ للضفة الغربية وغزة أدوراً وطنيةً مهمة، بحيث شكل المحامون إحدى حلقات الاتصال المهمة بين الفلسطينيين وقيادتهم في الخارج، فكانوا في طليعة العمل الوطني.
تخوض نقابة المحامين اليوم -التي شكلت بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بقرار رقم78 لعام 1997م– تزامنًا مع الجهد الوطني الذي يطلع به المحامون الفلسطينيون، احتجاجاً قانونياً لنيل المواطن الفلسطيني لحقوقٍ أكثر عدالةً،فتخوض النقابة منذ الرابع من يوليو/تموز2022 احتجاجاتها ضد القوانين الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى، والتي تقول النقابة أنّها قوانين تُقرُ باستفراد كبير، وهو ما يدعو إلى طرح جملةٍ من التساؤلات، يتمحور أبرزها حول ماهية الظروف التي أنتجت علاقة مضطربة بين المحامين ومجلس القضاء الأعلى؟ وأسباب الاحتجاجات الأخيرة؟ وكيفية تأثير غياب المجلس التشريعي على سن القوانين؟ وصولاً إلى التساؤل عن سيناريوهات الحل للأزمة الحالية؟
الأزمة وجذورها وأسبابها:
لا تُشكل الأزمة الحالية حدثاً استثنائياً في الحالة الفلسطينية المتشابكة، ولكنها امتداد لعدم إجراء إصلاحات قضائية طالبت بها نقابة المحامين خلال السنوات الماضية، مثلما لا يُمكنُ فصل هذه الحالة عن كونها تشعبًا من تشعبات الحالة السياسية الفلسطينية، التي شملت عوامل عدة قادت إلى خلق جو من الفوضى مسَّ جوانب سامية تتعلق بالقضاء وحقوق المواطنين، ولعلَّ أبرزها حالة الانقسام السياسي الذي أفضى بالضرورة إلى وجود انقسام في الجهاز القضائي، وتزايد الهاجس الأمني في التعامل مع القضاء باعتباره ركنًا لا بُد وأن يخضع إلى تحكم السلطة التنفيذية فيه، فضلاً عن ظهور صراعات في القضاء الفلسطيني نفسه، وتحديداً في الضفة الغربية، إذ انقسم القضاء إلى مراكز وأشخاص تُدير كل فئة صراعات فيما بينها وبين المراكز الأخرى.
يُصبح الأمر أكثر وضوحاً إذا ما أضيف لهذه الأسباب سبب بارز تمثل في تعطيل المجلس التشريعي وصولاً إلى حله، ويتجلى في ذلك مدى تغول السلطة التنفيذية على رديفتها القضائية والأخرى التشريعية، وهو ما يعني تفرد الأولى باتخاذ القرار بعيدًا عن المبدأ السامي الذي يتمثل بالفصل بين السلطات، وهو ما قاد بشكلٍ أو بآخر إلى الأزمة الحالية.
جاءت أسباب الأزمة الحالية الأساسية متمثلةً في التعديلات الأخيرة المتعلقة بالسلطة القضائية والتي نُشرت في جريدة الوقائع الفلسطينية الرسمية عدد (26) بتاريخ 6/3/2022، وتمثلت بتعديلاتٍ طالت قانون الإجراءات الجزائية، وقراراتٍ تخص قانون تُعدل أصول المحاكمات المدنية والتجارية، وتعدل قانون البيانات في المواد المدنية والتجارية، مثلما عُدِّل من خلال تلك القرارات تشكيل المحاكم النظامية، وتعديل قانوني التنفيذ والمحاكم الإدارية، حيث أتت تلك القرارات امتدادًا لقرارات صدرت خلال العامين 2019-2020، وأدت إلى تشكيل مجلس قضائي انتقالي خلافًا للقانون الأساسي وقوانين السلطة القضائية، مما أدى إلى تآكل التكوين والبناء المؤسسي في الإدارات القضائية.
كانت تلك التعديلات السبب المباشر للأزمة الحالية، حيث رأت نقابة المحامين فيها انتهاكاً لإجراءات الحق في التقاضي بين المتخاصمين، وعرقلة حقيقية لتقليل أمد التقاضي بل دفعًا باتجاه الذهاب إلى القضاء العشائري، وإعمالاً لأخذ الحق بالقوة، وتقويضاً لأسس الديمقراطية المعمول بها عالمياً، مما يُهدد السلم الأهلي الفلسطيني، ويُضاعف من انتهاك الحقوق والحريات، مشيرة إلى أمثلة عدة عن تلك التعديلات، مثل تكليف المدعي بإحضار شهوده، وإن لم يفعل يعتبر عاجزاً وهذا بحد ذاته يحرمه حق الدفاع وهو حق مقدس، واستبعاده يعني هدم ركنٍ من أركان العدالة، وهروباً من التزام المحكمة بضرورة إحضار الشهود من خلال النيابة العامة، بالإضافة إلى أمثلة أخرى تُخالف مبدأ علنية المحاكمات، ومنها نظر المحكمة في الاستئناف في جرائم تصل عقوبتها إلى 15 عاماً تدقيقاً، أي دون جلسة تحوي مرافعات الدفاع والنيابة.
قامت النقابة بالردِّ على تلك التعديلات برفعها كل الملاحظات للمجلس التنسيقي لقطاع العدالة، والمشكل بمرسوم رقم 7 من العام 2019م، الذي يعدُّ من أبرز مهامه، تعزيز سيادة القانون، وحماية حق المواطن في الوصول إلى لعدالة، ولكن المجلس لم ينعقد لإجراء للنظر في الملاحظات المقدمة، وهو ما اعتبرته النقابة تهميشًا لها، ومدعاة أساسية لمواصلة احتجاجاتها، حسب تصريحات نقيب المحامين.
لم تكن نقابة المحامين هي المعترض الوحيد على التعديلات القانونية الأخيرة، بل برزت إلى الواجهة، جهات حقوقية عدة أصدرت بياناتٍ توضح من خلالها مواقفها مما حدث، فمؤسسة الحق، اعتبرت القوانين الصادرة في الشأن القضائي، من حيث المبدأ وبمعزلٍ عن تفاصيلها انتهاكاً مباشراً لأحكام القانون الأساسي، كونها انتهكت السلطة القضائية وانطوت على تدخلٍ في شؤونها من قبل السلطة التنفيذية، مثلما انطوت على مخالفات واضحة للضمانات والحقوق الدستورية المكفولة بالقانون الأساسي.
انسجم موقف غالبية النقابات والمؤسسات الحقوقية مع موقف نقابة المحامين، مؤكدين على أنّ التعديلات الحالية وبشكلها القائم، تدفع باتجاه انهيار شاملٍ في منظومة القضاء الفلسطيني، وإزاء ذلك لا بُد من استمرار النقابة والجهات ذات العلاقة في خطواتها الاحتجاجية، باعتبارها الوسيلة الضامنة لإجراء تعديلات تضمن الحقوق على التعديلات المُقرة.
مجلسٌ قضائي يتحول من حلٍّ إلى معضلة:
نتيجة لجزءٍ من الأسباب السابقة وفي فترات مبكرة، كانت هنالك محاولات لإصلاح الجهاز القضائي سابقة على أحد الأسباب السابقة وهو الانقسام، وجرت أولى المحاولات بإطلاق السلطة الفلسطينية مبادرتها الأولى في عام 2000، بإعلانها تشكيل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، بالإضافة إلى تشكيل اللجنة الوطنية لتطوير قطاع العدالة في عام 2017، والتي تتمحور مهامها في مراجعة منظومة التشريعات القضائية وإعداد رؤية شمولية لتطوير قطاع العدالة والقضاء، وقد حُدِّد القرار بقانون فترة عملها بستة أشهر، إلا أن مداولاتها وعملها استغرق عامًا؛ لتقديم تقريرها المتعلق بنتائج أعمالها وتوصياتها، وتبنى التقرير مجموعة من التوصيات تتعلق بتعزيز استقلال القضاء، وتوسيع عضوية مجلس القضاء الأعلى، وتخفيض سن تقاعد القضاة ليصبح 65 سنة بدلاً من 70 سنة، ومعالجة الإشكاليات الفنية والمهنية المتعلقة بعمل الجهاز القضائي.
حُلَّ مجلس القضاء الأعلى بقرار صدر عن الرئيس محمود عباس في عام 2019، وشُكل من خلاله مجلس قضائي انتقالي مدته عام قابلاً للتمديد لستة شهور، نتيجةً لجملةٍ من القوانين التي صدرت في تلك الفترة مثل إقالة بعض القضاة وإجراء بعض التعديلات على موادٍ قانونية، ومطالبات المحامين بمجلس قضائي أكثر شفافية وحياداً، للنظر في إعادة تشكيل هيئات المحاكم، وإعداد مشاريع قوانين تضمن إصلاح القضاء، وتشكيل مجلس القضاء الأعلى وفقاً لأحكام القانون.
واجه مجلس القضاء الأعلى المُشكل ليكون الضامن الأول لقطاع العدالة في مراحل تكوينه احتجاجات عدة، واتهاماتٍ متباينة بعدم الحياد والشفافية، والخضوع إلى ضغوط السلطة التنفيذية، في هذه المرة ومراتٍ أخرى، ففي عام 2018، كان هنالك احتجاجاتٍ لنقابة المحامين وهيئات حقوقية عدة مثل مؤسسة الحق والضمير والهيئة الأهلية لاستقلال القضاة، نُدد من خلالها بقرارات مجلس القضاء وتحول قراراته من حلولٍ إلى معضلات، على خلفية إقالة قُضاة في المحكمة العليا بسبب التعبير عن رأيهم، وفي عام 2020 قررت نقابة المُحامين مقاطعة مجلس القضاء الأعلى باعتباره مجلساً غير شرعي، ولاقى تعيين رئيسه القاضي عيسى أبو شرار انتقاداتٍ واسعة.
ترى نقابة المُحامين في الأزمة الراهنة عدم تحقيق مجلس القضاء الأعلى مطالبها، بل تتهم المجلس بتجاهلها، حيث ترى أن عدداً قليلاً من القضاة يرفع توصياتٍ للرئيس بشأن القوانين وتعديلاتها متجاهلين نقابةَ مُحامين تضم ما يقرب من 15 ألف محامٍ فلسطيني، وتؤكد على أنّها حاولت جاهدة عدم الوصول إلى خطواتها الاحتجاجية الحالية، وأن مطالبهم قانونية ومهنية، هدفها الأول الصالح العام، ولا تخوض هذه المرة أية إضراباتٍ أو احتجاجاتٍ للمطالبة بحقوق ماليةٍ أو امتيازات للمحامين، بل هي خطوات نقابية تخوضها وتترافع فيها نيابةً عن المجتمع الفلسطيني برمته، ولن تقبل بأن يُدَّمرَ قطاع العدالة في فلسطين.
اكتفى مجلس القضاء الأعلى من جهته وحتى اللحظة، بإصدار بيان أكدّ من خلاله على أن التعديلات الحالية التي قِيمَ بها، جاءت من أجل المواءمة مع متطلبات الحياة المتسارعة، ولتسريع إجراءات التقاضي، موضحًا أن باب الحوار مع نقابة المُحامين مفتوحٌ دائماً، الأمر الذي ترى فيه النقابة عكس ذلك، بل تذهب إلى أن تهميش النقابة وتوصياتها، هو سد لباب الحوار وتفرد فج باتخاذ القرار.
صمت رسمي ومواقف متعددة:
أكثر ما يثير الدهشة خلال هذه الأزمة، الغياب والصمت الرسمي للحكومة والرئاسة الفلسطينية، رغم مساس المطالب لمنظومة الحقوق، واتخاذ نقابة المحامين سلسلة خطوات ووقف العمل في المحاكم الفلسطينية، إضافةً إلى اعتصام مركزي أمام مجلس الوزراء خلال الجلسة الأسبوعية للحكومية، فيما هدد مجلس النقابة بإمكانية الذهاب إلى العصيان المدني في حال لم يُستجاب لمطالبهم، فيما أعلنت بعض القوى والتنظيمات مواقف واضحة منها، إذ عبرت الجبهة الديمقراطية عن تأييدها لحراك المحاميين ورفضها لجملة القرارات بقانون، فيما أطلق ما يزيد عن 150 صحفي عريضة يؤكدون دعمهم للحراك، وعبر تجمع النقابات المهنية في محافظات غزة عن وقوفهم إلى جانب مطالب نقابة المحامين.
الخاتمة:
تخوض نقابة المحامين الفلسطينيين معركتها القانونية والنقابية حرصًا على الصالح العام كما تقول، وتُحاول الابتعاد عن التسيس، على الرغم من سيطرة حركة فتح على النقابة، لتبقى المطالبات مُحقة دون اتهامها بزعزعة النظام السياسي واستقراره، وتُصرُّ على مطالبها التي ترى في التخلي عنها تخلياً عن الدور النضالي المزدوج للمحامي الفلسطيني المتمثل في الدفاع عن الأرض والإنسان.
تأتي الأزمة الحالية امتداداً للأزمة المستمرة في النظام السياسي، ونتيجة سيطرة السلطة التنفيذية على السلطات الاخرى، بما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات، ويُضعف منظومة الشفافية، ويُغيب المساءلة والمحاسبة، وهي أزمة ارتدادية نتيجة أزماتٍ رُحلت ولم تُحل، ومن المتوقع أن تتكرر مُستقبلاً بغياب المجلس التشريعي، ودون إجراء انتخاباتٍ عامة.
فضلاً عما سبق، يعتبر مجلس القضاء الأعلى، كونه المسؤول الأول عن التعديلات التي جرت وعن التصورات التي تُرفع إلى أعلى الهرم في المستوى السياسي مسؤولاً مباشراً عن حدوث الأزمة الحالية وتبعاتها المستقبلية، حيث يتوقع أن يؤدي استمرار تكون المجلس بهذا الشكل إلى احتجاجات مماثلة مستقبلاً، ما لم يشكل مجلس قضائي أعلى مختلط يضم قضاةً معينين وآخرين من خارج السلك القضائي مثل محامين خبراء، مما يضمن توازناً عادلاً يقود إلى تحصين القضاء من تغول أشخاص بعينهم داخله.
[1] – باحثان في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله