اجتياحات المدن الفلسطينية في الضفة الغربية: الأثر الاقتصادي والتحديات الاجتماعية

تقييم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تدمير البنية التحتية وتعطيل الحياة اليومية

د. رغد عزام

شهدت مدن الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر تصعيدًا غير مسبوق في الاجتياحات الإسرائيلية، تزامنًا مع التوترات الإقليمية المتزايدة. وتركزت هذه الاجتياحات في مدن جنين وطوباس ونابلس وطولكرم وقلقيلية شمال الضفة الغربية، وامتدت إلى باقي مدن الضفة الغربية ومخيماتها وقراها، حيث نفذ الاحتلال 1485 عملية اقتحام متفرقة في عموم الضفة. وتأتي هذه الاجتياحات ضمن سلسلة من العمليات العسكرية والاعتقالات الواسعة، حيث قامت القوات الإسرائيلية باقتحام المدن الفلسطينية بشكل مستمر، رافق ذلك حصار بعض المناطق، وفرض حظر التجوال في أماكن أخرى، مما أدى إلى شلل حركة السكان، وصعوبة وصول البضائع والخدمات الأساسية.
وفي إحصائية أعدتها وزارة الاقتصاد الوطني مطلع العام 2024، بينت أن 95.5٪ من المنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية قد تراجعت مبيعاتها وإيراداتها الشهرية منذ بدء العدوان على قطاع غزة، وأظهرت الإحصائية أن 80٪ من المنشآت الاقتصادية صرحت بأن كثرة الاجتياحات الإسرائيلية هي السبب الرئيس وراء تراجع مبيعاتها. وقد أثرت هذه الاجتياحات بشكل واسع على مختلف نواحي الحياة اليومية للفلسطينيين، وخاصة في الجوانب الاقتصادية، حيث تصاعدت الضغوط على الأفراد والشركات والمؤسسات. ومع استمرار هذه الاجتياحات، بات المجتمع الفلسطيني يعاني من أزمات إنسانية متصاعدة تشمل نقص الموارد الأساسية وارتفاع معدلات البطالة والفقر وبالتالي انحسار الطلب. وقد أدت هذه الأزمات إلى تزايد الاعتماد على المساعدات الإنسانية، الأمر الذي شكل عبئًا إضافيًا على ميزانية السلطة الفلسطينية ومنظمات الدعم الاجتماعي. ويأتي هذا في الوقت الذي أقر فيه الكنيست فرض حظر على عمليات الأونروا في فلسطين، ما يشكل ضربة مدمرة للحالة الاجتماعية وتقويض للإمكانات المعيشية. هذا إلى جانب الاقتطاعات المتواصلة لأموال المقاصة، والتي كان آخرها اقتطاع 35 مليون دولار من أموال المقاصة لصالح عائلات قتلى العمليات الفدائية.
يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على أثر الاجتياحات الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية، والتي أدت إلى تردي اقتصاد المجتمع الفلسطيني، كما يلي:
أوّلا: تدمير البنية التحتية
استهدفت الاجتياحات الإسرائيلية البنية التحتية الحيوية بشكل مباشر، بما في ذلك شبكات الكهرباء والمياه والاتصال، والطرق الرئيسة، والمباني السكنية والتجارية، والشوارع والطرقات. وقد ترك ذلك أثرًا واضحًا على الحياة اليومية للسكان، حيث أصبحت العديد من المناطق غير قابلة للسكن أو العمل، مما أدى إلى نزوح مئات الأسر وتفاقم الأزمة الإنسانية. وامتد أثر هذا التدمير الممنهج بشكل كبير إلى النشاط الاقتصادي في مدن الضفة الغربية، فانقطاع الكهرباء والمياه أعاق عمل المصانع والمتاجر، كما أن تدمير الطرق وشبكات الخدمات اللوجستية عطل حركة البضائع والخدمات بين المدن والقرى. وقد أدى ذلك إلى خسائر اقتصادية فادحة للشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد المحلي، وبالتالي إغلاقها أو تراجع مستوى إنتاجيتها، وهو الأمر الذي تسبب في ارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستوى دخل السكان.
وقد تسبب استخدام الجرافات المتكرر أثناء الاجتياحات إلى تدمير شبكات المياه وفتحات الصرف الصحي وخزانات المياه ومرافق النظافة، ما أدى إلى فيضان مياه الصرف الصحي في الأماكن العامة وانتشار النفايات. وهو ما ينذر بمشاكل صحية للمجتمع، ويزيد العبء الاقتصادي عليهم وعلى المؤسسات الصحية، ويزيد من الضغوط على قدرة الاستجابة لكل من الأونروا ومقدمي الخدمات المحليين. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) فإن أكثر من 20 ألف متر من خطوط المياه وشبكات الصرف الصحي في الضفة الغربية قد تعرضت للهدم بفعل الاجتياحات الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023 وحتى أكتوبر 2024، نتج عن ذلك حرمان حوالي 92 ألف شخص في المناطق المتضررة من خدمات وصول مياه الشرب النظيفة، وخدمات الصرف الصحي، وخدمات جمع النفايات الصلبة. وتُقدر تكلفة الخطط الطارئة للاستجابة لهذا الواقع بنحو 1.8 مليون دولار.
أما على المستوى العام، فقد شكلت هذه الاجتياحات ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد الفلسطيني ككل، حيث ارتفعت تكاليف إعادة الإعمار بشكل يفوق القدرة المحلية، وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن المسؤولية عن احتياجات المخيمات بما في ذلك إصلاح البنية التحتية، تقع على عاتق وكالة الأونروا وليس البلديات، هذا في الوقت الذي أصدر فيه الكنيست الإسرائيلي قرار حظر عمل الأونروا، مما يرفع العبء على سكان المخيمات ويجعل حياتهم أكثر صعوبة، ويجعل إعادة الإعمار أمرًا مستحيلًا على المدى القريب. ولا يكاد يخفى على أحد أن الاحتلال يهدف من هذه السياسات إلى تفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية والتي تتمركز بشكل أساسي في المخيمات، إلى جانب سعيها الدائم إلى تهجير سكان المخيمات، وتقليل الكثافة السكانية، وتجريف الطرق والمباني لإجراء توسيع للطرق؛ ليسهل دخول آليات الاحتلال أثناء الاقتحامات، ذلك أن شوارع المخيمات الضيقة تعيق دخول الاحتلال، وتزيد من خطر محاصرة المقاومين لهم بين الأزقة.
ثانيًا: تقييد الحركة والتنقل
رافق الاجتياحات الإسرائيلية حصارًا وإغلاقات مارسها الاحتلال تحت مبرر “التدابير الأمنية”، والتي قيدت وحدّت من وصول الفلسطينيين إلى الأسواق المحلية، وأضعفت الحركة التجارية ما تسبب بتراجع الاستهلاك. وكانت مدن شمال الضفة الغربية الأكثر تضررًا من سياسيات الاحتلال، إذ كانت تشكل وجهة رئيسة للتسوق والتعليم من قِبل فلسطينيي الداخل المحتل، حيث قُدّرت نسبة المنشآت الاقتصادية التي تراجعت مبيعاتها وإيراداتها الشهرية بسبب عدم وصول فلسطينيي الداخل المحتل إلى مدن الضفة الغربية بحوالي 81% من المنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية.
وفقد اقتصاد الضفة الغربية 306 آلاف وظيفة منذ السابع من أكتوبر 2023، مما أدى إلى ارتفاع معدل البطالة بشكل حاد من 12.9% إلى 32%. وقد انعكس هذا التدهور بشكل مباشر على دخل العمال، حيث تُقدر الخسائر اليومية بنحو 25.5 مليون دولار من مقدار الدخل. بالإضافة إلى ذلك، شهدت الأنشطة التجارية شللاً كبيرًا نتيجة القيود المشددة التي فُرضت على حركة الأفراد والبضائع، ما أدى إلى تعطيل الأسواق وتقويض الأنشطة الاقتصادية الأساسية، وزاد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على الأسر الفلسطينية. إذ توقفت الكثير من الأعمال التجارية، خاصة تلك المعتمدة على النقل بين المدن أو التعامل مع أسواق خارجية، كما تأثرت المحلات الصغيرة والأسواق المحلية بشكل كبير بسبب انخفاض حركة الزبائن ونقص المواد الأساسية، مما أحدث بشكل تراكمي خسائر مالية فادحة تبعًا لتراجع الاستهلاك والقدرة الشرائية.
فقد أظهر تقرير لمنظمة العمل الدولية أن القدرة الإنتاجية للمنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية انخفضت بسبب عدم قدرة العمال على الوصول إلى أماكن عملهم نتيجة الإغلاقات الإسرائيلية بحوالي 65.20%، بينما انخفضت إنتاجية المنشآت الاقتصادية بسبب الحواجز والإغلاقات، رغم وصول العمال إلى مواقع العمل، بحوالي 70.80%. إن القيود المفروضة على الحركة والتنقل زادت من صعوبة استيراد المواد اللازمة للإصلاح والتنمية، مما يجعل التعافي الاقتصادي عملية طويلة ومعقدة، يأتي هذا في الوقت الذي يوسع فيه الاحتلال علاقاته التجارية وينفتح أكثر على الاقتصاد العالمي بشكل متسارع.
ثالثًا: أزمة في القطاع الصحي
أدى تصاعد الاجتياحات الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية إلى تفاقم التحديات في القطاع الصحي، فقد أدى تضرر البنية التحتية من طرق وشبكات كهرباء وإمدادات مياه، إلى ازدياد الأعباء المالية على المؤسسات الطبية وارتفاع النفقات التشغيلية التي شكلت حوالي 48% من موازنة وزارة الصحة الفلسطينية مع نهاية عام 2023. مما يجعلها عاجزة عن تقديم الرعاية الكافية لمستحقيها، ويرفع من تكاليف العلاج على المواطنين. كما بات من الصعب إيصال الإمدادات الطبية اللازمة إلى المستشفيات والمراكز الصحية في المناطق التي تتعرض للاجتياحات المتكررة. وقد أشارت منظمة أطباء بلا حدود، في بيان صحفي، إلى أن الاجتياحات تعيق قدرة الطواقم الطبية على القيام بمهامها، خاصة في مدينتي جنين وطولكرم ومخيماتهما، هذا إلى جانب ما تتعرض له سيارات الإسعاف والطواقم الطبية من اعتداءات وإطلاق نار خلال أداء عملها أثناء الاجتياحات.
فقد قام الاحتلال، عدة مرات، باقتحامٍ وحصارٍ للمستشفيات، واعتقال مصابين منها عبر دخول قوات خاصة إلى داخلها واعتقال جرحى بدعوى أنهم مطلوبون، كما حدث خلال الشهور الماضية في جنين والخليل ومؤخرًا في طوباس ونابلس.
وقد وثقت منظمة الصحة العالمية (WHO) الاعتداءات الإسرائيلية على مرافق ومنشآت الرعاية الصحية خلال الاجتياحات منذ السابع من أكتوبر 2023، حيث بلغت 480 اعتداء، موزعة ما بين الاعتداء على مرافق صحية (بما في ذلك بنى تحتية صحية)، وعيادات متنقلة، وسيارات إسعاف، وعاملين صحيين، وتركز 59% من هذه الاعتداءات في طولكرم ونابلس وجنين.
رابعًا: تدمير المنشآت الاقتصادية
تعتمد العديد من القطاعات الاقتصادية على الاستثمارات للحفاظ على حيويتها واستدامتها وتوسيع فرص العمل فيها. وفي ظل الأوضاع غير المستقرة في الضفة الغربية وكثرة الاجتياحات الإسرائيلية وتتابعها، شهدت المنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية تراجعًا ملحوظًا في أدائها وإنتاجيتها، حيث هدم الاحتلال حوالي 27 منشأة اقتصادية في مدن الضفة الغربية، كان من بينها منشآت زراعية وأخرى تجارية، أدى هذا التراجع إلى مزيد من الاضطراب الاقتصادي للقطاعات الاقتصادية كافة. ويوضح الشكل رقم (1) نسبة المنشآت الاقتصادية التي تعرضت لأضرار مباشرة جراء الاجتياحات الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023.

المصدر: وزارة الاقتصاد الوطني، 2024، أداء المنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ومع تصاعد الاجتياحات الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية، وما رافقها من هدم وتخريب للبنى التحتية والمنشآت الاقتصادية، وإلى جانب القيود المفروضة على الحركة التجارية، الداخلية والخارجية، وانعدام الاستقرار، كل هذه الظروف مجتمعة، أدت إلى عرقلة فرص الاستثمار وإعادة الإعمار، حيث يشكل استمرار الانتهاكات عقبة أمام جذب الاستثمارات الخارجية والداخلية التي تتطلب بيئة مستقرة وآمنة.
خاتمة
لقد كان هدف الوصول إلى اقتصاد الدولة الواحدة بدلًا من الاقتصاد المقسم والمجزأ والمقيد، هدفًا اقتصاديًا ومطلبًا وطنيًا للفلسطينيين، وسعوا دومًا لإنهاء حالة الاقتصاد غير المتكافئ. في حين عمل الاحتلال على ردع تلك المحاولات الفلسطينية وإفشالها، ومارس مؤخرًا حرب الإبادة على غزة، وضيّق على مدن الضفة الغربية ليزيد من تردي حالة اقتصادها ومجتمعها. ومع تصاعد وتيرة الاجتياحات الإسرائيلية والدمار الذي لحق بالمباني والبنية التحتية في الضفة الغربية، بات الوضع يتطلب دعمًا ماليًا ولوجستيًا لإصلاح ما يمكن إصلاحه. وهو ما يبقي ويعزز حالة الارتهان والانكشاف للخارج، وهذا ما عمل الاحتلال على ترسيخه من خلال جعل الاقتصاد الفلسطيني استهلاكيًا من جهة، ومعتمدًا على المساعدات والديون من جهة أخرى، وينفي بذلك أي إمكانية لاستدامة التنمية.
وبالحديث عن مرحلة التعافي، فمن الضروري اتخاذ خطوات عملية تهدف إلى تطوير إستراتيجيات مستدامة وفعالة لمرحلة الإنعاش وإعادة الإعمار عقب الأزمات التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي في مدن الضفة كافة. لذلك يصبح من الضروري إجراء تحليل اقتصادي شامل لتحديد التداعيات المختلفة على المجتمعات المحلية والقطاعات الإنتاجية الحيوية. ومن المهم أن يعتمد هذا التحليل على بيانات دقيقة ومفصلة تُظهر التفاوت في التأثيرات بين المناطق المتضررة ومستوى قدرتها على التكيف والاستمرار، وأن تركز الخطط على تصميم استجابة طارئة تُعطى الأولوية فيها للمناطق الأكثر تعرضًا للمخاطر، مع دمج سياسات وآليات مشتركة تضمن التنسيق المتكامل بين المناطق والقطاعات، مما يعزز الكفاءة في تنفيذ برامج الإغاثة لضمان تسريع عمليات التدخل الاقتصادي، وتقليل احتمالية تفاقم الأزمة وتدهور المجتمع إلى مراحل حرجة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى