أحداث الضفة.. السياقات والانعكاسات
شهدت الضفة الغربية خلال كانون أول/ ديسمبر الجاري، أحداثًا ساخنة، ومواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي، شملت عمليات مسلحة نفذها فلسطينيون ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، وقابلها عمليات اغتيال نفذها الجيش الإسرائيلي بحق مقاوِمين فلسطينيين، وتخلل ذلك حملات اعتقال واسعة، وعمليات دهم وتفتيش، وحصار بعض المناطق الفلسطينية، وإغلاق مناطق أخرى. كما رافقه تصريحات وتصريحات مضادة، كانت جزءًا من المشهد السياسي. كل ذلك وضع الضفة الغربية في حالة من التوتر والغليان.
وللوقوف على سياق هذه الأحداث وانعكاساتها، استطلع مركز رؤية للتنمية السياسية آراء بعض الخبراء والمحللين السياسيين، عبر مجموعة من الأسئلة كما يلي: في أي سياق يمكن أن نفهم التطورات الميدانية الأخيرة في الضفة، وخاصة عمليات المقاومة؟ وفي المقابل، كيف يمكن أن نفهم السلوك الإسرائيلي عقب هذه العمليات، من الناحيتين الميدانية والسياسية؟ هل هناك انعكاسات سياسية للأحداث الأخيرة على السلطة الفلسطينية، ومفهوم الرمزية السيادية؟ كيف نقرأ تبنّي حركة حماس لشهداء الضفة والعمليات التي نُفذت خلال الفترة الماضية، سياسيا وميدانيا؟ وهل يمكن أن تؤسس هذه المرحلة لمنحى ميداني جديد في المواجهة ما بين الاحتلال والفلسطينيين في الضفة؟
من أبرز آراء الخبراء والمحللين بهذا الشأن ما يلي:
- تنبع هذه الأحداث بسبب انعدام الأفق السياسي، وتغول الاحتلال في المجالات المختلفة، وتحيز الإدارة الأمريكية لدولة الاحتلال بشكل سافر، وعجز النظام العربي، إلا أنها تدل على أن روح المقاومة لدى الفلسطينيين ما زالت متوقدة.
- ينبع السلوك الإسرائيلي بشكل أساسي من بُعد أمني، والأوضاع مرشحة للانفجار من جديد.
- ما نشهده حتى الآن، هو ردات فعل انتقامية غير منظمة، وعمليات فردية لن تتطور إلى انتفاضة شاملة، ما لم تنخرط فيها الفصائل بشكل واضح. والسلطة الفلسطينية هي أكبر عائق أمام تطور هذه الأحداث إلى انتفاضة شاملة.
- لا يجوز للمقاومة أن تعطي تبريرات للاحتلال. وفي نفس الوقت، لا يجوز أن يبقى دور السلطة الفلسطينية وظيفيًا، ومرتبطًا بالتنسيق الأمني.
د . سعيد زيداني، الأستاذ المشارك في دائرة الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة القدس
أعتقد أن الخلية التي بعثت باتجاه هذه التطورات واضحة، وهي تتمثل في الممارسات الإسرائيلية في مجال الاستيطان، وكذلك سن القوانين التي تضغط على الفلسطينيين. هذه الحكومة اليمينية ليس لديها أي مشروع سياسي يمكن التفاوض عليه. وفوق ذلك، تضغط على الفلسطينيين من خلال الحواجز التي تقيمها، أو من خلال ممارسات المستوطنين وتكثيف الاستيطان، أو القوانين العنصرية. إضافة إلى الدعم الأمريكي الواضح لسياسات الحكومة الإسرائيلية بشأن القدس واللاجئين والاستيطان.
هذا إلى جانب غياب العملية السياسية، وهو ما يولد حالة من الرفض الفلسطيني، الذي تم التعبير عنه من خلال مسيرات العودة على حدود قطاع غزة، وتكثيف ردود الفعل الشعبية، التي تُوجت بعمليات كالتي شاهدناها في الأيام الأخيرة.
أعتقد أن السلوك الإسرائيلي عقب هذه العمليات نابع بشكل أساسي من البعد الأمني، وهذا ربما يفسر تقارير أمنية صدرت عن جهات إسرائيلية، تبدي مخاوفها من نقمة جماهيرية فلسطينية، قد تكون على شكل انتفاضة قريبة. وبالتالي، رأت الحكومة الإسرائيلية في الأحداث الأخيرة، مبررًا لاتخاذ خطوات متطرفة ضد الفلسطينيين؛ لردع أي مقومات لأي تحرك، أو أي محاولة لإشعال انتفاضة جديدة، بأي شكل أو نوع منها.
كما جاءت هذه الأحداث أيضا في ظل حالة من الجفاء ما بين السلطة الفلسطينية والجهات الرسمية الإسرائيلية، فمثلًا، التنسيق الأمني ليس على ما يرام من وجهة نظر إسرائيلية. وبالتالي، تريد الحكومة أن تأخذ زمام المبادرة في قمع أي محاولات مستقبلية، ولتفادي أي محاولات لإشعال انتفاضة جديدة.
الإجراءات الإسرائيلية المتشددة مبنية على فقدان الثقة بالسلطة الفلسطينية. فطالما أن السلطة الفلسطينية هي شريك في المجال الأمني، فإن "إسرائيل" تتردد في اتخاذ خطوات متشددة تجاهها. ورغم استمرارية التنسيق الأمني، إلا أنه من وجهة النظر الإسرائيلية ليس على ما يرام. وبالتالي، تقول"إسرائيل" إن السلطة الفلسطينية لم تعد لاعبًا أساسيًا في أي مجال، وهو ما يجعلها تأخذ إجراءاتها كما تريد، وهو تعبير عن عدم الثقة الإسرائيلية بالسلطة الفلسطينية، وربما محاولة لتحييدها أكثرَ فأكثر.
لا شك أن حركة حماس معنيّة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بإشعال المقاومة في الضفة، خاصة بعد أن هدأت الأوضاع، ولو مؤقتا، على حدود قطاع غزة. فحماس، كما هي معنية بفك الحصار عن القطاع، من خلال المباحثات التي تجري بين الفترة والأخرى، تحاول إشعال المقاومة في الضفة والقدس.
تقول أجهزة المخابرات الإسرائيلية من خلال تقاريرها الأخيرة، إن هنالك بوادر لانتفاضة فلسطينية قادمة، وهذا مبني على معلومات بالنسبة لها. وعلى الأرض، يبدو أن الأوضاع مهيئة لانتفاضة فلسطينية، أو مواجهة على نطاق أوسع في الضفة الغربية، ولكن وجود السلطة الفلسطينية هو ما يحول دون ذلك.
بالتالي، إذا ضعفت السلطة الفلسطينية، أو حيّدت نفسها، فإنه يمكن أن تندلع مواجهة، أو انتفاضة، وقد تكون أعنف وأشد.
د . عبد الرحمن الحاج إبراهيم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت
تُظهر القراءة الأولى أن ما جرى هو نتيجة انعدام الأفق أمام أي حل سياسي. نحن نتحدث عن وضع قائم، لا يوجد فيه بصيص أمل للشعب الفلسطيني بأي حل سياسي. وفي ذات الوقت، تأخذ غالبية العمليات في السنوات الأخيرة، الطابع الفردي غير التنظيمي.
لدينا وضع اقتصادي متردٍ، ومعدل بطالة مرتفع، وحلول سياسية معدومة، ووضع عربي رديء جدا، وانحياز أمريكي غربي لصالح "إسرائيل". كما أن القضية الفلسطينية، والشرق الأوسط بشكل عام، لم يعودا في مقدمة اهتمام العالم، ولم نعد ندرك أن مركز اهتمام العالم اليوم، سياسيًا واقتصاديًا، هو ما وراء المحيط الهادئ.
وفعليًا، إن لم يكن لدينا خطة عمل للجميع، فلن يكون الأمر كافيًا. و"إسرائيل" عمليا انفلتت من عقالها، ولا رادع لها، والاستيطان على قدم وساق، والعقوبات الجماعية تُفرض دون رادع، وبيانات الشجب والاستنكار مللنا منها، وهناك تخوف مما هو قادم. بالتالي، ما نشهده حتى الآن، هو ردات فعل انتقامية غير منظمة.
اعتقد أن قراءة السلوك الإسرائيلي عقب هذه العمليات، تدلل على أن السلطة الفلسطينية الهشة في بنيتها، لم يعد لها قيمة من المنظور الإسرائيلي. و"إسرائيل" تريد أن تقول إنها تسرح وتمرح في رام الله، وتعتقل وتهدم البيوت، وتدخل مؤسسات رسمية، دون أن يكون هناك أي رادع. وهذا يقودنا إلى القول إن السلطة في ظل هذا الأمر، ستصبح عالة على الشعب؛ لأنه ليس لوجودها أثر فعلي.
إذا لم نستطع أن نجعل لأنفسنا مكانة، فمن سيحسب لنا الحساب؟ نحن لم نحترم ذاتنا، وعلى الأقل الموقف الرسمي تجاه ما جرى ويجري مختلف تماما عن الموقف الهزيل الذي خرج. نحن نلوم العرب لأنهم يكتفون بالكلام، واليوم أصبحنا مثلهم تماما.
الوضع الراهن يشبه وضع منظمة التحرير عام 68 /69، وهي مرحلة انتقالية ما بين حدثين مهمين. فإما أن تدرك المنظمة والفصائل الأخرى، أن البساط يُسحب من تحت أقدامها، وأن تتدارك الوضع بحيث تكون صاحبة الفعل، وليس رد الفعل، وإلا سيفوتها القطار، وهناك من يملأ الفراغ دائما.
ما يمكن قوله الآن، إننا ذاهبون إلى مزيد من تدهور الوضع السياسي والاقتصادي. لكن في المقابل، فإن ردات الفعل الاجتماعية والشعبية الأخيرة، من الشارع الفلسطيني تجاه الكثير من الانتهاكات، لاسيما هدم بيوت الشهداء، سيُحسب لها حساب في الفترة المقبلة، وتصبح أكثر قوة، إذا بدأت هذه التحركات تأخذ شكلًا منظمًا، أكثر مما هي عليه الآن.
د. عمر جعارة، الخبير بالشأن الإسرائيلي،وأستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية
اعتقد أن الممارسات الإسرائيلية على الأرض، والتشريعات والقوانين التي يفرضها الاحتلال، هي محاولة إسرائيلية لتثبيت وجودها على الأرض، وهي النقطة المركزية في الثقافة السياسية الأمنية الإسرائيلية، حيث تحاول "إسرائيل" تثبيت مبدأ أن أراضي الضفة هي أراضٍ غير محتلة، وإنما أراضٍ متنازع عليها، وهذا يدفع باتجاه عدم الإيمان بالبرامج السياسية.
كما أن الأحداث الأخيرة وعمليات المقاومة، تثبت أن المقاومة هي جزء من نشأة الشعب الفلسطيني وتكوينه. فرغم ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ضغوط وحصار، ورغم عدم وجود مردود سياسي مباشر لهذه الأعمال، واتسام بعضها بالفردية، إلا أننا ما زلنا بحاجة إلى برنامج سياسي قابل للتنفيذ والتطبيق والإنجاز.
وهنا باعتقادي أن الشعب الفلسطيني، بالرغم من ظروفه الصعبة، وعدم وجود المشروع السياسي، إلا أنه لا يقبل أن يبقى تحت ممارسات الاحتلال.
قال نتنياهو في أحد خطاباته، إنه وجه رسالة إلى قطاع غزة، بأنه لن يسمح بأن يكون قطاع غزة هادئا والضفة الغربية مشتعلة. بمعنى أن أي اتفاق للهدوء في غزة، يجب أن يقابله هدوء في الضفة. وبذلك، تريد "إسرائيل" توجيه رسالة إلى القيادة الفلسطينية، بأنها إذا لم تتعاون معها على خلفية العمليات الأخيرة، فإن بمقدورها أن تكرر ما قامت به مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وإخضاعه للحصار في المقاطعة.
أراد الاحتلال إيصال رسالة رددها الرئيس محمود عباس أكثر من مرة، وهي أن السلطة بلا سلطة، وأن الاحتلال غير راض عن أدائها، وبالتالي لا رمزية سيادية لها. وهذا للأسف هو نتاج لاتفاق أوسلو.
إذا عدنا إلى عام 2014، وفي أعقاب عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل، وتدهور الوضع وصولًا إلى الحرب على قطاع غزة، فإنه باعتقادي لا يجوز للمقاومة أن تعطي تبريرات للاحتلال. وهذا لا يعني أن هناك رسائل معينة أرادت المقاومة إيصالها، لكن باعتقادي أنه لا داعي لها في الوقت الحالي.
د. عماد البشتاوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخليل
ف ي سياق عملية الضغط المتواصلة على الشعب، ودون أي أفق للتسويات السياسية أو الحلول السلمية، أصبح الشعب أمام اللاخيار. لذا، لا يمكن القول إن هناك مقاومة حقيقية في الأفق. وفي المقابل، ليس هناك عملية تسوية سياسية، وهذا عرّض الشعب الفلسطيني لحالة انفجار، رغم أنه انفجار غير جماعي. لكن من الممكن أن تقود هذه الشرارات المتناثرة، إذا ما تم تأطيرها وتنظيمها لاحقا، إلى عملية حقيقية جماعية، وعمل جماهيري.
من الواضح أن نتنياهو، ومنذ وصوله إلى الحكم، لا يريد سلطة فلسطينية حقيقية على الأرض. أي لا يريد سلطة تملك كيانية، أو تصل إلى كيانية حقيقية وفق المفهوم الفلسطيني، وإنما يريد أن تكون سلطة واهنه ضعيفة، وتفتقر إلى دور حقيقي، وأن يكون دورها محدودًا في وظيفة معينة، وضمن رؤية إسرائيلية.
وكمثال على ذلك، اقتحمت قوة إسرائيلية خاصة حرم جامعة بيرزيت لتعتقل رئيس اتحاد الطلبة عمر الكسواني، رغم أن الأمن الإسرائيلي كان بإمكانه بكل بساطة، تحديد مكان تواجده خارج الجامعة، لكن الاحتلال أراد أن يوصل رسالة من خلال هذا الحدث، لتحجيم دور السلطة الفلسطينية في الذهنية الفلسطينية، بأن هذه السلطة هي سلطة زائفة، وتؤدي دورًا وظيفيًا يُرسم لها من قبل الاحتلال، مما يؤدي إلى إحباط لدى المواطن الفلسطيني، الذي كان يتطلع في يوم من الأيام إلى أن تكون السلطة نواة الدولة فلسطينية.
وعلى صعيد انعكاس هذه الأحداث على السلطة الفلسطينية، يمكن أن نقرأ ذلك باتجاهين، الأول على الصعيد الدولي، الذي يتعلق بالخشية على المفهوم السيادي لهذا الكيان، أو عدم منحه مكانة الدولة، أو الكيان صاحب السيادة. والأهم من ذلك على الصعيد الشعبي، فالمواطن سيعيش هذا الإحساس السياسي، وهو الأمر الكارثي، حيث بات الشارع الفلسطيني في السنوات الأخيرة، لا يكترث بالقضايا الوطنية، أو الأحداث المهمة. فمثلًا، أصبحت المسيرات التي ترتبط بالقضايا الوطنية، شبه ميتة، بينما تحصل المسيرات والأحداث المرتبطة بحالة اجتماعية أو اقتصادية، مثل قانون الضمان الاجتماعي، على الاهتمام الأكبر. فإذا كان ما يحدث في القدس والأقصى من انتهاكات، وما يحدث في غزة من حرب وحصار، وقتل وتدمير، لا تحرك الشارع في الضفة الغربية، وإنما تحركه مسيرة ضد قانون الضمان الاجتماعي، فهذا كارثة بالمفهوم الوطني. وليس المقصود طبعا عدم التحرك بشأن القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وإنما أن يكون هناك تحرك بشأن القضايا الوطنية أيضا.
توجه حركة حماس من خلال هذه العمليات رسالة إلى السلطة الفلسطينية، بأن حركة حماس موجودة رغم كل الاستهداف الذي تتعرض له. ورسالة أخرى إلى "إسرائيل" تحمل أكثر من معنى، منها أن حركة حماس موجودة في الضفة الغربية، كما هي في قطاع غزة.
لكن ما يخيف في هذه المرحلة، هو أن يتم تأويل هذا التبني من قبل حماس، على أنها تطرح نفسها بديلًا سياسيًا عن السلطة الفلسطينية، وأنها هي القادرة على السيطرة على الضفة الغربية، وأنها يمكن أن تمتلك أوراق تحريكها في أي وقت تريد. وهذه الرسائل قد تكون في جوهرها موجهة إلى "إسرائيل"، مفادها أن حماس هي العنوان لأي مرحلة مقبلة.
منذ عام 2015، الذي انطلقت فيه ما عُرف بـ انتفاضة القدس، أو انتفاضة السكاكين والدعس، كانت المقاومة عبارة عن عمليات فردية، ولم تخرج عن هذا الإطار. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لم تأخذ شكلًا واضحًا، وإنما كانت بالفعل عمليات تحريكية، وليست تحريرية، فلم تكن هناك أي رؤية في الأفق، أو تبنٍ تنظيمي لها. فهذه العمليات إن لم يتم تبنيها من تنظيمات، وخاصة التنظيمات الرئيسة، فإنها تبقى في إطار العمليات الفردية، ولن تخرج عن هذا الإطار، حتى وإن تمنى البعض أن تتحول إلى انتفاضة شاملة. لكنها فعلًا لن تتحول إلى انتفاضة شاملة دون مقومات.