محددات بناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية والقدس

ملخص

يحاول الباحث في هذه الدراسة فهم الدوافع الكامنة وراء اختيار سلطات الاحتلال المسار الحالي للجدار الفاصل بين الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948، حيث إن المسار المنفذ جاء في معظمه داخل حدود الضفة الغربية، مبتعدًا عن خط الهدنة “الخط الأخضر”. ويناقش الباحث عشرة عوامل رئيسة كانت وراء تخطيط المسار الحالي، وهي: الذرائع الأمنية والعسكرية كسبب تقليدي دائم، ضم أكبر عدد ممكن من المستوطنات الإسرائيلية خلف الجدار، قضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية، السيطرة على المواقع التاريخية والدينية الهامة، السيطرة على مناطق المرتفعات الجبلية، السيطرة على المناطق الزراعية الخصبة، والمناطق الغنية بمصادر المياه، إخراج المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية، توسيع حدود مدينة القدس الكبرى على حساب أراضي الضفة الغربية، حماية الطرق الرئيسة وشبكات المواصلات. خلص الباحث إلى أن اختيار المخططين الإسرائيليين لمسار الجدار الحالي، كان دقيقا جدا، وجاء بعد دراسات معمقة من قبل خبراء لكل حالة، وكل منطقة من مناطق الضفة الغربية، للوصول إلى المسار الحالي، الذي يخنق معظم الضفة الغربية، ويقطع أوصالها بشكل يخالف كل القوانين والأعراف الدولية.

مقدمة

تزامنت خطة الفصل العنصري الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية مع مفاوضات أوسلو في بداية التسعينيات، وتبلوُر فكرة حل الدولتين، حيث تم البدء بنقل السيطرة على أجزاء من الضفة الغربية من سلطات الاحتلال إلى السلطة الفلسطينية. وقد طرح رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي حينها إسحق رابين، فكرة إقامة جدار فاصل في الضفة الغربية عام 1995، وقد بدأ التخطيط لهذا الجدار بعد اقتراح رابين، لكنه لم ينفذ في حينه. وفي نهاية التسعينيات، تم البدء بإقامة حواجز تفصل الضفة الغربية عن القدس والمناطق المحتلة عام 1948. وبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وتسارع وتيرة الأحداث الميدانية وتصاعدها، وبعد تزايد العمليات الاستشهادية داخل العمق الإسرائيلي، تداعى قيادات وخبراء عسكريون وسياسيون إسرائيليون، إلى اجتماعات ومؤتمرات؛ لوضع خطط وحلول أمنية مستقبلية. وبدأت تتجدد لدى قيادة الاحتلال فكرة إقامة جدار يفصل الأراضي الفلسطينية عن بعضها البعض. وفي شهر حزيران من عام 2002، قرر مجلس وزراء دولة الاحتلال برئاسة شارون القرار رقم (2077)، القاضي بالبدء بإقامة جدار يفصل الضفة الغربية بالكامل عن “إسرائيل”. وتماشيًا مع فكرة حل الدولتين، التي كانت مطروحة دوليًا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، اتخذت سلطات الاحتلال مرجعية إقامة هذا الجدار على مناطق محاذية لحدود خط الهدنة بعد حرب عام 1948، المعروف بالخط الأخضر، والذي تم الاتفاق عليه بين سلطات الاحتلال والدول العربية المحيطة بفلسطين، وهي الأردن ومصر وسوريا ولبنان، والذي انتهت صلاحيته، وتم خرقه بعد حرب عام 1967، التي اجتاحت خلالها سلطات الاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق أخرى. لكن، وبعد عدة سنوات من إقامة معظم هذا الجدار المحيط بأراضي الضفة الغربية، لوحظ أن مساره يأخذ شكلًا ملتويًا، يختلف ويبتعد في كثير من أجزائه عن خط الهدنة، خاصة في منطقة وسط الضفة الغربية. وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، فإنه، وعند اكتمال بناء الجدار الفاصل، الذي تم إنجاز حوالي 65% منه، سيصل طوله إلى 712 كم، أي ضِعف طول الخط الأخضر، وسيقع 85% منه داخل حدود الضفة الغربية، بدلا من وقوعه على الخط الأخضر (أوتشا، 2018).

لذلك، تناقش هذه الدراسة المحددات والعوامل التي كانت في ذهن المخطط الإسرائيلي وقيادته السياسية، عند رسم المسار الحالي لهذا الجدار العنصري.

خارطة رقم (1): الجدار الفاصل حول الضفة الغربية. المصدر OCHA

 

أولا: الجدار والادعاء بالذرائع الأمنية والعسكرية

كان الدافع الأمني والعسكري هو الذريعة الأولى لسلطات الاحتلال للبدء ببناء الجدار الفاصل حول الضفة الغربية، وخاصة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، ردًا على اقتحام رئيس حكومة الاحتلال شارون للمسجد الأقصى، حيث تزايدت العمليات الاستشهادية في عمق الأراضي المحتلة، فكانت خطة شارون تقضي ببناء حدود فاصلة مع الضفة الغربية بالقرب من خط الهدنة “الخط الأخضر”، بهدف منع الفلسطينيين من الدخول إلى “إسرائيل” وتنفيذ عمليات. ورغم أن فكرة إقامة الجدار كانت مطروحة في عهد رابين في التسعينيات، وقبل شارون، إلا أن قيادة الاحتلال أرادت أيضا استغلال هذا التصعيد؛ لإيهام المجتمع الدولي بأن الجدار يهدف إلى توفير الحماية الأمنية لشعبها، سواء في عمق الأراضي المحتلة، أو في المستوطنات القريبة من الخط الأخضر، فعملت على ضم أكبر عدد ممكن من المستوطنات الإسرائيلية، من داخل الضفة الغربية إلى “إسرائيل”، لتوفير أكبر قدر ممكن من الحماية لها، وخلق تواصل جغرافي بين هذه المستوطنات والأراضي المحتلة عام 1948. وحسب تصريحات قيادات الاحتلال، فإن أحد أسباب إقامة الجدار هو “إنشاء منطقة عازلة حول المستوطنات، التي ستكون حيوية لضرب الإرهابيين الذين يعبرون الجدار، قبل أن ينفذوا مخططاتهم” (محكمة العدل العليا الإسرائيلية).

يجد المتتبع للأوامر العسكرية الإسرائيلية المتعلقة ببناء الجدار عبر السنوات الماضية، أن الكثير منها جاءت تحت مبررات “أغراض عسكرية”، أو “أغراض أمنية”، بموجب صلاحيات القائد العسكري في “يهودا والسامرة”، حيث تعتبرها دولة الاحتلال ذريعة قانونية لا يمكن مناقشتها. وحسب مؤسسة بتسيلم الإسرائيلية، فقد كانت الآليّة الأساسيّة التي استخدمتها “إسرائيل” للسيطرة على الأراضي لأجل إقامة المستوطنات، هي “وضع اليد على أراضٍ لأغراض عسكريّة” (بتسيلم، 2017). ويعتبر الدافع الأمني والعسكري هو الذريعة التقليدية والدائمة لاختيار المكان المراد السيطرة عليه من قبل سلطات الاحتلال. وبالتالي لا يأخذ مسار الجدار الفاصل بعين الاعتبار حدودًا معينة وثابتة، بقدر دراسة المصالح الأمنية لدولة الاحتلال، التي تأخذ بعين الاعتبار عدة أمور، منها: القرب من المستوطنات، ارتفاع المنطقة، القرب من شبكة الطرق، ضم المناطق الاستراتيجية والحيوية، وغيرها.

 

صورة رقم (1): أمر عسكري صادر عن جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 2003، لمصادرة 607 دونماتٍ من أراضي بلدة بيت عنان شمال غرب القدس، بذريعة “أغراض عسكرية” لإنشاء الجدار الفاصل هناك بطول 9 كم.

 

ثانيا: الجدار وضم أكبر عدد ممكن من المستوطنات الإسرائيلية وسكانها خلفه

لعل من أهم الدوافع الاستراتيجية في المشروع الاستيطاني لدولة الاحتلال، هو بناء جدار يضم أكبر عدد ممكن من المستوطنات الإسرائيلية، من داخل الضفة الغربية إلى “إسرائيل”، وخاصة مستوطنات محيط القدس، والمستوطنات القريبة من الخط الأخضر، وذلك بذريعة  توفير الحماية للمستوطنين الإسرائيليين، وفتح ممرات آمنة لهم مع الأراضي المحتلة عام 1948، الأمر الذي يعني أيضا السيطرة على مساحات أكبر من الأراضي على حساب الفلسطينيين.

تؤكد منظمة “أوتشا” أن ضم المستوطنات الإسرائيلية داخل الجدار، يعد العامل الأهم لانحراف مسار الجدار عن الخط الأخضر (أوتشا، 2013). ومن الجدير بالذكر أن حكومة الاحتلال برئاسة شارون، كانت قد طرحت في عام 2005، مشروع قانون لضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى أراضي “إسرائيل”، واعتبارها جزءًا لا يتجزأ منها، وذلك من خلال الجدار الفاصل (أريج، 2009). ومن هذه الكتل الاستيطانية تجمع “أرئيل” غرب سلفيت، وتجمع “مودعين” غرب رام الله، وتجمع “معاليه أدوميم” شرق القدس، وتجمع “غوش عتصيون” غرب بيت لحم، وتجمع كيدوميم في قلقيلية. تُظهر خارطة رقم (2) مثالًا واضحًا على ضم المستوطنات من خلال الجدار الفاصل بطريقة بشعة جدا، حيث يخترق عمق محافظتي سلفيت وقلقيلية شمال الضفة الغربية، من الغرب إلى الشرق، وبشكلٍ أصبح متعارفًا عليه “بالأصابع”، حيث تُظهر الخارطة “أصبع أرئيل” في سلفيت، الذي يضم 12 مستوطنة إسرائيلية، و”أصبع كيدوميم” في قلقيلية، الذي يضم 8 مستوطنات.

 

خارطة رقم (2): الجدار الفاصل في قلقيلية وسلفيت (أصبع أرئيل وأصبع كيدوميم).

المصدر: OCHA 2007

 

وحسب منظمة أوتشا، يبلغ عدد المستوطنات الإسرائيلية ضمن منطقة العزل الغربية، أي منطقة التماس، والتي ضمها جدار الفصل، 71 مستوطنة، وهي من أصل 149 مستوطنة تضم حوالي 85% من مجموع مستوطني الضفة الغربية (أوتشا، 2013).

في المقابل، يبلغ عدد المستوطنات الإسرائيلية التي لم يضمها جدار الفصل، حسب معلومات منظمة أوتشا، 78 مستوطنة، يقع معظمها في عمق الضفة الغربية، ويقطنها ما يقارب 15% فقط من مجموع مستوطني الضفة الغربية. بعض هذه المستوطنات كان قد جرى نقاش أثناء مفاوضات السلام الماضية بشأن احتمال إخلائها، لتسوية حدود جديدة ضمن “حل الدولتين”، وبوجود جدار الفصل العنصري. لكن على أرض الواقع لم يتغير شيء، سوى ما تم إنجازه من الجدار الفاصل، وما تم ضمه من مستوطنات داخله.

وبالتالي يتضح أن الجدار الفاصل ضم الغالبية العظمى من المستوطنين في الضفة الغربية، وحوالي نصف عدد المستوطنات الكلي، وهذا يؤكد أن مسار الجدار قد تم تحديده وتخطيطه بشكل دقيق من قبل سلطات الاحتلال؛ لتحقيق أهم الأهداف الاستراتيجية، وهي ضم أكبر عدد من المستوطنات والمستوطنين إلى “إسرائيل”.

 

ثالثا: الجدار وقضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية وإخضاعها للسيطرة الإسرائيلية

منذ نشأة الاحتلال في فلسطين، ما زالت نظرية السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية، هي الفكرة المسيطرة في عقول السياسيين الإسرائيليين. فقد قام الوجود اليهودي في فلسطين على المقولة الشهيرة التي روجت لها قيادات الصهيونية، وهي مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وقد بدأت قوات الاحتلال بترجمة هذه المقولة من خلال حرب عام 1948، والتي نتج عنها السيطرة الكبرى على حوالي 78% من الأرض الفلسطينية. ومنذ عام 1967، وبعد فرض السيطرة العسكرية الكاملة على منطقتي الضفة الغربية وقطاع غزة، اللتين تشكلان 22% من أرض فلسطين التاريخية، أرادت سلطات الاحتلال أن تركز الوجود البشري اليهودي في محيط منطقة القدس، وما يسمونها “يهودا والسامرة”، والتي تعد ذات الأهمية التاريخية والدينية. فبدأت بتركيز المشروع الاستيطاني فيها بشكل تدريجي؛ لإحكام السيطرة عليها من خلال الديموغرافيا، إلى جانب السيطرة العسكرية، حيث إن الوجود اليهودي البشري على الأرض، باعتقادهم، هو الذي يحميها أكثر من الوجود العسكري. ثم استطاعت سلطات الاحتلال توسيع المشروع الاستيطاني على تلال الضفة الغربية، وإحاطتها بالأسلاك الشائكة، التي أصبحت فيما بعد جزءًا من جدار يفصل الأرض الفلسطينية، ويمزقها.

أعدت مؤسستا بتسيلم وبمكوم الإسرائيليتان، دراسة تحليلية معمقة للعديد من الحالات الاستيطانية، أثبتت فيها أن من أهم محددات رسم مسار الجدار الفاصل، هو فتح المجال لتمدد المستوطنات على الأراضي المعزولة بالجدار في الضفة الغربية، وفي بعض الحالات تعدى ذلك الأمر إلى فتح المجال لبناء مستوطنات جديدة (بتسيلم، 2005).

ويشير الباحث المختص بشؤون الاستيطان جمال جمعة، إلى أن سلطات الاحتلال استخدمت جدار الفصل لمصادرة الأراضي الفلسطينية؛ من أجل ضمان نمو المستوطنات. ومثال ذلك مشروع E1، الذي يشكل امتدادًا لمستوطنة معاليه أدوميم باتجاه القدس، والذي تم فيه إنشاء الجدار الفاصل حول المنطقة لضمها؛ تمهيدًا لتوسيع المستوطنة فيها (جمعة، 2011).

لقد استطاع الجدار الفاصل أن يقضم حوالي 13% من مساحة الضفة الغربية، ويضمها إلى “إسرائيل”، وهي المنطقة المعروفة “بمنطقة العزل الغربية”، أو “منطقة التماس” القريبة من الخط الأخضر.

إن المسار الجديد للجدار، والمبتعد عن الخط الأخضر في عمق الضفة الغربية والقدس، استطاع أن يفرض واقعًا جديدًا على الأرض، لحدود مستقبلية تريدها دولة الاحتلال ضمن حل الدولتين المحتمل، بحيث تضمن السيطرة على مساحات كافية واستراتيجية للاحتلال.

إن أهم ما منع مسار الجدار الفاصل من قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، هو الوجود البشري الفلسطيني على الأرض، حيث كان الجدار يوغل في أراضي الضفة الغربية، حتى يتوقف على حدود المدن والقرى، ثم يلتوي مبتعدا عنها، حتى يجد منفذا آخر لقضم المزيد من الأراضي حولها.

لقد مُنع الفلسطينيون عبر السنوات الطويلة، وما زالوا يُمنعون من الانتشار والتوسع العمراني، وذلك عبر قوانين التنظيم والبناء الاحتلالية، التي تحدد البناء ضمن حدود مخططات هيكلية صغيرة ومزدحمة حول المدن والقرى. ومما زاد الطين بلة اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة “إسرائيل” عام 1994، والتي أعطت للسلطة الفلسطينية سيطرة إدارية على 36% فقط من مساحة الضفة الغربية، وهي مناطق (أ)  و (ب)، وبالتالي تم إخضاع حوالي 64% من مساحة الضفة الغربية للسيطرة الإدارية الإسرائيلية، وهي ما سُميت بمناطق (ج) ومحميات طبيعية. وبشكل عام، يُمنع الفلسطينيون في هذه المناطق من البناء، إلا في حالات نادرة، وبموافقة الإدارة المدنية الإسرائيلية.

ومما ساعد سلطات الاحتلال على الانتشار والتوسع في السيطرة على الأرض الفلسطينية للأغراض الاستيطانية التوسعية، هو دراسة ملكية الأراضي في مختلف مناطق الضفة الغربية. فقد ورثت سلطات الاحتلال من الحكومات المتعاقبة على فلسطين، ملفاتٍ أرشيفية وخرائط تتعلق بملكية الأراضي، وتمتد من العهد العثماني والبريطاني والأردني. وقد ساعدت هذه المعلومات في تخطيط السيطرة على الأراضي؛ لبناء المستوطنات وتخطيط مسار الجدار الفاصل، وخاصة فيما يتعلق بأراضي “أملاك الدولة”، التي تعتبرها سلطات الاحتلال حقا لها كسلطة تسيطر على جميع الأرض الفلسطينية. وحسب معهد الأبحاث التطبيقية “أريج”، فقد كانت الأداة الرئيسة التي استخدمتها “إسرائيل” للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، هي إعلان هذه الأراضي بأنها “أراضي دولة. ومن خلال دراسة تحليلية قام بها معهد “أريج” لواقع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، تبين أن 51% منها تم بناؤها على أراضٍ صنفتها “إسرائيل” بأنها أراضي دولة، و 49% منها بنيت على أراضٍ فلسطينية ذات ملكية خاصة (أريج، 2016). لكن حتى الأراضي المصنفة ملكية خاصة، تتم مصادرتها وتحويلها إلى أراضي دولة تحت ذرائع متعددة، ومن ثم يتم استغلالها للاستيطان. وكمثال على ذلك، تُظهر الخارطة رقم (3) منطقة الريف الغربي في بيت لحم، والمعزولة خلف الجدار الفاصل عن المدينة، حيث تم إنشاء تجمع مستوطنات “غوش عتصيون” فيها على أراض تمت مصادرة كثير منها بعد إعلانها “أراضي دولة”.

خارطة رقم (3): منطقة الريف الغربي في بيت لحم، التي تم إنشاء تجمع مستوطنات غوش عتصيون فيها (باللون الأزرق)، على أراض تمت مصادرة كثير منها بعد إعلانها كأراضي دولة (باللون الزهري). المصدر: وزارة الحكم المحلي 2018.

 

وحسب معلومات معهد أريج، تشكل الأراضي المصنفة من قبل سلطات الاحتلال “أراضي دولة”، ما نسبته حوالي 37.8% من مساحة الضفة الغربية، وهي مصنفة كما يلي: 11.2% أراضي دولة “مسجلة” تعود لفترة الحكم الأردني، 14.9% أراضي دولة “معلنة” تم إعلان السيطرة عليها بعد عام 1979، وإخضاعها للسيطرة الإسرائيلية، 11.7% أراضي دولة “غير مسجلة” (أريج، 2013).

وحسب منظمة بتسيلم الإسرائيلية، تبلغ مساحة الأراضي التي كانت مصنفة كأراضي دولة قبل عام 1979، حوالي 527 ألف دونم، معظمها في مناطق الأغوار، لكنها لم تكن كافية للأطماع الاستيطانية، خاصة في مناطق مرتفعات الضفة الغربية، فاستغلت سلطات الاحتلال بعض القوانين العثمانية القديمة، ووضعت تأويلات جديدة لها تسمح بتحويل أراضٍ بملكيات خاصة إلى أراضي دولة، في حال عدم وجود فلاحة متواصلة للأرض. واستطاعت بعد عام 1979، وعلى مدى أكثر من عقدين، تحويل أكثر من 900 ألف دونم من ملكيات خاصة إلى أراضي دولة (بتسيلم، 2017).

وبالتالي استطاعت سلطات الاحتلال وضع مبررات مختلفة للتوسع في سيطرتها على الأرض الفلسطينية، وقضم أكبر مساحة ممكنة منها لصالح المشروع الاستيطاني، لكن جدار الفصل العنصري كان بمثابة الحلقة التي ساعدت الاحتلال في السيطرة على الأراضي المصادرة، وحماية المستوطنات التي تم تشييدها، وذلك بقوة الاحتلال غير الشرعي، والمخالف للقوانين والأعراف الدولية كافة.

 

رابعا: الجدار وإخراج المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية من القدس

استخدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي جدار الفصل العنصري كوسيلة للتحكم بالتوازن الديموغرافي، وخاصة في منطقة محيط القدس، حيث تم إخراج أكبر قدر ممكن من التجمعات الفلسطينية خارج الجدار، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية من القدس، حيث يبلغ عدد التجمعات التي تم عزلها عن القدس من ضواحيها المحيطة، 30 تجمعًا فلسطينيًا تضم أكثر من 150 ألف فلسطيني، وتشكل حوالي 38% من سكان محافظة القدس (الإحصاء، 2013). في المقابل، تم توسيع حدود بلدية القدس لتضم مزيدًا من المستوطنات الإسرائيلية إلى حدود المدينة، وبالتالي تم حسم الصراع الديموغرافي في المدينة بشكل أولي وسريع نسبيا، لتصبح ذات أغلبية يهودية، حيث تقدر نسبة الفلسطينيين ونسبة اليهود في مدينة القدس بـ 37% و 63% على التوالي، (التفكجي، 2017). وتسعى سلطات الاحتلال إلى خفض هذه النسبة بحلول عام 2025 إلى 20% و 80%.

وبالتدقيق في خارطة حدود بلدية القدس، يتضح أنها تتوافق بشكل كبير مع مسار الجدار الفاصل، باستثناء منطقتين تقعان ضمن حدود البلدية، لكن جدار الفصل أخرجهما من المدينة، وهما مخيم شعفاط شرقا والأحياء المحيطة به، ومنطقة كفر عقب شمالا والأحياء المحيطة بها، حيث يُعتبر هذان التجمعان من أعلى تجمعات القدس كثافة سكانية وعمرانية، وينتشر فيهما البناء العشوائي، إذ تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن عدد سكان هذين التجمعين يزيد عن 50 ألف نسمة، تم عزلهم عن مدينة القدس من خلال الجدار الفاصل، لكن ما زال سكان هذين التجمعين يحتفظون بحقوق الإقامة في القدس، ويحملون الهويات المقدسية، بحكم أنهم يعيشون ضمن حدود بلدية القدس إداريا، لكنهم خارجها فيزيائيا وجغرافيا. وقد صرح بعض قادة الاحتلال بضرورة إخراج المزيد من ضواحي القدس خارج الجدار، لذلك قد يتم مستقبلا إجراء بعض التعديلات على حدود بلدية القدس من خلال جدار الفصل العنصري، لطرد المزيد من المقدسيين خارج المدينة.

 

خامسا: الجدار وتوسيع حدود مدينة “القدس الكبرى” على حساب أراضي الضفة الغربية

من الملاحظ أن بلدية القدس الإسرائيلية، وبالتخطيط المشترك مع القيادة السياسية لسلطات الاحتلال، استطاعت اختلاق ذرائع أمنية وسياسية من أجل خلق وقائع جديدة على الأرض الفلسطينية ضمن المشروع الاستيطاني الاحتلالي، ومن ضمنه جدار الفصل العنصري. فمن اللافت وجود تناغم كبير بين حدود بلدية القدس الإسرائيلية وبين جدار الفصل العنصري. وقد تعدى ذلك من خلال سياسة التوسع والتمدد، حيث تُظهر مخططات “القدس الكبرى” المطامع اليهودية، التي تنوي البلدية من خلالها ضم المزيد من الأراضي المحتلة، والمستوطنات الإسرائيلية المُقامة على أراضي الضفة الغربية.

حسب معهد الأبحاث التطبيقية “أريج”، فان مخطط “القدس الكبرى” يشمل أربعة تجمعات استيطانية إسرائيلية كبيرة، تسعى “إسرائيل” إلى ضمها مستقبلا ضمن حدود بلدية القدس، وهي: تجمع معاليه أدوميم شرقا، وتجمع جفعات زئيف شمالا، وتجمع غوش عتصيون جنوبا، وتجمع مودعين عيليت غرب رام الله (أريج، 2009). ومن أهم هذه التجمعات تجمع مستوطنات “غوش عتصيون” جنوب القدس وغرب بيت لحم، الذي يحتل الجزء الأكبر من مساحة الريف الغربي لمحافظة بيت لحم، والذي يضم 11 مستوطنة إسرائيلية يبلغ عدد سكانها حوالي 60 ألف مستوطن، يسكن معظمهم في مستوطنة “بيتار عيليت”، التي تُعد من أكبر مستوطنات الضفة الغربية. لقد قامت سلطات الاحتلال بعزل تجمع “غوش عتصيون” عن مدينة بيت لحم من خلال جدار الفصل العنصري، الذي توغل في عمق المدينة بمسافة هوائية تبعد حوالي 10 كيلو متر عن الخط الأخضر (خارطة رقم 3).

ومن الجدير بالذكر أن توسعة حدود بلدية القدس قد لا تشمل ضم قرى وأحياء فلسطينية جديدة، بل قد تشمل تعديلات عكسية، وذلك بإخراج أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين خارج حدود البلدية الإسرائيلية؛ للوصول إلى مدينة ذات أغلبية يهودية مطلقة.

 

خارطة رقم (4): مخطط القدس الكبرى التوسعي المتوقع مستقبلا. المصدر: معهد أريج 2012.

 

سادسا: الجدار والسيطرة على المواقع الدينية والتاريخية الهامة

لعل من أهم أهداف دولة الاحتلال، قيام دولة يهودية عاصمتها القدس، ولذلك ابتدعوا شعار “لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل”. والخطر الحقيقي اليوم بعد أن تمت السيطرة بشكل كامل على مدينة القدس، هو السيطرة على المسجد الأقصى المبارك. لكن اقتحام شارون للمسجد الأقصى عام 2000، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أربك مخططات الاحتلال في قلب القدس، مما دفعه إلى فكرة الجدار، وإقامة الفصل العنصري، لإحكام السيطرة على القدس.

من المعروف أن أهم المواقع الدينية والتاريخية في الأراضي الفلسطينية، توجد في مدن القدس وبيت لحم والخليل داخل حدود الضفة الغربية، حيث كانت هذه المدن، وما زالت، مقصد السياحة الدينية والتاريخية. لذا، كانت هذه المدن الثلاثة على أولوية الاستهداف الإسرائيلي من خلال جدار الفصل العنصري، والمشروع الاستيطاني على الأرض الفلسطينية.

في مدينة القدس، تتركز المواقع الدينية والتاريخية في البلدة القديمة وداخل أسوارها، وتشمل مساجد ومآذن، ومتاحف، وكنائس، ومدارس، وزوايا، وبوابات، وأهم هذه المواقع المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

أخذت القدس وضواحيها نصيب الأسد في خطط الاحتلال، فلم يستهدف الاحتلال مركز المدينة والمواقع الدينية والتاريخية فيها فحسب، بل وكانت كل المدينة وضواحيها حتى حدود رام الله شمالًا، وبيت لحم جنوبًا، وأطراف أريحا شرقًا، هدفًا للضم والسيطرة بالمستوطنات والجدار. ولهذا يبلغ طول جدار الفصل حول القدس 140 كيلو مترًا، ويقتطع ما مساحته 144 ألف دونم تشكل 42% من أراضي محافظة القدس، ويعزلها عن محيطها الفلسطيني. يبعد الجدار القائم في شمال القدس حوالي 9 كيلو مترًا عن الخط الأخضر، كما يبعد الجدار المخطط له شرق تجمع معاليه أدوميم في عمق الضفة الغربية حوالي 13 كيلو مترًا عن الخط الأخضر. وتتنوع طبيعة الجدار الفاصل حول القدس ما بين جدار اسمنتي مرتفع، وأسلاك شائكة، ومناطق مراقبة ومحمية بالأجهزة الإلكترونية والكاميرات، وجدار مخطط لم يتم استكماله. ولم تمنع التجمعات الفلسطينية الموجودة حول القدس من تنفيذ مخطط الجدار كما هو الحال في باقي المناطق الفلسطينية، حيث اضطر الاحتلال لضم العديد من هذه التجمعات الفلسطينية المحيطة بالقدس داخل الجدار الفاصل، بطريقة أربكت المعادلة الديموغرافية لديهم، لكن تم التعامل معها بطريقة أخرى من خلال رسم حدود جديدة لبلدية القدس؛ لتحقيق تفوق ديموغرافي يهودي (أريج، 2014).

أما مدينة بيت لحم، التي تتمتع بمكانة دينية مميزة لدى المسيحيين، ففيها كنيسة المهد وأديرة وكنائس ومواقع دينية أخرى، تقع في قلب المدينة بعيدًا عن الجدار الفاصل. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي قام بضم موقعين مهمين في بيت لحم إلى قائمة التراث الديني والتاريخي اليهودي، وهما مسجد بلال بن رباح، الذي يطلق عليه الاحتلال قبة راحيل، والذي يعتقدون بأن فيه قبر راحيل أم النبي يوسف عليه السلام، وجبل “هيروديون” المعروف بجبل الفرديس. في موقع مسجد بلال بن رباح على المدخل الشمالي لبيت لحم، تم رسم مخطط الجدار بشكل معقد، حيث يدخل ملتويًا في أطراف المدينة؛ ليضم هذا الموقع الهام على بُعد حوالي 4 كيلو متر من الخط الأخضر (خارطة رقم 5). أما في جبل “هيروديون”، الواقع شرق بيت لحم على بُعد حوالي 15 كيلو متر عن الخط الأخضر، فلم يستطع جدار الفصل أن يضمه، لكن تم تشييد قاعدة عسكرية وتجمع استيطاني كامل بالقرب منه، يتكون من مستوطنات نيكوديم وتقوع والديفيد.

خارطة رقم (5): الجدار الفاصل شمال بيت لحم الذي يضم مسجد بلال بن رباح، الذي يطلق عليه الاحتلال “قبر راحيل”، إلى منطقة القدس ويعزلها خلف الجدار.   المصدر: وزارة الحكم المحلي 2018.

 

أما مدينة الخليل، التي تُنسب لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، ففيها المسجد الإبراهيمي الذي يحوي، حسب بعض الاعتقادات، قبور أربعة أنبياء، هم النبي إبراهيم وزوجته، والنبي إسحق وزوجته، والنبي يعقوب، والنبي يوسف، عليهم جميعا الصلاة والسلام. لم تسلم مدينة الخليل، وخاصة بلدتها القديمة، من الاستهداف الإسرائيلي، حيث كانت المدينة الثانية بعد القدس في مخطط الفصل، فتم ضم المسجد الإبراهيمي للمواقع الدينية والتاريخية الإسرائيلية، وتم تقسيمه بين المسلمين واليهود، وفرض سيطرة عسكرية كاملة عليه، وإحاطته بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية، وخاصة مستوطنة كريات أربع.

إن وجود المسجد الإبراهيمي في قلب مدينة الخليل، وهي أكبر تجمع سكاني في الضفة الغربية، وبسبب بعده عن الخط الأخضر بحوالي 15 كيلو متر، وإحاطته بعدد كبير من القرى الفلسطينية ذات الكثافة السكانية والعمرانية العالية، لم يستطع الاحتلال ضم هذا الموقع بجدار الفصل، فكانت خطة الخليل مختلفة عن باقي المدن، فقد تنبه لها الاحتلال مبكرا من خلال اتفاقية الخليل، التي فرضت تقسيمًا معقدًا ببروتوكول خاص يقسم المدينة إلى قسمين: (H1) يتبع للسلطة الفلسطينية،  و (H2) يتبع لسلطات الاحتلال. في منطقة (H2) من المدينة، تم إخلاء الكثير من الفلسطينيين وطردهم، وفرض السيطرة العسكرية الكاملة، وتعزيز الوجود الاستيطاني اليهودي فيها. كما تم تشييد ممرات ومنافذ إلى قلب المدينة، محاطة بجدار وأسلاك شائكة غير متواصلة، ترتبط بشبكة طرق تؤدي إلى القدس والمناطق المحتلة عام 1948.

 

سابعا: الجدار والسيطرة على مرتفعات الجبال لتوفير الحماية

تمثل الضفة الغربية بالنسبة لفلسطين التاريخية، المنطقة الجبلية المرتفعة، المطلة على المناطق الساحلية غربًا، والمناطق السهلية شمالًا، ومناطق الأغوار شرقًا، والمنطقة الصحراوية جنوبًا. ويبلغ أعلى ارتفاع في الضفة في منطقة الخليل حوالي 1025 مترًا فوق سطح البحر، ويزيد الارتفاع في جبال القدس وبيت لحم ورام الله عن 800 مترٍ فوق سطح البحر. لذلك كان هذا الموقع المركزي الاستراتيجي للضفة الغربية، وما زال، هدفًا مهمًا للسيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. وتؤمن قيادة الاحتلال، ومن منظور استراتيجي عسكري، أنه من الضروري إخضاع هذه المناطق للسيطرة الإسرائيلية الدائمة، لتوفير حماية تامة للعمق الإسرائيلي المنخفض عن هذه المنطقة في الوسط والشمال والجنوب. وقد تركز المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية على رؤوس الجبال والتلال، ثم جاء الجدار الفاصل ليحمي هذه المرتفعات الجبلية، ويفصلها عن الأرض الفلسطينية، ويضمها للأراضي المحتلة عام 1948. يُضاف إلى ذلك أن النصوص الدينية التوراتية توصي باختيار رؤوس الجبال كأماكن للسكن، حيث كان هذا الاعتقاد، إضافة إلى الدافع الأمني، هو الموجه الأساسي للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية.

حسب مؤسسة بتسيلم الإسرائيلية، فإن مكتب المدعي العام الإسرائيلي برر تغيير مسار الجدار عن الخط الأخضر بسبب أوضاع الطبوغرافيا. وتنقل عنه المؤسسة قوله إن مرور الجدار بالكامل على طول الخط الأخضر”لن يمكن من حماية الجنود الذين يحرسون الجدار، والذين سيجدون أنفسهم في معظم الحالات في موضع طبوغرافي أدنى” (محكمة العدل العليا الإسرائيلية). وكان أرئيل شارون قد قال في نوفمبر 1998 عندما كان وزيرًا للخارجية الإسرائيلية: “على كل شخص أن يتحرك بسرعة، وينتزع ما استطاع من رؤوس التلال لتوسيع المستوطنات، لأن كل شيء سنأخذه الآن سيبقى لنا، وكل شيء سنتركه سيأخذوه هم” (BBC، 2018). (ترجمة بتصرف)

 

صورة رقم (2): جدار الفصل العنصري شرق القدس. المصدر: الجزيرة نت

وهناك العديد من الأمثلة على توجيه مسار الجدار نحو المناطق الجبلية المرتفعة، حتى في أماكن لا توجد فيها مستوطنات. ففي محافظة جنين التي تقل فيها المستوطنات، يتغول جدار الفصل في منطقة قرية جلبون وقرية المطلة شرق المحافظة؛ للسيطرة على التلال الشرقية لها، مبتعدًا عن الخط الأخضر، ويتغول في منطقة أم الريحان غرب المحافظة؛ للسيطرة على التلال الغربية لها، مبتعدًا عن الخط الأخضر أيضا. وفي المناطق المحتلة شرق القدس وغرب بيت لحم، عمل جدار الفصل على ضم مرتفعات استراتيجية تمنح الأمان للتواجد العسكري والاستيطاني في هذه المناطق. لذلك يتضح أن الجدار الفاصل كان يتم تخطيطه بأسلوب يراعي، بشكل كبير وقدر الإمكان، ارتفاع المناطق التي تتم السيطرة عليها.

 

ثامنا: الجدار والسيطرة على الأراضي الزراعية الخصبة وضمها للنفوذ الإسرائيلي

تعتبر المنطقة الغربية من الضفة، والتي تفصل المنطقة الجبلية عن المناطق الساحلية الفلسطينية، من أهم المناطق الخصبة، التي تضم الأراضي الزراعية والأشجار والغابات، حيث تمتاز بكثافة الأشجار والخضرة الدائمة والأجواء النقية. ومن المعلوم أن الإنسان بطبيعته يميل إلى اختيار هذه المناطق للسكن فيها، فكانت هذه المناطق هدفا للمشروع الاستيطاني، ومن ثم للجدار الفاصل، الذي جاء ليضم المستوطنات الإسرائيلية، وما يحيط بها من أراضٍ زراعية خصبة.

تبلغ مساحة المنطقة المعزولة خلف الجدار حوالي 733 كيلو متر مربع، تشكل الأراضي الزراعية والغابات حوالي 48% منها، أي ما يعادل حوالي 348 كيلو متر مربع. وتعتبر الأراضي الزراعية الواقعة خلف الجدار الفاصل في منطقة التماس، مناطق مهددة بالمصادرة، وذلك من خلال التضييق على وصول المزارعين إليها، حيث يُطلب من المزارعين الحصول على تصاريح من سلطات الاحتلال، التي تتحكم بالمرور من خلال بوابات خاصة على طول الجدار. وقد رصدت مؤسسة “أوتشا” موافقة الاحتلال على 46% من التصاريح خلال عام 2015، و 58% خلال عام 2016 في شمال الضفة الغربية. لكن الأمر الأخطر في هذا الموضوع، هو طلب سلطات الاحتلال إثباتات ملكية للأراضي الواقعة خلف الجدار، كشرط للحصول على التصاريح، فتتعرف سلطات الاحتلال على ثغرات ملكية الأراضي عند الفلسطينيين، وتقوم بتوظيف ذلك لخدمة المشروع الاستيطاني. وحسب “أوتشا”، فإن غالبية الأراضي في الضفة الغربية غير مسجلة رسميا، وانتقلت ملكيتها عبر الأجيال بالطرق التقليدية (أوتشا، 2017).

ومن الأمثلة على المناطق الزراعية الخصبة والمعزولة خلف الجدار، مناطق غرب القدس وغرب بيت لحم، وهي من أكثر مناطق الضفة الغربية تضررًا من المشروع الاستيطاني، حيث تشير البيانات إلى أن مساحة الأراضي الزراعية والغابات في المنطقة المعزولة خلف الجدار في محافظة القدس، تبلغ حوالي 87 ألف دونم، وتشكل 60% تقريبا من إجمالي مساحة المنطقة المعزولة، والبالغة 144 ألف دونم (أريج، 2014). أما في محافظة بيت لحم، فتبلغ مساحة الأراضي الزراعية والغابات في المنطقة المعزولة خلف الجدار، حوالي 109 آلاف دونم، وتشكل 62% تقريبا من مساحة المنطقة المعزولة، والبالغة 176 ألف دونم (أريج، 2010)، وذلك بحسب تحليل استخدام الأراضي والغطاء النباتي لمنطقة التماس.

ومن الأمثلة الأخرى على الأراضي الزراعية المعزولة، منطقة أم الريحان غرب جنين، حيث تعد أكبر محمية طبيعية في الضفة الغربية، وهي منطقة حرجية تبلغ مساحتها حوالي 14 ألف دونم، وقد تم عزلها بالكامل خلف الجدار الفاصل.

 

تاسعا: الجدار والسيطرة على المناطق الغنية بمصادر المياه لا سيما الحوض المائي الغربي

من المعلوم أن مرتفعات الضفة الغربية تقع فوق ثلاثة أحواض مياه جوفية، هي الحوض الشرقي، والحوض الغربي، والحوض الشمالي الشرقي. وإضافة إلى السيطرة الإسرائيلية على 85% من المياه الجوفية، بحكم الاحتلال واتفاقيات أوسلو وما تبعها، فإن جدار الفصل العنصري رسم حدودًا واضحة للسيطرة على الأرض الفلسطينية، وما تحويه من مصادر طبيعية، لا سيما في المنطقة الغربية للضفة، حيث أصبح واضحًا أن حوض المياه الغربي كان هدفًا استراتيجيًا للاحتلال الإسرائيلي، من خلال المشروع الاستيطاني وخطة العزل. يُذكر أن هذا الحوض المائي هو الأكبر في فلسطين، ويحوي مخزونًا يقدر بحوالي 362 مليون كوب، أي ما يعادل 53% من المياه الجوفية. وتشير البيانات إلى أن جدار الفصل سيعزل خلفه حوالي 50 بئرًا، معظمها في منطقتي طولكرم وقلقيلية (مركز المعلومات الوطني، 2011).

ومن الأمثلة على تغيير مسار الجدار الفاصل تبعا لمصادر المياه، قيام جيش الاحتلال قبل عامين بتحريك حاجز الولجة قرب القدس نحو الغرب مسافة 1.5 كيلو متر في عمق أراضي الولجة؛ وذلك من أجل ضم عين ماء مهمة، هي “عين الحنية”، والتي تعتبر ذات أهمية تاريخية ودينية تتبع لقرية الولجة، وبالتالي سيتم ضم هذه العين إلى المنطقة المعزولة خلف الجدار، وحرمان الفلسطينيين من الوصول إلى هذه العين الغنية بالمياه (وكالة معا، 2016).

 

عاشرا: الجدار لحماية الطرق الرئيسة وشبكة المواصلات

تشكل شبكة الطرق عنصرًا مهمًا للبنية التحتية للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، حيث استخدمها الاحتلال كرابط حيوي بين المستوطنات نفسها، وبينها وبين الأراضي المحتلة عام 1948. وقد استطاعت سلطات الاحتلال السيطرة على شبكة الطرق الرابطة بين المدن الفلسطينية، وقامت بتأهيل كثير منها، ومن ثم قامت باستغلالها لتنقل المستوطنين، في ظل وجود حواجز عسكرية ودوريات تعيق أو تمنع تنقل الفلسطينيين.

وكجزء من حماية هذه الطرق، خططت سلطات الاحتلال جدار الفصل العنصري في بعض المناطق؛ ليوفر حماية لشبكة الطرق التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية. ومن الأمثلة على ذلك شارع (60)، الذي يربط بين القدس وبيت لحم، ويخضع للسيطرة الإسرائيلية، حيث يمتد جدار الفصل العنصري بمحاذاته لمسافة تقارب 5 كيلو متر بالقرب من قرية الخضر غرب بيت لحم، وقد تم تصميم الجدار الإسمنتي فيه بطريقة تختلف عن باقي المناطق الفلسطينية، يكون فيها مرتفعًا ومنكسرًا في أعلاه؛ لمنع الرؤية الأفقية بشكل أكبر، وتوفير حماية آمنة للمركبات الإسرائيلية من رشقات الحجارة.

وعلى نفس الشارع الحيوي رقم (60)، أقامت سلطات الاحتلال نفقين يصل بينهما جسر في مدينة بيت جالا، وبطول يبلغ حوالي 2 كيلو متر. ولحماية هذه الشبكة من الطرق المؤدية إلى القدس، توغل الجدار الفاصل في عمق بيت جالا على جانبي هذا المقطع من شارع رقم (60)، وبشكل خاص ومرتفع لحماية المركبات الإسرائيلية (انظر الخارطة رقم 6 والصورة رقم 3 أدناه).

وفي محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية، تم تخطيط جدار الفصل ليحيط بشارع رقم (5) الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، والمستوطنات القائمة على جانبيه، حيث يربط هذا الشارع وسط الضفة الغربية وشمالها قرب مستوطنة “أريئيل” مع مدينة يافا وتل أبيب، ويمتد بطول حوالي 18 كيلو متر من منطقة كفل حارس وحتى الخط الأخضر.

وكجزء من استهداف منظومة المواصلات، استهدف تخطيط الجدار الفاصل مطار قلنديا شمال القدس، حيث تم ضمه إلى داخل القدس، وعزله عن الضفة الغربية، رغم عدم استخدامه كمطار، وإنما كقاعدة عسكرية إسرائيلية.

خارطة رقم (6): الجدار الفاصل (بالأحمر) حول بيت جالا يحمي شارع 60 (بالأصفر والأسود المنقط) المؤدي إلى القدس من الجانبين. المصدر: معهد أريج.

صورة رقم (3): الجدار الفاصل حول بيت جالا يحمي شارع (60) المؤدي إلى القدس من الجانبين. المصدر: الجزيرة نت.

 

خاتمة

ناقشت هذه الدراسة أهم الدوافع الكامنة وراء اختيار سلطات الاحتلال لمسار الجدار الفاصل بين الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948، الذي جاء في معظمه بعيدًا عن الخط الأخضر. وقد أظهرت الدراسة أن الذرائع الأمنية والعسكرية كانت الادعاء الرئيس المعلن من قبل سلطات الاحتلال لإقامة الجدار. لكنها استطاعت تحقيق أهداف استراتيجية أخرى من خلال تشييد هذا الجدار، منها ضم أكبر عدد ممكن من المستوطنات الإسرائيلية وسكانها خلفه، وقضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية في محيط المستوطنات. ولم تسلم المواقع التاريخية والدينية الهامة من التخطيط الإسرائيلي للجدار وخطة العزل، لا سيما في مناطق القدس وبيت لحم. وقد ناقشت الدراسة محددات أخرى هامة تم أخذها بعين الاعتبار في خطة العزل، منها: السيطرة على المرتفعات الجبلية كهدف استراتيجي دائم، والسيطرة على المناطق الزراعية الخصبة، والمناطق الغنية بمصادر المياه ضمن منطقة التماس، وإخراج المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية، لا سيما المحيطة بمدينة القدس، وتوسيع حدود مدينة القدس الكبرى ضمن حدود الضفة الغربية، وضم أكبر عدد ممكن من مستوطنات شرق القدس وشمالها وجنوبها ضمن حدود البلدية الإسرائيلية، وحماية الطرق الرئيسة وشبكات المواصلات في بعض المناطق. تخلص الدراسة إلى أن اختيار المخططين الإسرائيليين لمسار الجدار الحالي، كان دقيقا جدا، وجاء بعد دراسات معمقة من قبل خبراء لكل حالة، وكل منطقة من مناطق الضفة الغربية؛ من أجل الوصول إلى المسار الحالي، الذي يخنق معظم الضفة الغربية، ويقطع أوصالها بشكل يخالف كل القوانين والأعراف الدولية.

 

المصادر:

1.أريج/ معهد الأبحاث التطبيقية. (2009). مخطط جدار العزل العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تم الاسترداد من   www.arij.org

http://www.arij.org/files/admin/2009/israeli%20segregation%20wall%20plan.pdf       

2.أريج/ معهد الأبحاث التطبيقية. (2016). تقرير: 45% من مساحة المستعمرات الإسرائيلية تم بناؤها على أراضٍ فلسطينية ذات ملكية خاصة. تم الاسترداد من www.poica.org

 http://poica.org/2016/11/49-%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8      %A7%D9       %84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%85-%D8%A8%D9%86     /

3.أريج/ معهد الأبحاث التطبيقية. أمر عسكري جديد لبناء مقطع من جدار الفصل العنصري شرق تجمع معاليه أدوميم. تم الاسترداد من   www.poica.org

4.الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. (2013). المسح الاجتماعي لمحافظة القدس. تم الاسترداد منwww.pcbs.gov.ps  http://www.pcbs.gov.ps/Downloads/book2020.pdf

5.بتسيلم/ مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. (2005).  تحت غطاء الأمن: توسيع المستوطنات في ظل الجدار الفاصل. تم الاسترداد من www.btselem.org

https://www.btselem.org/download/200512_under_the_guise_of_security_eng.pdf     

6.بتسيلم/ مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. (2017). المستوطنات. تم الاسترداد من www.btselem.org

https://www.btselem.org/arabic/settlements        

7.جمال جمعة. (2011). الجدار وتهويد القدس، مجلة الدراسات الفلسطينية، 22، 85.

http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/10887.pdf       

8.خليل التفكجي. (2017). الصراع الديمغرافي في مدينة القدس. الجزيرة نت. تم الاسترداد من   www.aljazeera.net    http://www.aljazeera.net/news/alquds/2017/6/5/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3     

9.محكمة العدل العليا الإسرائيلية. (2004). 4825/04، محمد خالد عليان وآخرون ضد رئيس الحكومة وآخرون، لائحة جوابية، بند 469.

https://www.marefa.org/%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D8%B1#cite_note-5

10.مركز المعلومات الوطني الفلسطيني. (2011). جدار الفصل العنصري: حقائق وأرقام. تم الاسترداد من   www.wafainfo.ps

http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=4981     

11.مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية/ أوتشا. (2013). الأثر الإنساني للجدار. تم الاسترداد من www.ochaopt.org

https://www.ochaopt.org/sites/default/files/ocha_opt_barrier_factsheet_july_2013_arabic.pdf      

12.مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية/ أوتشا. (2018). جدار الضفة الغربية. تم الاسترداد من www.ochaopt.org

https://www.ochaopt.org/theme/west-bank-barrier      

13.مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية/ أوتشا. (2017). قيود متزايدة على الوصول إلى الأرض الزراعية خلف الجدار. تم الاسترداد من   www.ochaopt.org https://www.ochaopt.org/ar/content/increased-restrictions-access-agricultural-land-behind-barrier     

14.وكالة معا الإخبارية. (2016). مخطط احتلالي لنقل حاجز الولجة ومصادرة “عين الحنية”. تم الاسترداد من   

https://maannews.net/Content.aspx?id=882511     

15.وليد زايد. (2018). الجدار العنصري حول القدس: واقعه ودوافعه. مركز رؤية للتنمية السياسية. تم الاسترداد من www.vision-pd.org

https://www.vision-pd.org/AR/Articles/The-Apartheid-Wall-around-Jerusalem      

16. ARIJ. (2013). Hiding Behind its Pseudo Democracy- Israel Captures More than 40% from Palestinian Lands Using Twisted Methods. Retrieved from www.poica.org
http://poica.arij.org/preview.php?Article=5189      

17. ARIJ. (2014). Locality Profiles and Needs Assessment for Jerusalem Governorate. Retrieved from www.arij.org

https://www.arij.org/files/arijadmin/IDRC/publications/Jerusalem_VProfile_EN.pdf      

18.ARIJ.(2010). Locality Profiles and Needs Assessment in the Bethlehem Governorate. Retrieved from www.arij.org

http://www.arij.org/files/admin/1Locality_profiles_and_needs_assessment_in_Bethlehem_Governorate.pdf     

19.BBC News. In quotes: Ariel Sharon. Accessed July,2018

https://www.bbc.com/news/world-middle-east-11576714     

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى