وقف تمويل الأونروا.. الدلالات السياسية والتداعيات الإنسانية
سليمان بشارات[1]
سارعت 11 دولة بالإعلان عن تعليق تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في أعقاب ادعاءات “إسرائيلية” لـ 12 من موظفيها من الفلسطينيين بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقد برزت الولايات المتحدة الأمريكية على رأس هذه الدول، فيما شاركتها ذات الخطوة كل من أستراليا، وإيطاليا، وبريطانيا، وفنلندا، وهولندا، وألمانيا، وفرنسا، واليابان، وسويسرا، وكندا، وهي ذات الدول التي أعلنت صراحة دعمها ل”إسرائيل” في حربها على قطاع غزة منذ اليوم الأول للحرب، وساهمت في تبني الرواية “الإسرائيلية” للحرب، وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي لها، إضافة للإعلان الواضح والصريح من قِبَل بعضها بدعم الاحتلال بالسلاح والمشاركة في طلعات الاستطلاع في أجواء غزة.
إنّ اللافت في الاتهام “الإسرائيلي” لـموظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أنه يأتي بعد مرور ما يزيد عن 112 يومًا على الحرب، وبعد أقل من 48 ساعة على إصدار محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارات تتضمن دعوة الاحتلال “الإسرائيلي” اتخاذ خطوات عاجلة لمنع وقوع إبادة جماعية في غزة، وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع المحاصر لما يزيد عن 17 عامًا، الأمر الذي يفتح الباب أمام مجموعة من الاسئلة في مقدمتها: ما الأهداف الحقيقية التي تكمن وراء الادعاء الإسرائيلي؟ ولماذا صُدِّق الادعاء “الإسرائيلي” بشكل مباشر دون التشكيك بروايته كما ظهر كذب روايته في بداية الحرب، ووقعت واشنطن وغيرها من الدولة في خديعة الرواية “الإسرائيلية” التي اعترفت فيها بعد بكذبها؟ ولماذا يوقَف التمويل عن المؤسسة الدولية التي ينضم لها نحو 13 ألف موظف من قطاع غزة، وتقدم مساعدات لما يزيد عن 2 وربع مليون مواطنًا في غزة، بينما الاتهام هو فقط لـ 12 موظفًا فقط؟
المزاعم “الإسرائيلية”:
تقوم المزاعم “الإسرائيلية” على اتهامات بحق عدد من الموظفين في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، حيث نُشرت صور وأسماء لهم على أنهم شاركوا في تنفيذ عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أو موظفين خططوا لتنفيذ أعمال مشابهة، أو قدموا مساعدات أو ينتمون لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، واللافت في مزاعم الاحتلال وجود أسماء موظفات ومعلمين في مدارس وكالة الغوث من بين الأسماء التي وردت، وهو ما يثير شكوكًا حول مصداقية الادعاءات “الإسرائيلية” التي يستند بعض منها على منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي ورسائل نصية على هواتفهم النقالة.
على الرغم أنّ الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” قال إنه تم فتح تحقيق في هذه الاتهامات، وأنه تم فصل 9 ممن وردت أسماؤهم في التقرير “الإسرائيلي”، إلّا أنّ المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك قال إن “”إسرائيل” لم تقدّم رسميًا للأمم المتحدة بعد ملفها بشأن اتهام موظفين من وكالة الأونروا بغزة”، وهو ما يمكن أن يُفهم بأن التقارير “الإسرائيلية” لم تستند إلى حقائق واقعية بقدر أنها تمثل وجهات نظر استخباراتية قد تخدم أهدافًا سياسية يعمل عليها الاحتلال، وأن القبول المباشر للرواية “الإسرائيلية” يثير الكثير من علامات الاستفهام.
تعيد الرواية “الإسرائيلية” باستهداف الأونروا إلى الذاكرة ما طالب به رئيس الوزراء “الإسرائيلي” “بنيامين نتنياهو” عام 2017 بتفكيك الأونروا ودمج مؤسساتها في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وقد عمد الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب إلى اتهام موظفي الأونروا بالعمل لصالح “حماس”، فيما اعتُبر “تبريرًا مسبقًا” لضرب مدارس ومرافق المؤسسة في القطاع، والتي تؤوي عشرات آلاف النازحين معظمهم من الأطفال والنساء، فيما صعّد الاحتلال هجومه على الأمم المتحدة وأمينها العام “غوتيريش” نتيجة لمواقفه المنتقدة للحرب وعمليات القتل التي يمارسها الاحتلال “الإسرائيلي”.
يذكر أنّ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” أُنشئت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، وفُوِضت بتقديم المساعدة والحماية للاجئين في مناطق عملياتها الخمس، الأردن، وسوريا، ولبنان، والضفة الغربية، والقطاع، إلى أن يتم التوصل إلى حل عادل لقضيتهمم.
مواقف فلسطينية مشككة:
عبّرت كافة الأطر السياسية والحقوقية والشعبية الفلسطينية عن رفضها “الأحكام المسبقة” ضد أونروا، وطالبت الرئاسة الفلسطينية الدول التي اتخذت موقفًا من “الأونروا” قبل انتهاء التحقيق في الاتهامات الموجهة إليها بالتراجع عن هذه المواقف التي من شأنها معاقبة الملايين من دون وجه حق وبشكل لا إنساني، واعتبرت الخارجية الفلسطينية ما يجري جزءاً من “مخطط مبيَّت لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين”، مبدية استغرابها الشديد من الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول قبل الانتهاء من تحقيقات الأمم المتحدة، وطالبتها بالتراجع الفوري عنها، اتّساقاً مع القانون والإجراءات القانونية المتبعة، كما أصدر كل من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودائرة شؤون اللاجئين في المنظمة، والمجلس الوطني الفلسطيني مواقف متشابهة برفضها لهذه الخطوة، معتبرين ذلك محاولة “إسرائيلية” لتغييب أيّ مؤسسات دولية ستكون شاهدًا على “جرائمها ووحشيتها وإبادتها التي تمارسها في قطاع غزة”.
اعتبرت حركة حماس قرار وقف التمويل يهدف إلى إنهاء قضية اللاجئين، والضغط على أهالي غزة الصامدين، وإضعاف وتحجيم دور الأونروا، بما يؤدي لاحقًا لوقف جميع الخدمات الصحية والتعليمية والإغاثية التي تقدمها، كما أشارت حركة الجهاد الإسلامي إلى أنّ توقيت إعلان وقف التمويل، بالتزامن مع صدور مقررات محكمة العدل الدولية بارتكاب العدو حرب إبادة، يمثل مشاركة بحرب الإبادة، وأنه مؤشر على نيّة هذه الدول معاقبة الشعب الفلسطيني على مقاومته للجرائم التي يرتكبها الاحتلال، كما دانت الجبهتين الشعبية والديمقراطية تعليق التمويل من جانب هذه الدول “المعروفة بتواطئها وانحيازها للكيان الصهيوني”.
مواقف دولية وإقليمية منقسمة:
من شأن قرار وقف التمويل حرمان وكالة الأونروا ما نسبته 60 % من تمويلها، حيث تعد الولايات المتحدة الأمريكية أكبر جهة مانحة بمتوسط 350 مليون دولار، وبما يقارب ثلث ميزانية الوكالة السنوية البالغة 1.2 مليار دولار، فيما تشارك كل من ألمانيا بـ(202 مليون دولار)، واليابان (30.1 مليون دولار)، وفرنسا (28.9 مليون دولار)، وسويسرا (25.5 مليون دولار)، وكندا (23.7 مليون دولار)، وبريطانيا (21.1 مليون دولار)، وهولندا (21.1 مليون دولار)، وإيطاليا (18 مليون دولار)، وأستراليا (13.8 مليون دولار)، وفنلندا (7.8 مليون دولار).
أظهرت المواقف الدولية حالة انقسام تجاه خطوة تعليق تمويل الأونروا، فبينما سارعت 11 دولة في مقدمتهم الولايات المتحدة على اتخاذ خطوات مباشرة بتعليق تمويلها لوكالة الغوث دون انتظار نتائج التحقيقات، عبّرت أطراف دولية وإقليمية عن خشيتهما من تأثيرات مثل هذه القرارات، مطالبين بضرورة استمرار دعم أونروا في ظل واقع إنساني متردي في القطاع، وناشد “أنطونيو غوتيريش” الدول المانحة “ضمان استمرارية” عمليات أونروا خشية من الارتدادات الإنسانية لهذا القرار.
انتقدت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة “فرانشيسكا ألبانيز” قرار وقف تمويل الأونروا، مشيرة إلى أنّ محكمة العدل الدولية طلبت “السماح بمساعدات إنسانية فعّالة” لسكان قطاع غزة، وبالتالي فإنّ قرار تلك الدول يعدّ بمثابة “عصيان علني لقرار محكمة العدل الدولية”، كما انتقدت النائب في مجلس النواب الأمريكي “ألكساندريا أوكاسيو– كورتيز” تعليق بعض الدول تمويلها أونروا، وقالت أنه أمر “غير مقبول”، كما قالت 9 منظمات إغاثية رسالة مشتركة، وهي أنّ تعليق تمويل “أونروا” يهدد حياة الفلسطينيين في غزة والمنطقة، لافتة إلى أنّ تعليق تمويل الأونروا يؤثر على المساعدات التي يمكن وصفها بالمنقذة لحياة أكثر من مليوني مدني، وحثّت الدول المانحة على إعادة تفعيل دعمها للعمل الهام للأونروا وشركائها لمساعدة الفلسطينيين.
أعلنت النرويج، وهي إحدى الدول الرئيسة المانحة للوكالة، مواصلة عملية التمويل، وقال وزير خارجيتها “إسبن بارث إيدي” “بينما أُشارك القلق بشأن الادعاءات الخطيرة للغاية ضد بعض موظفي الأونروا، فإنني أحثّ المانحين الآخرين على النظر في العواقب الأوسع نطاقًا لخفض تمويل الأونروا في هذا الوقت من الأزمة الإنسانية الشديدة”، وتابع الوزير “لا ينبغي لنا أن نعاقب ملايين الأشخاص بشكل جماعي”.
كما أثار قرار وقف التمويل حفيظة العديد من الدول العربية، في مقدمتها مصر والسعودية والأردن وقطر، وحذرت من خطورة هذا الاجراء، ففي اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية المصري سامح شكري مع المفوض العام للوكالة “فيليب لازاريني”، نوه إلى أنه “من غير المقبول” اتخاذ بعض الدول قرارات بتعليق تمويلها لأنشطة الوكالة في توقيت “دقيق الحساسية، فيما يبدو أنه بمثابة عقاب جماعي ضد جميع العاملين في الوكالة”، وتقاطع هذا الموقف مع ما صدر عن منظمة التعاون الإسلامي التي أعربت عن أسفها من هذه القرارات، فيما حذّرت تركيا من مغبة ذلك وأثره على “الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى”.
في دلالات الخطوة وتوقيتها:
أثار قرار وقف تمويل الأونروا وتبني الرواية “الإسرائيلية” قبل إجراء تحقيقات من قبل الأمم المتحدة تساؤلات عديدة في دلالات الخطوة وتوقيتها وطبيعة المآلات “الإسرائيلية” من وراء اتخاذها، وهو ما يمكن أن يُفهم ضمن مجموعة من الرؤى:
- الالتفاف على قرارات محكمة العدل الدولية: وجدت “إسرائيل” والولايات المتحدة نفسيهما أمام نفاذ الوقت في كيفية التعاطي مع القرارات العاجلة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية، خصوصًا فيما يتعلق بالحالة الإنسانية في قطاع غزة، وهو ما دفع “إسرائيل” إلى إيجاد المبرر والمصوغ الذي يمكن من خلاله تبرير عدم إدخال المساعدات، عبر التشكيك بالمؤسسات الإنسانية الدولية، وفي مقدمتها وكالة الأونروا، باعتبارها المرجعية الأساسية في هذا الإطار منذ اليوم الأول للحرب.
- إضعاف الثقة بالتقارير الدولية التي تدين ممارسات الاحتلال: اعتمدت محكمة العدل الدولية في قراراتها، وكذلك الملف المقدم من دولة جنوب إفريقيا على التقارير الدولية، لا سيما تلك الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة، وهي بذلك توفر أساسًا لإدانة الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة في غزة، وبالتالي سعت “إسرائيل” إلى إحداث حالة تشكيك بصدقية هذا التقارير لنسف السردية التي تقوم عليها، ومحاولة إضفاء المصداقية على رواية الاحتلال.
- تسيس المساعدات الإنسانية لغزة: في ظل الفشل “الإسرائيلي” من تحقيق أهداف الحرب، فإنها تسعى إلى فرض معادلات تمكنها السيطرة المستقبلية على ما يتعلق بالحياة اليومية للفلسطينيين في قطاع غزة، عبر رفع الغطاء الإنساني وتحويله إلى غطاء سياسي يمكن أن تضغط عليه من خلال الأطراف الدولية، وهو ما يعني أنّ إنهاء الأونروا قد يفتح الباب أمام تحويل مهامها لدوائر أخرى في الأمم المتحدة تمكن “إسرائيل” من خلالها ممارسة أي ضغوط سياسية عبر المسار الإنساني المستقبلي للقطاع.
- خطوة على طريق إنهاء ملف العودة: حاول الاحتلال “الإسرائيلي” عبر جميع المسارات التفاوضية رفع الغطاء السياسي والحقوقي عن قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتحقيق ملف التوطين لهم في البلدان التي يقيمون فيها، وباعتبار أونروا عنوانًا أساسيًا في هذا الملف، فإنّ الاحتلال يسعى إلى بداية تفكيكها لتشكل نافذة تمكنه من الانتهاء من ملف عودة اللاجئين ضمن أي أطروحات سياسية مقبلة للقضية الفلسطينية.
- إمكانية تفعيل مسار التهجير الطوعي: عمد الاحتلال “الإسرائيلي” عبر سنوات احتلاله من تعزيز ملف التهجير للفلسطينيين، ومنذ اليوم الأول للحرب حاول الاحتلال إنهاء كل مقومات الحياة في قطاع غزة بهدف دفع الفلسطينيين للهجرة، وبدأت تأخذ هذه الاستراتيجية أطروحات متعددة من ضمنها التهجير الطوعي، عبر تقديم الامتيازات للفلسطينيين الراغبين بالخروج إلى دول أوروبية وغيرها، وبالتالي يحاول الاحتلال من خلال إنهاء وجود الأونروا ربط أيّة عمليات تهجير مستقبلية بحالة طوعية فلسطينية يمكن أن تسهّل عليه تمريرها في ظل الرفض الظاهري من قبل العديد من الدول الاقليمية والعربية والدولية لاستراتيجية الترانسفير.
الخلاصة:
ما يمكن قوله أنّ الاحتلال “الإسرائيلي” لا يتوقف عن اختلاق الذرائع التي يحاول من خلالها تصفية القضية الفلسطينية بأبعادها السياسية والإنسانية، ولتحقيق هذه الأهداف فإنه يسعى بشكل مواز لممارساته من عمليات القتل والتدمير، إلى إنها وجود الغطاء المؤسسي الذي كان يمثل العنوان الأبرز منذ الاحتلال عام48، وهذا ما يمكن من خلاله فهم استهداف الاحتلال المؤسسات الدولية التي باتت تشكل شاهدًا حيًّا على ممارسات الاحتلال، مستقلًا بذلك تماهي المواقف الغربية والأمريكية مع الرواية التي يقدمها للعالم.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله