كيف تنظر “إسرائيل” إلى مسألة مغادرة الرئيس عباس للمشهد السياسي؟

كريم قرط[1]

تولي مراكز الأبحاث والإعلام “الإسرائيلي” مسألة مغادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للمشهد السياسي كثيرًا من الأهمية، ففي كل مرة تتوارد فيها الأنباء عن تدهور الوضع الصحي للرئيس عباس، يسارع الإعلام “الإسرائيلي” ومراكز الأبحاث إلى وضع تقييمات وسيناريوهات لما سيترتب على رحيله في الساحة الفلسطينية، وانعكاس ذلك على الاحتلال “الإسرائيلي”.

عقد مركز “بيغن-السادات” للأبحاث الاسراتيجية في عام 2016 مؤتمرًا عريضًا تحت عنوان “اليوم الذي سيأتي بعد أبي مازن“، بمشاركة عدد من الشخصيات الأكاديمية والإعلامية، لنقاش مآلات الوضع الفلسطيني بعد رحيل عباس، وتأثيرها على “إسرائيل”، ويبدو أن هذه المسألة تؤرق الاحتلال “الإسرائيلي” بشكل جدي، فالاحتلال ومراكز أبحاثه ومفكروه وإعلامه بدأوا بمناقشة هذه المسألة منذة عدة سنوات بشكل مستمر.

سارع الإعلام “الإسرائيلي” بعد توارد الأنباء عن تدهور الوضع الصحي للرئيس عباس وصدور إشاعات حول وفاته إلى تناول هذه الإشاعة وتحليلها ووضع السيناريوهات التي ستحدث على أثرها، وفي ذات الإطار أجرى الباحث في معهد دراسات الأمن القومي “الإسرائيلي” الجنرال السابق في جيش الاحتلال “الإسرائيلي” “أدوي ديكيل” تقدير موقف لاحتمالية وفاة الرئيس الفلسطيني، والسيناريوهات المتوقعة على أثرها بعنوان “اليوم التالي لعباس: سيناريوهات محتملة ودلالات استراتيجية “لإسرائيل“”، وهذه الورقة هي تطوير وبناء على ورقة تقدير موقف سابقة للباحث “ميخائيل ميلشتاين” أصدرها المركز بتاريخ 15 كانون الأول 2020 بعنوان “اليوم التالي: أبو مازن هنا بالفعل“.

التحديات:

يستهل “ميلشتاين” ورقته باستعراض الأزمات التي تعيشها القضية الفلسطينية، حيث يرى أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من تحقيق أي من الأهداف التي يسعون وراءها، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية، علاوةً على استمرار الانقسام الفلسطيني، وتجاهل العرب للقضية الفلسطينية وانجرارهم إلى التطبيع مع إسرائيل، وعدم امتلاك الفلسطينين لأية رؤية جماعية للتعامل مع الأزمات الحالية.

إن وفاة الرئيس في ضوء هذه الأزمات السابقة، ستعمق الأزمات الفلسطينية، إذ يرى “أودي ديكل” أن مغادرة عباس للمشهد السياسي بسبب الوفاة أو بأي سبب آخر سيجر موجة من الصدامات في الساحة الفلسطينية، لأنه يسيطر على أعلى ثلاثة مناصب في الساحة الفلسطينية: رئاسة منظمة التحرير، السلطة الفلسطينية، وحركة فتح، مع عدم وجود أي وريث معين أو منتخب لهذه المناصب التي تتصارع عليها عدد من الشخصيات في السلطة الفلسطينية وحركة فتح.

لا تنعزل “إسرائيل” عن تأثيرات الأحداث على الساحة الفلسطينية، وخاصة فيما يتعلق بتغير النظام السياسي الفلسطيني، فبحسب “ميلشتاين” فإن هناك ثنائية في النظرة “إسرائيلية” إلى الرئيس عباس، فلا هو شريك سلام، ولا هو عدو لإسرائيل، من حيث التزامه بالحل السلمي للصراع ورفض الكفاح المسلح، ولكنه في المقابل لم يقم باتخاذ أي قرارات تاريخية بالدخول في مساومة حول القضايا الأساسية للصراع، وخاصة القدس واللاجئين، ويضيف “ميلشتاين” أنه تبعًا لهذه الثنائية فقد أصبح أبو مازن يشكل ذخرًا وعبئا على “إسرائيل”،  وهذا ما يستدعي نقاش التحديات والفرص التي ستنتج عن وفاته .

يرى “ميلشتاين” أن من بين التحديات الاستراتيجة التي تواجه “إسرائيل” في الفترة الحالية الاستعداد لليوم التالي لرحيل عباس، فهذه المسألة لا تنعكس على الساحة الفلسطينية فقط، وإنما تؤثر بشكل جدي على الوضع الاستراتيجي “لإسرائيل”، فمن المحتمل أن يؤدي رحيل عباس في هذه المرحلة إلى إدخال النظام الفلسطيني في حالة من عدم اليقينية؛ بدون آلية واضحة لانتقال السلطة؛ وبدون وريث معين لرئاسة النظام الفلسطيني؛ ووجود احتمالية حدوث صراع قوى حول خلافته بين قيادات حركة فتح، وحول زعامة المؤسسات التي يتزعمها حاليًا، إلّا أن التنافس الحقيقي حسب “ديكيل” سيكون على رئاسة السلطة الفلسطينية، التي تمتلك المال والقوة على حساب منظمة التحرير التي فقدت مكانتها لحساب السلطة، ولذلك فإن التنافس سيكون بين قيادات حركة فتح على رئاسة السلطة الفلسطينية.

يضاف إلى ما ورد سابقا أن هناك احتمالية لتعزيز الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي، عدا عن احتمالية محاولة حركة حماس استغلال الفرصة لتوطيد موقعها في النظام الفلسطيني، فبالنسبة لحماس، ستشكل احتمالية حدوث اضطراب في الساحة الفلسطينية عقب رحيل الرئيس عباس فرصة تاريخية لها لتحقيق أهدافها، المتمثلة بالانضمام إلى منظمة التحرير والسيطرة عليها لاحقًا، والدخول في السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، وتوطيد وجودها في الساحة الفلسطينية، ومحاولة الاستيلاء على قيادة النظام الفلسطينية، بدلًا عن حركة فتح.

وبناء على هذه التحديات، وما سيؤول إليه الوضع، فإن “لإسرائيل”- كما يوضح “ديكيل”- عددًا من المصالح في الساحة الفلسطينية، وفي الضفة الغربية تحديدًا، تتمحور حول الرغبة “الإسرائيلية” العامة بالحفاظ على الوضع القائم في الضفة الغربية بعد رحيل الرئيس عباس، وأهم هذه المصالح:

  1. الحفاظ على الاستقرار والهدوء الأمني في الساحة الفلسطينية.
  2. وجود سلطة فلسطينية مسؤولة وفاعلة؛ تشكل عنوانًا واحدًا لتحديد قواعد اللعبة مع “إسرائيل”.
  3. الحفاظ على ظروف اقتصادية وبنية تحتية ونوعية حياة أفضل للسكان الفلسطينيين كونها عامل استقرار.
  4. الحد من تأثير فصائل المقاومة والقوى الإقليمية المناوئة “لإسرائيل” على المشهد الفلسطيني.
  5. تقوية العناصر التي تعترف “بإسرائيل” والمنخرطة في تسوية سياسية معها.

السيناريوهات :

يضع “مليشتاين” ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمآلات الوضع بعد رحيل الرئيس عباس، وهي:

  1. توحد القوى المتصارعة لوراثة الرئيس عباس في مسعى لتثيبت حكم فتح، مرحليًا على الأقل، حتى تتولى شخصية معينة خلافة الرئيس عباس.
  2. تطور الصدامات المسلحة بين المعسكرات المتصارعة داخل حركة فتح، وهذا الأمر سيكون صعبًا وطويلًا، وسيؤدي إلى تقويض الحكم الفلسطيني، ويخلق حالة من الفوضى، وسيقم الضفة الغربية إلى “كانتونات” تحكمها زعامات محلية أو ميليشات مسلحة.
  3. توصل الفلسطينيون إلى تحقيق مصالحة حقيقة بعيدة الأمد، يترتب عليها إجراء انتخابات عامة وانخراط حماس في القيادة الفلسطينية ومؤسسات الحكومة.

تعنى سيناريوهات “ميلشتاين” بالساحة الفلسطينية بالأساس، ولكن “ديكيل” يضع ثلاثة سيناريوهات لتأثير وفاة الرئيس عباس على “إسرائيل” اعتمادًا على طبيعة السلطة الفلسطينية التي ستنتج، وهي على النحو التالي:

  1. سلطة فلسطينية فاعلة ومتعاونة مع “إسرائيل”: بمعنى بقاء الوضع كما كان عليه قبل رحيل الرئيس عباس، وتعزيز قدرة السلطة على أداء دورها الخدماتي.
  2. سلطة فلسطينية معادية “لإسرائيل”: بمعنى أن تظل السلطة الفلسطينية قادرة على أداء دورها ومهامها، ولكن في ظل سيطرة عناصر المعارضة عليها ورفضها التعاون مع “إسرائيل”.
  3. انهيار السلطة الفلسطينية: بحيث تفقد احتكارها للقوة كسلطة مركزية وتفقد قدرتها على أداء مهامها كسلطة مسؤولة عن الشعب الفلسطيني.

كيف يمكن “لإسرائيل” مواجهة تحدي رحيل عباس؟

لا يرجّح أي من الباحثين أي سيناريو من السيناريوهات السابقة، ولكن “ديكيل” يضع عددًا من المتغيرات الدالة على طبيعة السيناريو الذي سنكون بصدده، ويضمّن هذه المتغيرات دعوات للحكومة “الإسرائيلية” لمحاولة ممارسة دورها في توجيه المتغيرات حسب مصلحتها، وأهم هذه المتغيرات:

  1. قدرة القيادة الجديدة على الحصول على الشرعية، وهذه الشرعية تنقسم حسب “ديكيل” إلى شرعية فلسطينية داخلية، والشرعية الممنوحة من المجتمع الدولي والعرب و”إسرائيل”.
  2. القبول الفلسطيني الداخلي لخليفة الرئيس عباس، حيث إن عملية انتقال السلطة يمكن أن تحدث بعدة طرق: إجماع فلسطيني وطني أو إجماع فصائل منظمة التحرير، أو بالقوة، أو بالانتخابات العامة، وسيعتمد القبول الداخلي على الطريقة التي ستنتقل فيها السلطة، وفي حالة عدم وجود قبول داخلي للرئيس الجديد، فإنه سيكون بلا شرعية، ما سيؤثر على الاستقرار الداخلي.
  3. قدرة السلطة الفلسطينية على ممارسة الحكم، والحفاظ على الاستقرار الحكومي، والعمل على تحسين الوضع الاقتصادي ونوعية الحياة للسكان الفلسطينيين.
  4. القدرة على إدخال الجيل الشاب في السلطة الفلسطينية وتحسين أوضاعه، حتى لا يظل عامل تمرد وعدم استقرار.
  5. العامل الخارجي: يستطيع العامل الخارجي التأثير على استقرار السلطة من خلال تقديم الدعم والمساعدة للسلطة الفلسطينية ومنحها الشرعية، أو عدمه.
  6. السياسة “الإسرائيلية”: حيث تستطيع “إسرائيل” الحفاظ على استقرار الساحة الفلسطينية من خلال التعامل بإيجابية مع السلطة الفلسطينية، ودعمها والاعتراف بشرعيتها، والمساهمة في تحسين الظروف الحياتية للفلسطينيين.
  7. المصالحة الفلسطينية: التي تعني بالنسبة “لإسرائيل” قدرة السلطة على العودة إلى قطاع غزة، والسيطرة على سلاح المقاومة بشكل أساسي، أي مصالحة تصب في مصلحة “إسرائيل”.

ويبدو أن “ديكيل” أراد بهذا السرد أن يضع جملة توصيات للحكومة “الإسرائيلية” من خلال استجابتها للمتغرات المختلفة، كما يساهم “ميلشتاين” بدوره بوضع جملة من التوصيات المباشرة للحكومة “الإسرائيلية” حتى تتجنب الوقوع في أسوأ السيناريوهات، إذ يرى أن:

  1. على “إسرائيل” أن تضمن الاستقرار في المجال العام والاقتصادي في الضفة الغربية، وهي السياسة التي تمكنت عبرها من الحفاظ على هدوء نسبي في الضفة طيلة العقد الماضي.
  2. على “إسرائيل” أن تحذر من الانخراط في الساحة الفلسطينية والتدخل في عملية اختيار وريث الرئيس عباس، ولكن في المقابل عليها أن تحافظ على مراقبة مكثفة للتطورات في الساحة الفلسطينية.
  3. على “إسرائيل” أن تتدخل بشكل مباشر لمنع سيطرة العناصر التي تشكل لها خطرا جديًا على الضفة الغربية، وخاصة حركة حماس.
  4. على “إسرائيل” أن تنسق خطواتها مع الفاعلين الإقليميين المعنيين بترتيبات الوضع بعد رحيل عباس؛ للحفاظ على الاستقرار في الساحة الفلسطينية، مثل مصر والأردن ودول الخليج.
  5. على “إسرائيل” التعاون مع إدارة “بايدن” في سبيل الحفاظ على الاستقرار في الساحة الفلسطينية، في ضوء أن الفلسطينيين والرئيس عباس بالتحديد ينظرون إليها بإيجابية، ويتوقعون منها أن تمارس دورًا أكثر إيجابية في الصراع.

الخاتمة:

يختتم “ميلشتاين” ورقته بالقول: إن المستقبل سينبني على القرار الذي على الفلسطينيين اتخاذه، ويضع عدة تساؤلات مفتوحة: هل سيختار قادة السلطة الفلسطينية وحركة فتح الاتحاد أم الصراع المسلح على السلطة؟ هل سيدرك القائد أو القادة الجدد أن اختيارهم للمواجهة مع “إسرائيل” سيجعل حقبة حكمهم قصيرة، وأن بقاءهم يعتمد على احتفاظهم بعلاقات وثيقة مع “إسرائيل”؟ وهل سيكون الجيل الجديد الذي سيتولى السلطة جيلًا متحررًا من أفكار الماضي المطالبة بدولة فلسطينية، ولو كانت بحجم ومكانة متواضعة؟

يرى “ملشتاين” أن الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي ستحدد موقف “إسرائيل”، ويختتم بجملة مبهمة: “إذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة حسب ما تريد “إسرائيل”، فإن عليها أن تتخذ قرارا وطنيًا تاريخيًا في مسألة الفصل بين الشعبين”،  وهنا يبدو أنه يلمّح إلى فكرة الدولة الواحدة، بناءً على اعتباره بأن حل الدولتين قد أصبح من الماضي البالي.

تدور الكتابات “الإسرائيلية” في المحصلة بشكل عام وهاتان الورقتان بشكل خاص حول مسألة أساسية، وهي الحفاظ على الاستقرار في الضفة الغربية، والاستقرار في هذا السياق لا يحيل إلًا إلى الاستقرار الأمني “لإسرائيل” ومستوطنيها، وعدم تحول الضفة الغربية إلى ساحة مواجهة على غرار قطاع غزة، دون أن يعني ذلك إنهاء احتلال الضفة الغربية وإزالة المستوطنات، إذ يبدو أن حقبة الرئيس عباس كانت مريحة “لإسرائيل” لأنها تمكنت خلالها من الحفاظ على الوضع القائم، والمقصود بالوضع القائم هو الحفاظ على التعاون بين السلطة الفلسطينية والاحتلال في القضايا الأمنية بشكل خاص.

تخشى “إسرائيل” بناءً على ما سبق من تدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية بعد رحيل الرئيس عباس، وذلك إما نتيجة الصراع بين قيادات السلطة الفلسطينية، أو نتيجة سيطرة الفصائل المعارضة على الضفة الغربية، والملاحظ أن الاحتلال “الإسرائيلي” معني باحتفاظ السلطة الفلسطينية على قدرتها على أداء مهامها وفاعليتها وقدرتها على تنفيذ مشاريع التنمية؛ وذلك لأن قدرة السلطة على أداء دورها يشكل عامل استقرار مهم في الساحة الفلسطينية، بالإضافة إلى استمرار تعاونها الأمني والسياسي مع الاحتلال “الإسرائيلي”.

[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، ومتخصص بالشأن الإسرائيلي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى