أوسلو، الخسارة غير المستدركة!
دفعت هذه الظروف بـ "ياسر عرفات" لتخفيض سقف مطالب وفده المفاوض في واشنطن العاصمة، بتفويضه لــ "أحمد قريع" مفاوضة الإسرائيليين سرًّا على مطالب مختلفة بالكلية عن تلك التي تشبث بها المرحوم "فيصل الحسيني" في بيت الشرق، حدث ذلك لـ "ياسر عرفات" لأنه لم يحسن بأي حال من الأحوال استخدام الانتفاضة الوطنية الكبرى كورقة ضغط ثورية؛ لا كورقة مساومة سياسية لم تمنح التضحيات المبذولة على الأرض ما تستحق من علو المطالب.
وذلك على عكس ما قدمته الانتفاضة نفسها لـ "ياسر عرفات" فهي التي مدّت له طوق النجاةِ وفككت عنه الحصار السياسي الذي كان يحيط به من الجهات الأربع، ومكنته من العودةِ للإمساكِ بزمامِ الكفاحِ الفلسطينيِّ، لقد كانَ لإخلاصِ الانتفاضةِ للرّئيسِ أبي عمار، الأثرُ الأكبرُ في إعادةِ الاعتبارِ لوجودِ منظّمةِ التّحريرِ، على الساحتيْن العربيّةِ والدّوليّةِ، لكنّهُ لم يتمكّن من استثمارِها على النّحوِ الأمثلِ، الذي يُحقّقُ لشعبهِ الاستقلالَ الوطنيَّ الحقيقيَّ، ولعلّه كانَ مُتسرِّعًا في قبولِ اتّفاقِ غزّةَ أريحا، لأسبابٍ شخصيّةٍ تتعلّقُ بديمومةِ مكانتِه قائدًا لـ م.ت.ف، وبضغطٍ من الدّولِ العربيّةِ لقبولِ ما عُرٍض عليهِ فورًا، وإلّا واجهَ خطرَ الطّردِ عن أراضيها.
في شهرِ شباط 1992 وافقَ "إسحاق رابين" على دعوةِ (مؤسّسة العلومِ الاجتماعيّة التطبيقيّة – Fafo) النرويجيّة التي كان يرأسُها "تيري رود لارسن"، لبدءِ مفاوضاتٍ سرّيةٍ بينَ أكاديميين إسرائيليين وممثّلين عن م.ت.ف في أوسلو لبحثِ سُبلِ التّوصّلِ إلى حلٍّ ما للصّراعِ مع الفلسطينيين. حدثَ ذلك بعدَ الاستنتاجِ المُتأخّرِ لإسحاق رابين، بأنّه لا يوجدُ حلٌّ عسكريٌّ للانتفاضة، فوافقَ على إجراءِ تلكَ المُحادثاتِ التي تطوّرت إلى مفاوضاتٍ مباشِرةٍ وسرّيّةٍ بين "إسرائيل" والمنظّمةِ، انتهت بقبولِ المنظّمةِ بفكرةِ السّيطرةِ على غزّة وأريحا "دون الإصرارِ في المُفاوضاتِ المُسبقةِ على تفاصيلِ اتّفاقاتِ الوضعِ النّهائي". (المصدر- Baruch Kimmerling Book Politicide page 132)
بعدَ أنْ تبيّنَ للوفدِ الإسرائيليّ المُكلَّفِ من قِبلِ شمعون بيرس ورابين بهذهِ المهمّة، بأنّ هناك نقاطًا عديدة يُمكنُ الاتّفاقُ عليها مع فريقِ عرفات إلى المُفاوضاتِ السرّيّةِ برئاسةِ أحمد قريع، قرّر بيرس رفعَ مُستوى الحوارِ بتكليفِ مُديرِ عامِ وزارةِ الخارجيّةِ الإسرائيليّةِ (أوري سافير) للتّفاوضِ مع أحمد قريع، واستكملَ سافير وقريع ومعه حَسن عصفور، تلكَ المفاوضاتِ.
وعُقِد اللقاءُ الأوّلُ بين الرّجلين بتاريخ 20 كانون الثاني 1993، داخلَ فندقٍ يقعُ في ضاحيةِ ساربسبورغ بالقربِ من العاصمةِ النّرويجيّةِ أوسلو، وبدأتِ المُفاوضاتُ السّريّةُ التي استُهِلّت بطلبِ أوري سافير من (أحمد قريع – أبو علاء) قبلَ بدايةِ الجلسةِ الأولى، بعدمِ بحثِ مواضيعَ القدسِ والحدودِ واللاجئينَ، وتركيزِ البحثِ حولَ الملفّاتِ المتوّقَعِ أنْ يقومَ الفلسطينيون بتولّي العملِ عليها وهيَ التّعليم والصّحةُ والسّياحةُ وترتيباتُ الأمن.
بعدَ سبعةِ شهورٍ من المفاوضاتِ بين أبو علاء وأوري سافير، قَبِل أبو علاء -بتعليماتٍ من عرفات- بكاملِ إملاءاتِ وشروطِ سافير، حولَ ترتيباتِ إقامةِ الحُكمِ الذّاتيّ المَحدودِ في منطقتي أريحا وغزّة، حينها قالَ: سافير لأبي علاء "هناك أشخاصٌ آخرون من مكتبِ رابين يريدونَ توجيهَ بعضِ الأسئلةِ لكَ"، في الجلسةِ التّاليةِ اتّضحَ بأنَّ مندوبَ رابين إلى أبو علاء هو المُحامي (شموئيل زينغر) مُستشارُ وزارةِ الدّفاعِ، فوجّه زينغر (100 سؤال) لأبي علاء، أجابَ عليها جميعها بالإيجابِ، بما فيها السّؤالُ المتعلّقُ بإمكانية قبولِ الفلسطينيين بوجودِ مستوطنين يهودٍ في المناطقِ التي سيُسيطرون عليها مستقبلاً.
بعدَ ذلكَ أبلغَ "شموئيل زينغر" رابين بوساطةِ الهاتفِ بِما سمعَ، وطارَ إلى فينّا لمقابلةِ شمعون بيرس هناك، وأخبرهُ قائلاً "بأنّه إذا لم نوقّعِ اتفاقًا فوريًّا مع هؤلاءِ النّاس فإننا سنكونُ أغبياء". وتابعَ زينغر سردَ انطباعاتِه لبيرس عن الذي سمعهُ من أبي علاء وصحبِه، حيثُ قالَ: "أنا سعيدٌ بما سمعتُ من أبي علاء، لكنّني مندهشٌ من أنّه لم يوجِّه لي سؤالاً واحدًا قط!"
في ضوءِ ذلكَ، تمكّن المُحامي شموئيل زينغر من صياغةِ اتّفاقِ أوسلو بشكلهِ النهائيّ، وألبَس الشُّروط والقيود الأمنيّة لبوسًا قانونيّة محكمة، ووافقَ عرفات على مسودةِ اتّفاقٍ خلا تمامًا من ذِكرِ مواضيع القدسِ والحدودِ واللاجئين وإطلاقِ سراحِ الأسرى، أو وقفِ الاستيطان أو الدّولة الفلسطينيّة.
على الرّغمِ من الاتّفاقِ العام بين أبي علاء وسافير وإجاباتِهِ البنّاءةِ لزينغر، إلّا أنّهُ بقيَ هناك العديدُ من المسائلِ العالقةِ، والتي تَحُولُ دونَ اعترافِ رابين بـ م.ت.ف، منها موقفُها من محارَبةِ الإرهابِ، والعمل الأمنيّ مع "إسرائيل"، وكبح جماح رغبةِ عرفات بتوسيعِ حدودِ مدينة أريحا.
من أجلِ التّغلبِ على هذهِ العقباتِ سافرَ شمعون بيرس إلى ستوكهولم للقاءِ وزيرِ الخارجيّةِ النّرويجيّ (جوهان يورغن هولست) وكانَ معهُ شموئيل زينغر وأوري سافير، وحضرَ هذا اللقاءَ من الجانبِ النّرويجيّ تيري رود لارسن وزوجته "مني جول"، التي لعبت دورًا فعّالاً في مفاوضاتِ أوسلو. في هذهِ الأثناءِ اتّصل وزيرُ الخارجيّة النّرويجيُّ بمكتبِ ياسر عرفات في تونس، فأجابهُ عرفاتُ الذي استدعى على عجلٍ كلاً من ياسر عبد ربّه ومحمود عبّاس وأحمد قريع وكانَ في ضيافتِهِ القائدُ الوطنيّ اللبناني "مُحسن إبراهيم"، الذي حضرَ هذهِ الجلسةَ من الحوارِ الهاتفيّ، الذي تواصَلَ على مدارِ ست ساعاتٍ سمعَ خلالَها شمعون بيرس ومن معه صوتَ ياسر عرفات للمرّةِ الأولى وفقًا لزعمِهم. وفي وصفِ هذهِ المكالمةِ التّاريخيّةِ قال محمود عبّاس في كتابِه (طريق أوسلو) ما يلي:
"سبعُ ساعاتٍ تُسجّل من عُمر الشّعبِ الفلسطينيّ وتاريخِه، سبعُ ساعاتٍ من الحوارِ عبر الهاتفِ وضعت حدًّا لصراعِ القرنِ العشرين، ورسمت أولى خطواتِ الشّعبِ الفلسطينيّ على طرقِ الانعتاقِ والتّحرر، وحدّدت معالمَ مستقبلِ المنطقةِ، وفعلت ما لمْ يفعلهُ عشرونَ شهرًا من المفاوضاتِ العقيمةِ في لندن، فأنجزت اتفاقًا كاملاً متكاملاً لمرحلةِ الحُكمِ الذّاتيّ الانتقاليّ، بما في ذلك الانسحابُ من قطاعِ غزّة ومنطقة أريحا".
هكذا تمكّنت هذهِ (المكالمةُ) من حلِّ قضايا الخلافِ الأخيرةِ، ومهّدتِ الطّريقَ لتبادلِ رسائل (الاعتراف المتبادل) بين إسحاق رابين وياسر عرفات، بعدَ موافقةِ عرفات على النّص الإسرائيليّ الخالصِ لها. وتمَّ التّوقيعُ على الاتّفاقِ السّريّ بالأحرفِ الأولى في بيت الضّيافةِ النّرويجيّ الحُكوميّ بتاريخ 20 آب 1993 من قبل أوري سافير وأبي علاء.
بعد انتهاءِ المُكالمةِ الهاتفيّة بينَ هولست وعرفات، بادرَ بيرس إلى الهاتفِ ليُبلغَ رابين بما تمّ، فسرّهُ ما سمعَ، لكنّ رابين قامَ بأمرٍ لم يكُن متوقّعًا، لقد رفعَ سمّاعةَ الهاتفِ واتّصلَ بفيصل الحسينيّ في منزلهِ بالقدسِ الشّرقيّة، وقال لهُ "أريدُ أنْ أخبركَ بأنّنا اتّفقنا قبلَ قليل مع عرفات على إقامةِ سُلطةِ حكمٍ ذاتيٍّ محدودٍ في غزّة وأريحا، وأنا الآنَ أعرضُ عليكَ أمرًا مُختلفًا، وهو أنّ إسرائيلَ مستعدّةٌ لإعادةِ الضّفةِ الغربيّة كاملةً دونِ غورِ الأردن، وخاليةً من الاستيطان خلالَ خمسِ سنواتٍ، إلى قيادةٍ محلّية برئاستِك، شريطةَ أن تصرفوا النّظر عن قيادةِ تونس".
لكنّ فيصل الحسيني رفضَ هذا العرضَ على الفورِ، مؤكّدًا على تمسّكِ الدّاخلِ بقيادةِ الخارج، وهكذا فُتحتِ الطّريقُ لهذا الاتّفاق ليرى النورَ، وعلى أساسِهِ تشكّلت سُلطةُ الحكمِ الذّاتيّ الإداريّ المؤقّت في غزّة وأريحا، وكانت خاتمة لا تتناسبُ مع تضحياتِ الفلسطينيين في الضّفةِ وغزّة، بعدَ أنْ تمكّنتِ انتفاضتُهم من تحويلِ الجيشِ الإسرائيليّ من قوةٍ عسكريّةٍ نظاميّةٍ مُحترفةٍ إلى قوّةِ شرطةٍ تقاتلُ في حربٍ أسلحتُها العصيّ والحجارةُ، وكانت قيادةُ هذا الجيشِ مستعدّةً لتقديمِ المزيدِ من التّنازلاتِ السياسيّةِ في حينهِ كما بدا واضحًا من حديثِ رابين مع فيصل الحسينيّ، فيما لو أدارتِ القيادةُ السياسيّةُ لمنظّمةِ التّحريرِ المعركةَ السياسيّةَ المصاحبة للكفاح ِ الشّعبيّ بحرفيةٍ أكبر.
بعدَ الإعلانِ عن الاتّفاقِ صُدِم أعضاءُ الوفدِ الفلسطينيّ المُفاوضِ في واشنطن كما صُدِم الشّعبُ الفلسطينيُّ برمّتِهِ، وطلبَ د. حيدر عبد الشّافي الذي علِمَ بالأمرِ من فيصل الذي علِمَ به من رابين، من البرفيسور الأمريكيّ (فرانسيس بويل) المُستشار القانونيّ للوفدِ الفلسطينيّ المفاوضِ في واشنطن تقييم الاتّفاق، فردّ على الدّكتور حيدر بالآتي "إنه نفس إعلان المبادئ الذي رفضناه في واشنطن، لأنه حكم ذاتي محدود للسكان ولا سلطة فيه على الأرض".
وهكذا كانت ردّةُ فعلِ المُفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد الذي قال: "إنّ منظمةَ التّحريرِ الفلسطينيّة، حوّلت نفسَها من حركةِ تحرّرٍ وطنيٍّ، إلى ما يُشبهُ حكومةً بلديّةً صغيرةً، إنّه وهنُ قيادةِ منظّمةِ التّحريرِ مُقابلَ دهاءِ إسرائيل".
وهكذا تخلّص الاحتلالُ من أعباءِ الكُلفةِ الماليّةِ والأخلاقيّةِ لاحتلالِهِ العسكريّ، وألقى بها فوق كاهلِ مقاولينَ من أبناءِ ذاتِ الجلدة، بعدَ أن وافقَ عرفات على شروطِ رابين التي سبقت تبادلَ (رسائل الاعتراف المتبادل)، والدّاعية إلى انخراطِ المنظّمةِ ومن بعدِها السّلطة في منظومةِ الدّفاعِ عن "إسرائيل"، والتّصدّي للمخاطرِ التي تهدّدُ أمنها، وملاحقةِ "الإرهابِ والإرهابيين"، والتّعهدِ بعدمِ ملاحقةِ عملاءِ "إسرائيل" من الفلسطينيين، ودعوةِ الفلسطينيين والعربِ إلى تطبيعِ علاقاتِهم مع "إسرائيل"، لقد حظيت "إسرائيل" بفرصةٍ في مُنتهى الأهميّةِ لمواصلةِ احتلالها للأرضِ والنّاس والسّلطةِ التي تُدير أحوالَهم المدنيّة.
دوافعُ عرفات الوجوديّة للتّوقيع
كان أبو عمار مسكونًا برغبةِ الاتّصال مع الأمريكيين والغربِ، وأفهمهُ النّرويجيون بأنَّ قبولَهُ بهذا الاتفاقِ وبنصّ رسائل الاعترافِ المتبادلِ، سيكفلانِ لهُ القبولَ والاحترامَ من قِبلِ الأمريكيين، وأنّ هذا الأفقَ الجديدَ هو البديلُ لعمقهِ العربيّ، وهو الذي سيكفلُ لهُ ديمومةَ وجودِه السياسيّ والشخصيّ، بدل البقاءِ تحتَ رحمةِ التّنقل بين الدّول العربيّة، التي ضاقت ذرعًا به وبقوّاته وأتباعِه.
و"إسرائيل" بالمقابل كانت جاهزةً لحصادِ الثّمار، وبعدَ مرور عامٍ واحدٍ على استقرارِ عرفات في غزّة تمكّن رابين من التّفاهمِ مع الملك حسين على (اتفاقية وادي عربة)، وأصبحَ للإسرائيليين بعد ذلكَ مكاتبَ تمثيلٍ ومصالحَ تجاريّةٍ في قطر والإمارات والمغرب وتونس وموريتانيا، وحصلت "إسرائيلُ" على عضويّةِ العديدِ من المنظّماتِ العالميّة التي كانت محرومةً من دخولها سابقًا واستقطبتِ استثماراتٍ اقتصاديّةً ضخمةً من الصّين واليابان، وفتحت شركات تجاريّة كبرى مثلَ شركة (أنتل) -التي كانت متحفظة على الاستثمار في "إسرائيل" سابقًا- فرعًا لها في تل أبيب.
لقد ربِح عرفاتُ أحد عشر عامًا أضيفت إلى عمره الزمنيّ فقط، وخسرَ الأرضَ، ووضعَ شعبَهُ في مأزقٍ تاريخيّ لن يخرجَ منهُ أبدًا، إلّا إذا وافقَ على الرّحيل من فلسطين، أو تمكّن من مسحِ "إسرائيل" من الوُجود، فقد تسبّب هذا الاتفاقُ بخسائرَ لا حصرَ لها من رصيدِ الشّعبِ الفلسطينيّ الوطنيّ والأخلاقيّ، وأوّلها أنّهُ شطرَ الفلسطينيين إلى شطريْن، الأول: مؤيّد للاتفاقِ والثّاني: معارض له، وخسرَ الفلسطينيون من عمرِهم كاملَ السّنواتِ التي عاشها وسيعيشها الاتّفاق، وهي نفسُ الفترةِ التي ربِحها وسيربَحها المستوطنون مستقبلاً طالما بقيَ هذا الاتفاقُ مجسدًا على الأرض.
لقد خسرَ الفلسطينيون مشروعَهم الوطنيّ وحلمَهم المشروعَ بإقامةِ دولتهم المستقلّة والمترابطةِ جغرافيًّا، لأن عرفات قايضَ صلابةَ الكتلةِ الحيويّة الفلسطينيّة (الأرض والسكان) بوهمِ الدّولة التي لم تقم، ولن تقوم فوق التّراب الوطنيّ الفلسطينيّ، طالما أنّ هناك شيئًا اسمهُ "إسرائيل" في هذا الوجود.
وخسرَ الفلسطينيون أيضًا دمهم المسفوكَ على مذبحِ الكفاح من أجلِ العودةِ، وخسروا السّلطة نفسها (كمشروعٍ تجريبيّ) لإدارةِ وتنظيم الحياة اليوميّة في الضّفة الغربيّة وغزّة، وخسروا احترامَ شعوب ِ العالمِ لهم، وحظوا بسخرية المتهافتين العرب، الذين بدأ تسللهم إلى "إسرائيل" تحت ظلال الكوفيّة الفلسطينيّة.
إن مثلَ هذا الاتفاق الذي كان من المقرّر أن يختمَ مرحلةً هامّةً من الكفاح الفلسطينيّ، عمرها سبع سنواتٍ كان من المفترض أن يتناسب مع ما بذله الفلسطينيون من تضحياتٍ وكفاحٍ، لكنّ ذلك لم يحدث. لأنّه جسّد أقصى استجابةٍ ممكنةٍ من جانب "إسرائيل" لنزعاتِ ياسر عرفات الوجوديّة، الذي أمضى بسببها السّنوات الثّلاث الأخيرةِ من إقامته في تونس، يبحث عن ملاذِ آمنٍ يحفظ له بقاءه وبقاءَ حكمهِ لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، لذا قرّرت "إسرائيل" الاستجابةَ بحدود تلبّي هذا الاحتياج دون أيّ حاجةٍ للبحث في طلباتٍ أخرى أكثر عمقًا وجذريّة.
وهذه النّتيجة على أيّ حالٍ هي إحدى ثمار خروج الثّورة الفلسطينيّة من بيروت، بعد أن خرجت من الأردن. ونتيجة للابتزاز السياسيّ العربيّ والأمريكيّ لعرفات، تقرّر وضعُ المنظّمة في قفصٍ جغرافيٍّ تحت المراقبةِ الإسرائيليّة، في شكلٍ من أشكال الاحتواء الناتج عن الانتصار العسكريّ والسياسيّ لـ "إسرائيل"، ولعلّ الاتفاقات الاقتصادية والأمنيّة التي وقّعها الجانبان الفلسطينيّ والإسرائيليّ، ذهبت إلى ما هو أبعدُ من ذلك في مضمارِ تدجين العدوِّ القديم والاستحواذ عليه، وجعله شريكًا تابعًا لا موازيًا، ومسخرًا لخدمة المنتصر.