ملفات وقضاياالمشهد الفلسطيني

أزمة المياه الفلسطينية: سياسة تعطيش “إسرائيلية” لإدامة الاستعمار الاستيطاني

د. إياد أبو زنيط[1] تنزيل التقرير

المقدمة:

طفت إلى السطح في الأسابيع الأخيرة أزمة شح المياه في الضفة الغربية وتحديداً في جنوبها، وهي أزمة مركبة قديمة حديثة؛ ولكن معالمها بدت أكثر اشتدادًا وتأثيرًا على حياة الفلسطينيين في السنوات الأخيرة، إذ تُشير تقارير عدة إلى أن معدل استهلاك الفرد الفلسطيني من المياه بشكل عام بلغ ما يقارب من 85.7 لتراً يومياً عام 2022/2023، في حين بلغت حصته من المياه العذبة ما يقارب 20.5 لتراً في اليوم، وهو أقل من الحد الأدنى الموصى به عالمياً حسب معايير منظمة الصحة العالمية والبالغ 100 لتر يومياً، في وقت وصلت حصة الفرد “الإسرائيلي” إلى 300 لتر يومياً، وحصة المستوطن في الضفة الغربية إلى 700 لتر، بما يعادل 7 أضعاف المواطن الفلسطيني.

بعد العدوان الاحتلالي على قطاع غزة عام 2023، زادت معاناة الحصول على المياه، وصار حجم المياه المتوفرة ما بين 10-20% من النسبة التي كانت متاحة قبل الحرب، وفي الوقت الذي كان بإمكان 40% من سكان قطاع غزة الحصول على حصتهم من المياه العذبة قبل الحرب أصبح بالكاد الحصول على مياه 3-5 لترات من المياه يومياً، في ظل بقاء محطة مياه واحدة لا تفي إلّا بـ5% من الاحتياج العام للسكان، وفي الضفة الغربية قلّص الاحتلال حصة المواطنين في الحصول على المياه بواقع 35%، وتحديداً في محافظتي الخليل ورام الله، وزاد التقليص بعدها ليصل إلى 50%، ليتدنى نصيب 16.5% من سكان الضفة إلى 40 لتراً يومياً، وهو ما سبب حالة من انقطاع للمياه وصلت لأشهر في بعض المناطق.

يناقش هذا التقرير دلالات أزمة المياه الفلسطينية، باعتبارها أحد أدوات الهيمنة الاستعمارية “الإسرائيلية” الهادفة إلى إدامة الاستعمار الاستيطاني، والرامية إلى خلق بيئات طاردة للمواطنين الأصليين، استكمالاً لسياسات المحو والإنشاء والإحلال التي قامت عليها “إسرائيل”، بوصفها دولة احتلال منذ بدايتها.

المياه في الأيديولوجية الصهيونية:

ليس من السهل فهم السياسة والممارسة “الإسرائيليّة” الاحتلاليّة فيما يتعلّق بالمياه دون النظر إلى الأيديولوجيّة الصهيونيّة ومفاعيل المشروع الاستيطانيّ الّتي سبقت تأسيس “إسرائيل”، فالاستعمار الاستيطاني بشكل كلي يستند إلى الاستيلاء على أكبر مساحةٍ ممكنة من الأرض، ولما كان الاستيطان الصهيوني في فلسطين بدايةً يقوم على الاستيطان الزراعي، كان من أحد أدوات إدامته السيطرة على الموارد المائية، وهذا ما عُبر عنه من خلال الصندوق القومي اليهودي، الذي سعى إلى امتلاك أكبر مساحة من الأرض صالحة للزراعة، وهذا ما يتم إدامته من خلال توفير أكبر قدرٍ ممكنٍ من المياه.

ترجمت بريطانيا طموح الصهيونية المائي سياسياً وقانونياً وعملياً على الأرض، وعبّرت عن ذلك في المباحثات الفرنسية البريطانية عام 1920، حيث كانت حريصة على ضم حوض المائية الحدودية (حوض الأردن، القنيطرة، ينابيع بانياس) إلى سيطرتها، وهذا تؤكده الوثائق البريطانية التي قالت إنّ “بن غوريون” كان حريصاً دائماً على أنّ إدامة الدولة اليهودية يتطلب السيطرة على المياه بما فيها مياه نهر الأردن والليطاني.

كانت أولى الهجرات الصهيونية العملية إلى فلسطين تقام في الأماكن الأكثرَ غنىً بالموارد المائية في شمال فلسطين في الأعوام ما بين 1881-1904، ثم اتجهت الهجرات إلى السهل الساحلي ووسط فلسطين في الموجات ما بين الأعوام 1924-1935، وفي تلك المناطق المستهدفة بالهجرة كانت السلطات البريطانية تشرع بإنشاء مضخات للمياه، لتكون عنصراً لإدامة أي استيطان في المنطقة، فمستوطنة المطلة مثلاً أُقمت على مجرى تيار جدول البراغيث النابع من مرجعيون، وكذلك كريات شمونة، ودان كيبوتس، وكان الأب الروحي للصهيونية “ثيودر هرتزل” قبل ذلك كله قد أولى اهتماما ًواضحاً بالمياه، باعتباره ضرورة أساسية للاستيطان، ففي روايته “الأرض القديمة-الجديدة (اولتنيولاند)”، كتب عن جر المياه من شمال فلسطين إلى جنوبها[2]، وهو ما تجسد بعد 62 عاماً تحت اسم “ناقل المياه الوطني”، معتبراً –هرتزل- أنّ مهندسي المياه هم المؤسسون الحقيقيون للأرض، ووصل الاهتمام بالمياه إلى مناقشة “هرتزل” وبريطانيا مجرى مياه نهر النيل إلى صحراء النقب، وهذا نفسه ما اهتم به “جابتونسكي” (مؤسس الصهيونية التصحيحية)، معتبراً أنّ مياه نهر الأردن والأحواض المائية بمثابة العمود الفقري لأرض “إسرائيل”.

حظي أيضًا موضوع الاهتمام بتوليد الطاقة الكهربائية من المياه على أجندة المنظمات الصهيونية، وهذا ما عبر عنه “جون ويلكينسون” في كتابه “إسرائيل مجدي” عام 1901، وفي عام 1919 وُظِف “بينحاس روتنبرغ” لإجراء دراسات مائية حول كامل الأحواض المائية في فلسطين لإقامة السدود وتجفيف المصادر المائية وتحويلها، وإقامة محطات توليد الطاقة الكهرومائية، والتي كانت أولاها على نهر العوجا تحت مسمى شركة يافا الكهربائية عام 1932،  ليتم بعدها إنشاء شركة المياه “الإسرائيلية” “ميكروت”، والتي تعني (منابع المياه) بتأسيسٍ من الوكالة اليهودية عام 1937م، والتي تمكنت من إجراء تنقيباتٍ عن المياه في فلسطين بموافقة سلطات الانتداب البريطانية، وعند قيام “إسرائيل” عام 1948 كانت جاهزة للسيطرة على المياه بالكامل، إذ نقلت مياه من نهر العوجا إلى المناطق الجنوبية في النقب، وكذلك نفذت مشروع المياه القطري بين عامي 1953-1964م والذي تم بواسطته نقل مياه نهر الأردن وبحيرة طبريا إلى النقب، ونجحت هذه الشركة في وضع يدها على كل ينابيع ومصادر وعيون المياه في “إسرائيل”، وتجاوزت حدود عملها، فسيطرت على مياه الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان المحتل، وقامت بنقل كميات كبيرة من مياه هذه المناطق إلى “إسرائيل”.

المياه بعد عام 1967 وفي اتفاق” أوسلو”:

بعد احتلال “إسرائيل” لبقية الأراضي الفلسطينية في أعقاب حرب عام 1967م، سارعت قواتها إلى السيطرة الكاملة على المنابع المائية الفلسطينية، حيث أصدرت عدداً من الأوامر العسكرية، كان أولها قبل انتهاء العمليات العسكرية يوم 7/6/1967م، ومقتضاها نقل جميع الصلاحيات بشأن المياه في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الحاكم العسكري “الإسرائيلي”، والأمر رقم 158 والذي ينص على أنّه يمنع منعاً باتاً إقامة أي إنشاءات مائية جديدة بدون ترخيص، وللضابط العسكري المعين رفض أي ترخيص دون إعطاء الأسباب، وكذلك الأمر العسكري  رقم 291، والذي ينص على أنّ جميع مصادر المياه في الأراضي الفلسطينية أصبحت ملكاً للدولة.

حفرت “إسرائيل” في الضفة الغربية خلال عشر سنوات تقريباً بعد النكبة أكثر من 20 بئراً لاستخراج المياه الجوفية، تراوح عمقها ما بين 300-600 متراً، فيما مُنع الفلسطينيون من حفر أيّة آبار جديدة، ورُكِبَت عدادات “إسرائيلية” للتحكم في كميات المياه للآبار التي كانت موجودة قبل عام 1967، حتى سيطرت بعد عام 2020 على 85% من المياه في الضفة الغربية.

كما ضخت “إسرائيل” منذ عقد التسعينيات استثمارات ضخمة في تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي، حتى أصبحت مصدرًا للمياه لجيرانها الذين يعانون شُحًا مائيًا، حيث تدير “ميكوروت” 100 مشروع ضخم في “إسرائيل”، بما فيها 40 منشأة لتحلية المياه توفر 60 مليون متر مكعب من المياه سنويًا.

تبرّر “إسرائيل” سياستها في السيطرة على المياه بادعاء أنها تتصرف بحسب التلخيصات التي تم التوصل إليها في إطار الاتفاقية المرحلية التي تم التوقيع عليها بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1995، لكن هذه الاتفاقية كان من المفترض أن تكون سارية المفعول لمدة خمس سنوات فقط، والترتيبات المنصوص عليها فيها بعيدة تماماً عن أن تعكس احتياجات الفلسطينيين الحالية في الضفة الغربية والواقع القائم للأسباب التالية:

 أولًا: منذ التوقيع على الاتفاقية ازداد عدد السكان بنحو 75%، فيما بقيت كميات المياه التي تسمح “إسرائيل” للفلسطينيين بسحبها على ما كانت عليه، ولسدّ ما ينقص تضطر السلطة الفلسطينية إلى شراء المياه من شركة “مكوروت” بتكلفة أعلى بعدة أضعاف، فكمية المياه الإجمالية التي استهلكها الفلسطينيون في الضفة الغربية خلال عام 2020 بلغت 239 مليون متر مكعب، منها 77.1 مليون متر مكعب تم شراؤها من “إسرائيل” ثم جرى توزيعها بعد ذلك بشكل غير متساوٍ في أنحاء الضفة الغربية.

ثانيًا: لم تتوقع الاتفاقية الثورة التي حصلت في قطاع المياه في “إسرائيل”، فقد تحولت “إسرائيل” خلال الجيل الأخير إلى قوة مائية عظمى تتمتع بتوفر مائي يكفيها حتى عام 2050، ونتيجة لذلك، يتمتع سكان “إسرائيل” بإمدادات غير محدودة تقريبًا من المياه، بفعل ما استخرجته من مصادر المياه الفلسطينية، وكان من المنطقي والطبيعي تنبه المفاوض الفلسطيني إلى ما يُمكن حدوثه مستقبلاً لتوفير الاحتياجات المطلوبة من المياه للاستهلاك.

تتعامل “إسرائيل” مع موارد المياه القائمة بين البحر والنهر على أنها تابعة لها وحدها، وتعتبر نفسها الجهة الحصرية المخولة بصلاحية اتخاذ قرارات بشأن استخدامها، وكرّست الاتفاقية المرحلية الاحتكار “الإسرائيلي” لموارد المياه وثبّتت مكانة “إسرائيل” باعتبارها الجهة المتحكّمة والوحيدة المؤهلة لاتخاذ قرارات استراتيجية بشأن هذه الموارد، كما رسّخت الاتفاقية التقسيم التمييزي لمصادر المياه المشتركة بين “إسرائيل” والفلسطينيين وأبقت على المبدأ الذي تم بحسبه توزيع المياه قبل توقيعها: “الإسرائيليون” يستهلكون المياه بحسب الطلب، بينما يستهلكها الفلسطينيون بحسب حصة محدودة تم تحديدها لهم مسبقًا.

أزمة المياه والمقاربة اللاسياسية:

بعد أن تركت الاتفاقيات المرحلية الفلسطينية مع “إسرائيل” الفلسطينيين تحت سيطرة الأخيرة، تُمارس “إسرائيل” وتيرةً متسارعة في السيطرة على ما تبقى من موارد مائية فلسطينية، فمنذ عام 2021، هدمت السلطات “الإسرائيلية” ما يقرب من 160 خزاناً فلسطينياً غير مرخص، وشبكات الصرف الصحي والآبار في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية، كذلك فإن معدل الهدم آخذ في التسارع؛ فخلال النصف الأول من عام 2023 فقط، هدمت سلطات الاحتلال العدد نفسه تقريباً الذي هدمته منذ عام 2021، وفي التجمعات الرعوية في شمال غور الأردن يبلغ استهلاك الفلسطينيين من المياه 26 لتراً في اليوم فقط، وهذا أقل بكثير من الحد الأدنى لمعيار منظمة الصحة العالمية وهو 50-100 لتر، مما يجعلها مصنفة كمنطقة كوارث.

رغم التعامل مع أزمة المياه الفلسطينية باعتبارها مشكلةً سياسية، كما يقول مسؤول سلطة المياه الفلسطينية ماهر غنيم، إلاّ أنّ السلوك على الأرض يتم على أنها مشكلة تقنية، وهذا يتم بدعم من المانحين والمجتمع الدولي الذين يتماهون مع  “إسرائيل” في طرحها حلولًا تقنية تتجاهل سياسة الاستيلاء على المياه الفلسطينية، وعلى هذا النحو، لا تمتثل عمليات التحويل والحصص والمبادلات المتبعة لمبادئ القانون الدولي للمياه التي تدعو إلى توزيع عادل للمياه والاعتراف بالحقوق المائية الفلسطينية.

استأنفت اللجنة المشتركة للمياه عملها في كانون الثاني/يناير 2017 بعد تجميد استمر ستة أعوام بسبب ترتيب مشروط يستوجب الموافقة على مشاريع المستوطنات “الإسرائيلية” حتى يتسنى النظر في المشاريع الفلسطينية، ويقول جان سيلبي إن الفلسطينيين وافقوا بين عامي 1998 و2010 على أكثر من 100 مشروع يتم تمويله من مانحين لتنفيذها في الضفة الغربية وافقت “إسرائيل” على 3 منها فقط، كما إن استئناف الاجتماعات والتعاون ليس حميدًا البتة، ففي حين أن الترتيب الجديد سيسمح للفلسطينيين بمدّ الأنابيب والشبكات دون انتظار موافقة اللجنة، فإنه يتيح ل”إسرائيل” الشيء نفسه، وهذا يعني أنّ “إسرائيل” تستطيع بناء شبكات المياه للمستوطنات دون أخذ موافقة اللجنة المشتركة، ويضيف سيلبي: “بالرغم من أنّ الفلسطينيين سيحصلون الآن على استقلالية في مدّ الأنابيب، فإنهم لن يحصلوا على أي مياه إضافية لتجري فيها – إلا بموافقة إسرائيلية.”

في هذا الإطار أتت أموال المانحين للفلسطينيين، ولكنها تركزت عمومًا في بناء محطات معالجة مياه الصرف الصحي في الضفة الغربية، مع زيادة اهتمام الجهات المانحة في إنشاء ست محطات رئيسية في غرب نابلس وجنين وأريحا والبيرة ورام الله وطولكرم، غير أنّ عددًا كبيرًا من هذه المشاريع لم يُنفذ، ويُخفي التأطير الرسمي لهذه المشاريع القضايا السياسيةَ الأساسية، ففي عام 2015، مثلًا، وقَّع الاتحاد الأوروبي وسلطة المياه الفلسطينية اتفاقيةً لبناء محطة لمعالجة مياه الصرف بقيمة 20.5 مليون دولار في محافظة طوباس في شمال شرق الضفة الغربية، وقد علَّق رئيس سلطة المياه الفلسطينية، مازن غنيم، قائلًا: ما زالت مياه الصرف الصحي غير المعالَجة تشكل تحديًا رئيسيًا في فلسطين، وتخلِّفُ آثارًا خطيرة على الصحة والبيئة والزراعة”.

بالرغم من أنّ معالجة مياه الصرف أمرٌ ضروري، فإن تأطيرها كمصدر مائي إضافي للزراعة أو الاستخدامات الأخرى يعزز فكرةَ إيجاد وسائل بديلة عن الحقوق المائية في فلسطين، وبعبارة أُخرى، فإن التركيز على إمكانات مياه الصرف بدلاً من المطالبة بحقوق الفلسطينيين المائية يصور أزمةَ المياه كأزمة طبيعية تتطلب حلًا تكنولوجيًا – وليس مشكلة من صنع الإنسان تحرم الفلسطينيين عمدًا من مورد حيوي.

ما بين التداعيات والحلول:

مع تخفيض حصة الفلسطينيين من المياه في مناطق جنوب الضفة الغربية بواقع 35% في الخليل وبيت لحم و50%، في رام الله ومناطق القدس مثل كفر عقب، فإن انعكاسات أزمة المياه على مناحي الحياة المختلفة باتت تشتد وتتعاظم، حيث قال رئيس سلطة المياه مازن غنيم: “إن تخفيض نسبة المياه من قبل “ميكروت” هو موضوع سياسي، لعدة أسباب، أهمها: “أن لا يكون حياة للتجمعات الفلسطينية، وللمناطق الأخرى التي لها علاقة بالزراعة، والمشاريع الاستراتيجية، خاصة القريبة من المستوطنات في المناطق المسماة “ج”، بهدف تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم لصالح التوسع الاستيطاني، بالتالي فإن “إسرائيل” تستخدم المياه أداة ابتزاز للفلسطينيين. ويمكن أن تتمثل انعكاسات هذه الأزمة على الفلسطينيين في كثيرٍ من الأمور ومنها:

أولا: تحرم الأزمة الحالية للمياه مئات الالاف من الفلسطينيين من حقوقهم المائية، وهو ما يعني زيادةً في التكاليف الاقتصادية لشراء المياه، بالإضافة إلى الواقع الاقتصادي الصعب أصلاً، فضلاً عن تنامي مشكلة الأوبئة في مناطق مكتظة بالسكان، مثل كفر عقب في ضواحي القدس، والبحث عن أماكن أكثر وفرة في توفر المياه، وهو ما يعني وجود هجرة فلسطينية داخلية بسبب الأزمة المائية، والتي تشتد في كل صيف.

ثانياً: تدفع الأزمة المزارعين الفلسطينيين إلى ترك العمل بالزراعة، أو التوجه نحو قطاعاتٍ أخرى، أو العمل في أراضٍ زراعية يسيطر عليها المستوطنون اليهود بسبب توفر المياه، وهي وما يعني إلحاق أضرارٍ بالغة بالزراعة الفلسطينية.

ثالثاً: تزيد الأزمة الحالية من الاعتماد على المنتجات الزراعية “الإسرائيلية” بسبب توفر المياه اللازمة لإنتاجها ونقصانها في الجانب الفلسطيني.

رابعاً: تزيد الأزمة الحالية من نسب الجفاف في المناطق الفلسطينية، وهو ما أدى إلى فقدان مناطق خضرية متعددة في المدن الفلسطينية، ورفع نسبة التلوث فيها.

خامساً: قد تسبب أزمة المياه ارتفاعاً في نسب انتشار الأوبئة في المناطق الفلسطينية نظراً لقلة الاعتماد المياه اللازمة لغسل الشوارع والاتربة والتنظيف والتعقيم.

سادساً: قلة وصول المياه إلى المناطق الفلسطينية يؤدي إلى فقدان العديد من فرص العمل في المصانع الفلسطينية التي تعتمد على المياه في الانتاج كمصانع العصائر والمشروبات، والتي توقف انتاجها لفترات بسبب نقص المياه وارتفاع تكاليفها.

سابعاً: أدى استخراج المياه الفلسطينية والسيطرة عليها “إسرائيلياً”، وتحويل مجاري البعض منها إلى جفاف بعض المحميات الطبيعية التي كانت تعتبر بمثابة أماكن ومتنزهات للفلسطينيين، مثلما جرى مؤخراً عام 2024، من فرض السيطرة الكاملة على مياه نهر العوجا.

بناءً على ما سبق، ونظراً لأنّ السيطرة “الإسرائيلية” على المياه ترمي في أحد أهم أهدافها إلى خلق بيئة طاردة للفلسطينيين يكون مسعاها النهائي هو التهجير، تبدو الحاجة ماسة إلى اقتراح حلولٍ أكثر نجاعة ًفي مواجهة الاحتلال وسيطرته المائية، ومن ضمن ما يمكن العمل عليه ما يلي:

 أولاً، إجبار الفلسطينيين على ترخيص أبنيتهم بما يشمل بناء أبار لمياه الجمع، وهذا حل سهل التطبيق عملياً ولا يُمكن ل”إسرائيل” التحكم فيه، ويجدر بالجهات المسؤولة أن تعفي كل صاحب بناء مرخص من رسوم ترخيص البئر.

ثانياً: ضرورة إيجاد آبار للجمع تقوم عليها البلديات والسلطات المحلية، فضلاً عن الآبار الارتوازية التي ولو سعت “إسرائيل” إلى هدمها فالاستمرار في حفرها نوع من مواجهة الاحتلال.

ثالثاً: التقدم للمحاكم العالمية والدولية للنظر في مسألة “إسرائيل” وسيطرتها على المياه الفلسطينية، وترجمة ذلك من خلال منصات إعلامية توضح للعالم استخدام سياسيات التعطيش ضد الفلسطينيين كأحد أدوات التهجير والإبادة، وهذا يُساهم في تعزيز المواقف الفلسطينية، وتحديداً في الوقت الحالي، حيث باتت “إسرائيل” أكثر انكشافاً بسياساتها العنصرية أمام العالم أجمع.

الخاتمة:

سياسات “إسرائيل” في السيطرة على المياه وافتعال أزمة المياه الحالية، هي امتداد لذات السياسات التي نشأت عليها “إسرائيل” عام 1948، والتي كانت في الأصل امتداد لأهمية المياه في الفكر الصهيوني، ومثلما كان تجفيف بحيرة الحولة سبباً في تهجير 12 تجمعاً فلسطينيا حولها واستبدالها بتجمعات صهيونية، فالأمر ذاته اليوم في التعامل مع التجمعات البدوية التي تعاني كوارث مائية، وكذلك مع مزارعي الأغوار والمناطق الأخرى، وتمتد الأزمة اليوم لتُشكل مسعىً “إسرائيلياً” جاداً في اختلاق الأسباب الدافعة للتهجير الفلسطيني، فمثلما تُمارس “إسرائيل” سياسية التجويع والتعطيش في غزة، تمارسها ذاتها في الضفة الغربية، ولكن بوتيرةٍ مختلفة، وهذا ما يجب أن يدفع صانع القرار الفلسطيني النظر إلى المسألة باعتبارها أمناً وطنياً وقومياً، والتعامل معها من خلال البحث عن حلول إبداعية، وتعظيم خطورة الفعل الاحتلالي، وليس التعامل معها باعتبارها أزمة موسمية.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

[2] رواية خيالية نشرها ثيودور هرتزل في اللغة الألمانية عام ١٩٠٢ “Altneuland

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى