“إسرائيل”… ومحاولة الانقلاب الفاشل في تركيا
لم يكن مفاجئًا أن يتابع الإعلام الإسرائيلي أحداث محاولة الانقلاب في تركيا بترقب كبير، وبتغطية استمرت على مدار الساعة، حيث تعي "إسرائيل" وإعلامها مكانة تركيا الإقليمية، وكانت قد أعلنت قبل عدة أسابيع عودة العلاقات بين البلدين، وهو ما اعتبرته "إسرائيل" خطوة هامة وضرورية لكلا البلدين في ظل التحديات الأمنية المتعاظمة، ولاسيما في ظل حاجتها إلى توريد الغاز المستخرج من الأراضي المحتلة للسوق الأوروبية عن طريق تركيا.
ورغم توقيع الاتفاق الأخير بين تركيا و"إسرائيل"، إلا أن ذلك لا يعني تضامن "إسرائيل" مع أردوغان ضد الانقلاب عليه.
فـ "إسرائيل" التي تعتبر أردوغان العقبة الأبرز أمام تحقيق السلام في المنطقة؛ لم تكن تخفي سابقًا، وفي تصريحات متكررة، وعلى لسان العديد من قياداتها السياسية والعسكرية، رغبتها في التخلص منه.
فقد غرد الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بعد أحداث الانقلاب في مصر، بأننا "تخلصنا من مرسي، ويتبقى التخلص من أردوغان لتحقيق السلام في المنطقة"، ومؤخرًا أضاف "يائير جولان"، نائب رئيس هيئة الأركان، بأن وجود أردوغان في الحكم من أهم مسببات الإشكاليات لـ "إسرائيل".
تروّت "إسرائيل" أثناء المحاولة الانقلابية، فلم تعلّق حكومتها على محاولة الانقلاب إلا بعد أن تجلت الأمور، وذلك بصدور تصريح عن الخارجية الإسرائيلية، يعلن عن دعم ووقوف "إسرائيل" إلى جانب الديموقراطية التركية.
إلا أن ذلك لم يمنع كثيرًا من السياسيين السابقين، وأصحاب مناصب رفيعة، خرجوا للتقاعد، وتركوا مناصهم، أن يُبدوا رغبتهم وتفضيلهم زوال حكم أردوغان في تركيا، حيث اعتبروا ذلك بمثابة إضافة نوعية لاستقرار المنطقة، ووجود نفوذ إسرائيلي أكبر فيها.
كيف غطى الإعلام الإسرائيلي محاولة الانقلاب؟
تابع الإعلام الإسرائيلي أحداث محاولة الانقلاب على مدار الساعة، ورغم أن ملامح البهجة والسرور غطت وجوه المحللين والمعلقين على الشاشات، إلا أن التعاطي مع الموضوع لم يصل إلى تبنّي أي من الروايات، وكان سيد الموقف: "لا أحد يعلم إلى أين تسير الأمور"، لذلك تعمدت القنوات الفضائية والصحف المحلية، نقل الخبر على لسان أصحابه.
القناة العبرية الثانية، وهي الفضائية الأكثر متابعة، عَنْونت الخبر على لسان الجيش التركي، حينما بثّت وكتبت: "الجيش التركي: سيطرنا على الدولة"، وفي المقابل نقلت أخبار أردوغان كما أذاعها مقربوه، بأن الرئيس في طريقه إلى إسطنبول.
من جانبها، نقلت القناة العاشرة الخبر بنفس الطريقة، فقد كان عنوانها الأبرز: "الجيش يعلن الانقلاب في تركيا"، وفي الوقت نفسه، نقلت الرواية المضادة، حين كتبت بجانب هذا الخبر: "أردوغان: لا زلت أنا الحاكم".
كذلك تناولت الصحف على مواقعها الإلكترونية أخبار الانقلاب بشكل موَسَّع، فصحيفة يديعوت أحرونوت، وهي الأوسع انتشارًا، أشارت في خبرها الرئيس وعلى لسان الجيش: "الجيش يعلن السيطرة على البلاد، وأردوغان يقول لا زلت الحاكم".
وبنفس الطريقة تعاملت صحيفة "إسرائيل اليوم"، والتي تُعتبَر موازية ليديعوت أحرونوت في الانتشار، وذلك من خلال نشر الأخبار وفق مصادرها، سواء من الجيش أو الحكومة.
وهكذا استمرت تغطية الإعلام الإسرائيلي في نفس الاتجاه بعد الإعلان عن فشل الانقلاب، والأكثر من ذلك، أوفد مراسلين إلى تركيا لمتابعة الأحداث والبث المباشر، والقيام بمقابلات مع رجالات الحكم.
إلا أن النقل الموضوعي لم يُخْفِ تبرير العديد من الإعلاميين الإسرائيليين محاولة الانقلاب على نظام ديموقراطي، معتبرين أن نظام أردوغان تجاوز الحدود، ويحاول فرض أجندة إسلامية على المجتمع التركي، وأن عدم وجوده أفضل لـ "إسرائيل".
من هؤلاء الإعلاميين من سوّغ الانقلاب على أردوغان بحجة قمعه للإعلام والحريات، مثل "بن درور"، وهو يميني يكتب في يديعوت، كما لم يُخْفِ "بن كسبيت" أن "إسرائيل" كلها توجهت إلى الله بالدعاء أن يسقط حكم أردوغان.
وكتب "تسابي برائيل" في صحيفة هآرتس، أن الشعب التركي فضّل "ديمقراطيةً غير ديمقراطيةٍ" على حكم العسكر، مقدّمًا العديد من المبررات للانقلاب، ومعتبرًا أن حكم أردوغان غير ديموقراطي.
ولم يُخْفِ "حاجي هوبرمان"، الكاتب والمحلل العسكري في القناة السابعة، أن نجاح الانقلاب كان سيَلقَى دعمًا وتأييدًا كبيرًا من الاتحاد الأوروبي، وتصفيقًا من "إسرائيل"، لأن أردوغان يؤسس لنظام غير مرغوب من وجهة نظرهم، معتبرًا أن مجيء أردوغان بالانتخابات لا يعني أنه ديمقراطي.
كما أن المحلل العسكري لصحيفة معاريف "يوسي ميلمان"، وأثناء استعراضه أسباب فشل الانقلاب، وتأكيده أن ذلك لن يؤثر على العلاقة مع دولته، أكد أن حكومة بلاده ومنظومتها الأمنية والعسكرية، لم تكن لتذرف دمعة واحدة لو سقط حكم أردوغان وجاء الجيش.
ووفق المعطيات الإسرائيلية، فإن أحداث محاولة الانقلاب سيطرت على برامج البث الإعلامي في "إسرائيل"، فحسب موقع آيس، فإن نسبة متابعة الأخبار كانت في ارتفاع ملحوظ، وإن الأحداث في تركيا سجلت عودة الجمهور الإسرائيلي للإعلام التقليدي، فقد توزعت نسبة متابعة البث الأولي على النحو التالي: أخبار القناة الثانية 4.9%، مقابل 2.6% للقناة العاشرة.
وقد كان نصيب مشاهدة النشرة المركزية، التي تُبث الساعة الثامنة، والتي شهدت ارتفاعًا في نسب المشاهدة، على النحو التالي: القناة الثانية 17.3%، مقابل 8.4% لنشرة القناة العاشرة، و4.9% للقناة الأولى.
المواقف الإسرائيلية من محاولة الانقلاب
رسميًّا، كان التعقيب الإسرائيلي الأول على أحداث محاولة الانقلاب، إعلان وزارة الخارجية في الساعة الواحدة من ظهر اليوم التالي، أي بعد 15 ساعة من محاولة الانقلاب، أن "إسرائيل" تحترم العملية الديمقراطية في تركيا.
وهنا تكمن دبلوماسية حكومة نتنياهو، الذي يبدو أنه وجّه وزراءه بعدم التعليق حتى تتضح الأمور، ثم أعلن نتنياهو نفسه أن محاولة الانقلاب يجب أن لا تؤثّر على اتفاقية عودة العلاقات بين تركيا و"إسرائيل"، والتي اعتبرها مصلحة مشتركة لكلا الجانبين.
وترى القيادات العسكرية الإسرائيلية أن علاقة البلدين هي كنز إستراتيجي، وأن تركيا لا يمكن استرضاؤها، وذلك في إشارة إلى تعنت تركيا في مسألة المصالحة، التي جاءت بعد ست سنوات من القطيعة، وثلاث سنوات من اعتذار نتنياهو لأردوغان.
فقد اعتبر "عوزي ديان" رئيس مجلس الأمن القومي، أن ابتعاد بلاده عن اتخاذ مواقف رسمية، من شأنه أن لا يُعرّض "إسرائيل" لقطيعة أخرى أضرت بمصالحها كثيرًا.
إلا أن فشل المحاولة الانقلابية لم يُخْفِ الحسرة التي رافقت قيادات رفيعة سابقة، فقد اعتبر السفير الإسرائيلي السابق في تركيا "سبيبي"، أن الغرب يتحمل مسؤولية فشل الانقلاب، لأنه توافق مع أردوغان سابقًا في قضية تحييد الجيش كشرط لدخول الاتحاد الأوروبي، وبهذا قضى على قوة الجيش أمام السلطة الحاكمة.
ولم يُخْفِ نائب رئيس الموساد السابق "رام بن براك"، أن ما يقوم به أردوغان هو انقلاب على الديمقراطية، وأن الانقلاب هي لعبة داخلية من أردوغان، معتقدًا وآملاً أن تركيا ستشهد في المستقبل ثورات أخرى ضده.
أسباب فشل الانقلاب من وجهة النظر الإسرائيلية
عزت الصحف والنخب الإسرائيلية فشل الانقلاب إلى العديد من الأسباب، والتي لم تختلف كثيرًا عن أسباب فشل الانقلاب من وجهة النظر المحلية والعالمية، فقد تمحورت تلك الأسباب من وجهة نظرهم حول ما يلي:
أولاً: كانت محاولة الانقلاب متوقعة من قبل النظام الحاكم، الذي لم يكن يستبعد محاولة الانقلاب منذ توليه السلطة قبل أربعة عشر عامًا، إلا أن هذه المحاولة رافقها الكثير من التشويش وسوء التوقيت.
ثانيًا: كانت المفاجأة الأكبر هي التدخل الشعبي العارم، فقد توقع الجيش أن يواجه القليل من أنصار أردوغان، إلا أن المفاجأة الأكبر كانت اشتراك كافة قطاعات الشعب، وبشكل واسع، للدفاع عن ديمقراطيتهم، الأمر الذي فاجأ قيادة الانقلاب.
ثالثًا: كان الرفض العام للانقلاب قاسمًا مشتركًا لكافة النخب والقيادات التركية، فقد توقع الانقلابيون أن ترحب قيادات أحزاب المعارضة بالانقلاب، إلا أن المفاجأة كانت رفضهم له، ومطالبتهم جماهيرهم بالاشتراك في المظاهرات الرافضة له أيضًا.
رابعًا: على المستوى العسكري، أجمعت النخب الإسرائيلية على أن أسباب فشل الانقلاب، تعود إلى القوة الخاصة التي بناها أردوغان، وقوته الاستخباراتية الكبيرة، والأهم من ذلك وجود قطاع لا بأس به من قادة الجيش الرافضين للانقلاب، جزء منهم موال لأردوغان، وجزء آخر معجب بالتقدم الكبير الذي وصلت إليه البلاد تحت حكمه، وجزء آخر مقتنع بأن المحاولة الانقلابية ذاهبة للفشل.
خامسًا: نجاة أردوغان من الاغتيال أو الاعتقال، وقدرته على مخاطبة الجماهير، وظهوره بحرية مطلقة كرمز للسلطة، مما أعطى زخمًا كبيرًا للتصدي للمحاولة الانقلابية، وشكّل مؤشرًا على أن قوة الانقلابيين ضعيفة، وأنهم لن يحققوا إنجازًا حقيقيًّا على الأرض.
سادسًا: عِظَم الإنجازات التي حققها النظام الحالي، إذ يجمع الإسرائيليون على أن عِظَم الإنجاز الذي حققه أردوغان وحزبه في تركيا فاق توقعات الأتراك أنفسهم، الأمر الذي بدا واضحًا من خلال تنوع الشريحة الداعمة له قبل المحاولة الانقلابية وبعدها، حيث يرى كثير من الباحثين الإسرائيليين أن الخمسين في المئة التي يحققها الحزب الحاكم في الانتخابات المتكررة في الفترة الأخيرة، لا تعكس في حقيقة الأمر حجم الإسلاميين في تركيا، بقدْر ما تعكس مدى النجاحات التي حققوها في العقد الأخير.
تأثير الانقلاب على نظام الحكم في تركيا من وجهة النظر الإسرائيلية
أجمع غالبية الكتاب الإسرائيليين على أن الوضع في تركيا بعد فشل الانقلاب، لن يكون على ما كان عليه قبل ذلك، فقد توقع البروفسور "درور زئيفي"، وهو مؤرخ مختص في الشأن التركي، بداية عهد جديد، وعلامة على نهاية عصر أتاتورك وإرثه، وأضاف أن هذه ستكون المحاولة الأخيرة للجيش، فلن يفكر في افتعال أي محاولات انقلابية في المستقبل، ولن يكون بمقدوره إعادة تركيا إلى الحضن العلماني الغربي.
"إيلي شكيد"، وهو قنصل سابق في تركيا، اعتبر أن فشل الانقلاب هو دفعة معنوية كبيرة لأنصار أردوغان المحافظين، وبمثابة انتصار كبير لهم، وحسب "شكيد"، فإن حلم السلطان الذي يراود أردوغان، بات أمرًا واقعًا، وإن الحاكم الأوحد هو اللقب الأقرب الذي من الممكن أن يُطلَق على أردوغان بعد فشل الانقلاب، وسيكون بمقدوره التخلص من المناهضين له في الجيش، الذين يهددون، بشكل دائم، الحكم الديمقراطي الموجود، والذين تعمّد أردوغان، لفترة طويلة، عدم التصادم معهم.
أما "جاليا لندندشتراوس"، الباحثة والخبيرة في الشؤون التركية في معهد الأبحاث القومي، فقد قدّرت أن أردوغان سيكون قائدًا صاحب قوّة نافذة كبيرة في تركيا، لكنه سيستمر في سياسة تقليص الأعداء في الخارج، وسيستمر في بناء دولة تكون أكثر قربًا إلى المحافظة، وذات جيش أكثر إخلاصًا لقيادته السياسية.
وحسب "يهودا بلنجا"، المحاضر في شؤون الشرق الأوسط في جامعة بار إيلان، فإن أردوغان، مع هذه المحاولة الفاشلة، أصبح بمقدوره التخلص من كل من يسبب له قلقًا وتهديدًا انقلابيًّا.
علاوة على ذلك، أجمع المراقبون على أن المحاولة الانقلابية أعطت القيادة التركية قدرة على تطهير كافة المؤسسات، التي لم يكن لديها قدرة على المساس بها سابقًا، وعلى تمرير العديد من القوانين دون وجود معارضة فعلية قوّية.
وقد أشار المتابعون إلى أن القضاء الذي وقف عائقًا أمام طموح أردوغان في تمرير العديد من القرارات المتعلقة بإعادة الهوية الإسلامية لتركيا، ضَعُفَ كثيرًا بعد المحاولة الانقلابية، حيث سيكون بإمكان أردوغان ونظام حكمه البدْء عمليًّا بإقرار بعض القوانين التي ستُظْهِر الهوية الإسلامية الشرقية لتركيا.
تشير التقديرات الإسرائيلية حول تأثير المحاولة الانقلابية إلى أن نظام الحكم سيتجه نحو تثبيت أركان حكمه، وسيكون أقرب إلى الديكتاتورية، وسيحاول فرض الهوية الإسلامية على المجتمع، وعلى ما يبدو فإن طريق أردوغان لأسلمة المجتمع، وفق ما يراه الكتاب الإسرائيليون، باتت أكثر سهولة في ظل فقدان قوّة حقيقية كانت تقف ضد أردوغان بعد ضعف الجيش، وشعور المعارضة بضرورة حماية الديمقراطية.
إلا أن هناك من عارض هذا التوجه، فقد اعتبر "إيال سيزر"، رئيس مركز "موشيه ديان" للأبحاث، أن أردوغان ونظامه لن يبتعدوا كثيرًا في مخالفة الديمقراطية وقوانينها.
"عوديد جرانوت"، وهو من كبار الكتاب والمحللين الإسرائيليين، كتب مؤيدًا الرأي الذي سبق وأعلنه البروفسور "بارنرد لويس" ، ومفاده أن تركيا في اتجاهها لتكون دولة إسلامية عظمى، في حين سترتمي إيران في الحضن الغربي، وهذا ما أكده اللواء "يعقوب عميدور"، رئيس المجلس القومي الإسرائيلي السابق، إذ قال " إننا أمام مرحلة تمثل عودة تركيا للحضن الإسلامي، ونهاية عصر العلمانية فيها".
العلاقة الإسرائيلية التركية بعد فشل الانقلاب
كان السؤال الإسرائيلي الأبرز خلال محاولة الانقلاب وبعدها، هو: كيف سينعكس ما جرى على العلاقة الإسرائيلية التركية، وقد تعمد الإعلام العبري صبيحة يوم الانقلاب، أن يؤكد على عدم تأثر العلاقة بين الدولتين، مثلما أكد رئيس الحكومة نتنياهو، الذي تمنى أن لا يؤثّر ذلك على عملية عودة العلاقات بينهما، كما عنْونت صحيفة هآرتس العبرية، بعد فشل الانقلاب بساعات، أن "إسرائيل" تصدّر بضائعها إلى تركيا بشكل طبيعي.
اعتبرت "جاليا لندندشتراوس" أن "إسرائيل" تدرك حاجتها لاستمرار العلاقات مع تركيا، وتدرك أيضا أن أردوغان لاعب أساسي في الساحة الإقليمية، وربما أكثر من ذي قبل، وهي بحاجة إلى أن تكون تركيا هادئة ومستقرة، وفي هذا مصلحة إسرائيلية تتعلق بالغاز وتصديره.
وأضافت أنها تعتقد بأن مسيرة المصالحة بين البلدين لن تتأثّر، ولكنها أظهرت شيئًا من التخوف في حال تدهور العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، على خلفية إصرار تركيا على تسليم فتح الله غولن، مما قد ينعكس بعض الشيء على علاقة بلدها مع تركيا.
إلا أن الإجماع الإسرائيلي يذهب باتجاه عدم تأثير المحاولة الانقلابية الفاشلة على عودة العلاقات بين البلدين، وإن كانت قد تتأخر بعض الشيء، بسبب تركيز تركيا على علاج القضايا الداخلية، مما يعني أن على "إسرائيل" أن تكون أكثر حذرًا الآن في التعامل مع تركيا، خاصة في ظل تخلص أردوغان من الخطر الداخلي، أي قوى الجيش الانقلابية، مما يجعله أكثر صلابة في التعاطي مع القضايا الإقليمية، وأكثر قوّة في طرح الفكر المناهض "لإسرائيل" في تركيا.
يرى القنصل السابق في تركيا "إيلي شكيد"، أن تركيا لن تُعطّل الاتفاق في هذه المرحلة، لكن لا يتوقع أن تعود العلاقات لذات الحميمية، ولا أحد يضمن في المستقبل عدم عودتها للجمود مجددًا.
ماذا كان الأفضل إسرائيليًّا: نجاح الانقلاب أم فشله؟
قبل عام، وحين أُجريت الجولة الانتخابية الأولى في تركيا، التي لم يحقق فيها حزب العدالة والتنمية الأغلبية المطلوبة، تغنّت "إسرائيل" بهذه النتائج في إعلامها، وعبَّر عدد من سياسييها، وعلى رأسهم الرئيس السابق شمعون بيرس، بأن نتائج الانتخابات تدل على "نهاية عنجهية أردوغان وطغيانه"، الأمر الذي يكشف رغبة "إسرائيل" في تغيير القيادة التركية الحالية.
واليوم، وبعد الانقلاب الفاشل، هناك مؤشرات عديدة تدل على رغبة "إسرائيل" في وجود نظام آخر بديل لأردوغان وحزبه، وهي:
أولاً: إدراك "إسرائيل" أن تركيا ليست الحليف الإستراتيجي الذي من الممكن أن يتقبل المساس بأمن بلده ومواطنيه، والاستمرار في الوقت نفسه في علاقة إستراتيجية، فقد مثّلت ردة الفعل التركية بعد أحداث مرمرة نوعًا من الصدمة لـ "إسرائيل"، تمثلت في فقدانها حليفًا إستراتيجيًّا مهمًّا، أجبرها في النهاية على الاعتذار وكسر عنجهيتها، وهذا ما يفسِّر رفْض جزء كبير من السياسيين والجمهور الإسرائيلي للمصالحة مع تركيا.
ثانيًا: اعتقاد العديد من الباحثين في "إسرائيل" أن النظام الحالي في تركيا يحتضن القضايا الشرقية الإسلامية، وأنه في طريقه إلى بناء جمهورية عظمى، تحلم بالعودة لحكم المنطقة. وبغض النظر عن شكل الدولة القادمة وصبغتها، فإن الإجماع الإسرائيلي يتركز في أن النظام التركي الحالي يسعى ليكون له دور إقليمي بارز. وفي ظل قناعة بعضهم بتعارض المصالح التركية الإسرائيلية في كثير من الملفات، تدرك "إسرائيل" أن تركيا من دون أردوغان، أكثر قربًا وأفضل للشراكة والتعاون معها.
ثالثًا: اعتقاد "إسرائيل" بأن أردوغان في طريقه لتطهير الجيش من الكثير من البؤر العلمانية الوازنة، التي شكَّلت تهديدًا لنظام حكمه خلال العقد الماضي، وفي حال استتباب سيطرة أردوغان على الجيش، فإن فرص التعاون الأمني والعسكري بين الدولتين سوف تتقلص، وسيكون لها انعكاسات ليست إيجابية على "إسرائيل".
رابعًا: استعداد النظام الحالي في تركيا للتعاون مع حركة حماس في غزة، واحتضانه لها، واشتراطه رفْع الحصار عنها، مما يعطي مؤشرًا واضحًا على أن تركيا باتت في صف الفلسطينيين بشكل واضح، ولا أحد يضمن في المستقبل حجم التعاون والمساعدات التي ستستمر تركيا في تقديمها لغزة، وخاصة في ظل الاشتراط الدائم لتركيا برفع الحصار عن غزة، وإعطائها أفضلية لتقديم المساعدات لها في الاتفاق الأخير بين تركيا و"إسرائيل".
"إسرائيل" تسعى دوما خلف مصالحها
على المستوى التكتيكي القريب، تعيش "إسرائيل" أزهى فتراتها، فهي تراقب الحراب الإقليمي، والزيادة المستمرة في تدهور خصومها، إلا أنها في ذات الوقت تدرك أن الأحداث قد تتدحرج في غير صالحها.
من هنا فإن "إسرائيل" تسعى، ولا تزال، إلى كسْب حلفاء إقليميين، كالحليف المصري على سبيل المثال، ولطالما طالبت "إسرائيل" الكثير من الدول العربية والإقليمية بالتطبيع وإقامة العلاقات معها، لتقف من خلالها أمام تلك التحديات المحيطة بها.
وعلى الرغم من الاعتراض الكبير الذي أبداه الكثير من السياسيين والنخب الإسرائيلية للاتفاق الموقَّع مع تركيا، والذي يقضي بعودة العلاقات بينهما، إلا أن غالبيتهم أشاروا إلى أن هذا أفضل ما يمكن فعْله في ظل الحكم الموجود حاليًّا في تركيا.
ولا يخفى على أحد أن علاقات البلدين في عهد أردوغان ليست كما كانت عليه قبل ذلك، فقد وجدت "إسرائيل" نفسها أمام دولة إقليمية باتت أكثر أهمية وتأثيرًا في قضايا المنطقة، وأكثر معاداة لـ "إسرائيل" في الكثير من القضايا.
كان الجيش والمؤسسة القضائية من المعيقات المهمة أمام أردوغان في تطبيق الكثير من الرؤى المحلية والإقليمية، فقد كان لمؤسسة الجيش ثقل نوعي دَفَعَ أردوغان إلى عدم توتير العلاقات مع "إسرائيل" كثيرًا.
لذا، فإن تطهير الجيش التركي سيصب في غير مصلحة "إسرائيل"، التي باتت ترى أن فشل الانقلاب سيمنح فرصة أكبر لأردوغان ليقود تركيا إلى حلم الأسلمة، وسيكون أكثر حدّة ربما في التعامل مع "إسرائيل" في المستقبل.
حتى وإن عادت العلاقات إلى طبيعتها، فان عدم توترها مجددًا غير مضمون، علاوة على أن تركيا لن تقدَّم أي شيء بالمجان لتل أبيب، ولذلك ترى "إسرائيل" أنه من مصلحتها مسايرة أردوغان والحفاظ على مصالحها. وستبقى تركيا من دون أردوغان، حلم إسرائيلي قد لا يتحقق.