كيف انهار وقف إطلاق النار: سياسة الاحتلال الإسرائيلي خلال الهدنة بين 19 يناير و3 أبريل 2025

الهدنة

هدى نعيم

في الثالث من نيسان/أبريل من عام 2025، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية جديدة ضد قطاع غزة تحت اسم “العزة والسيف”، افتتحتها بحملة قصف جوي عنيف تلتها عمليات برية في أجزاء مختلفة من القطاع. جاءت هذه العملية لتشكّل عودة إسرائيلية إلى حرب الإبادة الجماعية بحق قطاع غزة، ولتُنهي عمليًا اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 15 كانون الثاني/يناير 2025 بوساطة إقليمية ودولية.

الاتفاق كان قد نصّ على تقسيم مرحلة التهدئة إلى ثلاث مراحل متتالية، تشمل تبادل الأسرى، وانسحابًا تدريجيًا لقوات الاحتلال من القطاع، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر، وصولًا إلى وقف الحرب وبدء عملية إعادة الإعمار. كانت المرحلة الأولى من هذا الاتفاق قد انتهت فعليًا في 20 شباط 2025، دون الدخول في المرحلة الثانية، لتعثر المفاوضات نتيجة تعنت الاحتلال في تنفيذ ما نص عليه الاتفاق، غير أن الهدنة استمرت لما يقارب شهرًا ونصفًا بعد نهاية المرحلة الأولى، دون اتفاق على تمديدها أو الشروع في مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق. استمرت في المقابل جهود الوسطاء في طرح مقترحات جزئية تتعلق بصفقة تبادل الأسرى في محاولة لإنقاذ اتفاق وقف إطلاق النار ومنع عودة الحرب.

تهدف هذه الورقة إلى قراءة السلوك الإسرائيلي خلال مرحلة الهدنة من 19 كانون الثاني وحتى 3 نيسان 2025، بوصفه مسارًا متكاملًا من التعطيل والانقلاب التدريجي على الاتفاق، وصولًا إلى استئناف العدوان العسكري. كما تناقش الورقة المؤشرات المبكرة على نية العودة للحرب، والأهداف الأمنية والسياسية الكامنة خلف هذا الانقلاب، في سياق استراتيجي أوسع يسعى إلى فرض وقائع جديدة في قطاع غزة، تتجاوز مجرد إنهاء القتال إلى إعادة هندسة الواقع الفلسطيني بأبعاده الأمنية والجغرافية والإنسانية.

اتفاق وقف إطلاق النار: بين النصوص والتطبيق

في الخامس عشر من يناير عام 2025، أعلنت كل من قطر ومصر والولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق هدنة بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية دخلت الهدنة حيّز التنفيذ في 19 يناير 2025 بعد أكثر من 400 يوم من حرب الإبادة الجماعية، إذ نص الاتفاق على تقسيم الهدنة إلى ثلاث مراحل متتابعة، تنفذ تدريجيًا تحت إشراف وسطاء إقليميين ودوليين. وبحسب ما ورد في البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية القطرية، نصّ الاتفاق على ما يلي:

  • وقف متبادل وفوري لإطلاق النار
  • تبادل متزامن للأسرى يشمل إطلاق سراح 33 محتجزًا إسرائيليًا مقابل ما يصل إلى 1900 أسير فلسطيني
  • إدخال يومي لـ 600 شاحنة مساعدات إنسانية، منها 50 شاحنة وقود و10 بيوت متنقلة
  • فتح المعابر، وتسهيل حركة المرضى والنازحين
  • انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من القطاع
  • إعادة الإعمار تحت إشراف دولي، تنطلق في المرحلة الثالثة من الاتفاق

غير أن تتبع تطورات الأحداث خلال مرحلة الهدنة يشير إلى أن الاحتلال لم يلتزم بما نص عليه الاتفاق وعدم إلى خرق الاتفاق بطرق مختلفة في مختلف جوانبه، بما يشمل الخروق العسكرية وتعطيل تنفيذ بنود الاتفاق المتعلقة بالجانب الإنساني ووضع العراقيل فيما يتعلق بعملية تبادل الأسرى.

الخروق العسكرية:

رغم النص الصريح في اتفاق وقف إطلاق النار على “وقف فوري ومتبادل لإطلاق النار”، سُجلت خلال فترة الهدنة 192 خرقًا عسكريًا إسرائيليًا، وفق ما أوردته حركة حماس في بيان رسمي، شملت غارات جوية، وقصفًا مدفعيًا، وعمليات قنص، واعتداءات ميدانية على مناطق مأهولة، تحت ذرائع أمنية غير موثقة. وأسفرت هذه الانتهاكات عن استشهاد 431 مدنيًا، بينهم أطفال ونساء، وإصابة 1276 آخرين بجراح متفاوتة، منذ دخول الهدنة حيز التنفيذ وحتى استئناف العمليات العسكرية مجددًا.

لم تقف الخروق الإسرائيلية عند حدود الغارات والقصف المدفعي، بل تجاوزتها إلى إعادة تموضع عسكري فعلي على الأرض، يتناقض كليًا مع نص الاتفاق القاضي بانسحاب تدريجي من المناطق المكتظة بالسكان على حدود قطاع غزة، بما يشمل وادي غزة “محور نتساريم ودوار الكويت” في مقابل انتشار القوات الاسرائيلية في محيط (700) متر باستثناء 5 نقاط محددة والتي ستزيد بما لا يزيد عن 400 متر اضافية جنوب وغرب الحدود، فقد واصلت قوات الاحتلال احتلال مناطق كان يفترض أن تُخلى، لا سيما في شرق خان يونس ورفح، حيث فرضت أطواقًا أمنية مشددة ومنعت عودة السكان، مما حول ما سُمي “الممرات الإنسانية” إلى مصائد أمنية مغلقة. وفي انتهاك صارخ لبروتوكول “العودة الآمنة”، سُجلت 14 حالة قنص مباشر استهدفت نازحين أثناء محاولتهم تفقد ممتلكاتهم في مدينة غزة.

الى جانب أن الاتفاق كان قد نص على أنه بعد إطلاق سراح آخر رهينة في المرحلة الأولى في اليوم 42 تبدأ القوات الاسرائيلية انسحابها وتستكمله بما لا يتجاوز اليوم 50 وهذا ما لم يحدث بل تم تنفيذ هجوم واسعة مكثف فجر اليوم الثالث من ابريل نيسان.

كما كشفت صور أقمار صناعية التُقطت في 20 فبراير 2025 عبر منصة Planet Labs عن استهدافات إسرائيلية مباشرة لمناطق كانت مُدرجة ضمن أولويات الإعمار، أبرزها حي الزيتون وغرب خان يونس.

الخروق الإنسانية:

أما فيما يتعلق بالجانب الإنساني، فمع أن الاتفاق نصّ على إدخال المساعدات بواقع 600 شاحنة يوميًا، بدءً من اليوم الأول على أن تشمل 50 شاحنة وقود  منها 300 شاحنة للشمال، فإن تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية  (OCHA) تشير إلى أن أكثر من 60% من الشاحنات التي كان يفترض أن تصل يوميًا عبر معبر تم منعها أو تأخيره.
 كما أعاقت قوات الاحتلال دخول متطلبات الإيواء من خيام وبيوت جاهزة، والوقود، بحيث كان متفق على السماح بدخول 60 ألف بيت مؤقت ” كارفان” و200 ألف خيمة كما أعاقت ادخال آليات رفع الأنقاض لانتشال الجثث، وتأخير دخول ما تحتاجه المستشفيات من أدوية ومتطلبات لترميم المستشفيات والقطاع الصحي. والمخابز في جميع مناطق غزة والذي كان يفترض ان ينفذ من اليوم الأول وتستمر في جميع مراحل الاتفاق.
وكان هذا التعطيل لهذا البند من الاتفاق سبباً في اعلان الناطق باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس أبوعبيدة ، تأجيل تسليم الأسرى الإسرائيليين المقرر الإفراج عنهم السبت المقبل إلى إشعار آخر، جراء انتهاكات تل أبيب لاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وإضافة إلى ذلك استمر الاحتلال في فرض قيود مشددة على حركة المرضى والمصابين من قطاع غزة إلى الخارج. وبحسب محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء ومسؤول ملف إجلاء الجرحى في وزارة الصحة بغزة، فإن نحو 40% من المرضى والمصابين الذين تقدموا بطلبات للعلاج خارج القطاع توفوا أثناء انتظار الموافقة، بمعدل يومي يتراوح بين خمسة إلى عشرة حالات وفاة، نتيجة عدم توفر الرعاية الطبية اللازمة داخل القطاع المنهك، فيما كان من المقرر، وفق الاتفاق السماح لجميع المدنيين الفلسطينيين المرضى والجرحى بالعبور عبر معبر رفح وفقاً للبند 12 من اتفاق 27 مايو2024 وخروج 500 مريض ومصاب بشكل يومي، الى جانب السماح بمرور 50 فردا من العسكريين الجرحى يومياً برفقة (3 ) أفراد، خاصة ممن يعانون من السرطان أو إصابات حرجة نتيجة القصف. لكن وبحسب منظمة أطباء بلا حدود والمرصد الأورومتوسطي قلّصت إسرائيل هذا الرقم إلى 80 فقط في اليوم، وفرضت قيودًا أمنية على مرافقي المرضى، ما أدى إلى وفاة عشرات الحالات التي كانت قابلة للعلاج.

الخروق في تبادل الأسرى:

منذ انطلاق المرحلة الأولى لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، برزت صفقة تبادل الأسرى كمحور رئيسي شهد قدرًا من الالتزام من الجانب الإسرائيلي، رغم تسجيل العديد من مظاهر المماطلة والاستفزازات والتهديدات. ومع انتهاء الفترة الزمنية المقررة، جرى تنفيذ الاتفاق بشأن تبادل الأسرى بشكل عام وفقاً لما تم التفاهم عليه. وقد نص الاتفاق على إطلاق سراح 33 أسيرًا إسرائيليًا مقابل الإفراج عن 1777 أسيرًا فلسطينيًا وأسير أردني واحد، بحسب ما ذكره نادي الأسير الفلسطيني. وشملت قائمة الأسرى الفلسطينيين 285 محكومًا بالمؤبد، و1046 معتقلًا من غزة تم اعتقالهم بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى جانب 69 طفلًا، و71 امرأة، و41 مسنًا، ضمن معايير محددة وجداول زمنية موزعة على ستة أسابيع، يشترط قبلها الالتزام بوقف إطلاق النار، فتح المعابر، وضمان عودة النازحين.

رغم ذلك، وكما حدث مع بنود الاتفاق الأخرى، واجه هذا المسار سلسلة من الخروقات والاستفزازات الإسرائيلية الممنهجة. ففي 27 كانون الثاني/يناير، أضافت إسرائيل شرطًا جديدًا يتمثل في حظر “المظاهر الاحتفالية” خلال استقبال الأسرى المحررين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحجة أن هذه الاحتفالات “تضعف هيبة الدولة”، وفق الإعلام العبري. وتعاملت المقاومة مع هذا المطلب بمرونة، حيث أصدرت تعليمات لتنظيم الاستقبالات ضمن أطر رسمية محدودة.

وفي 30 كانون الثاني/يناير 2025، وخلال تنفيذ الدفعة الثالثة من عملية التبادل، أقدمت إسرائيل على تأخير الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين لمدة ست ساعات دون تقديم أي تفسير رسمي، في انتهاك واضح للجدول الزمني المنصوص عليه. ولم يقتصر الأمر على التأخير، بل تعرض بعض الأسرى المُفرج عنهم لانتهاكات جسدية وإهانات لفظية من قبل قوات الاحتلال، كما وثقت مصادر حقوقية وإعلامية.

وتكررت التجاوزات في عشر حالات على الأقل، حيث عمدت سلطات الاحتلال إلى ترحيل الأسرى المحررين قسرًا إلى غزة دون التأكد من رغبتهم، في مخالفة صريحة للبند الذي يحظر فرض التهجير أو إعادة الاعتقال. إضافة إلى ذلك، امتنعت إسرائيل عن تسليم القوائم الكاملة بأسماء الأسرى المقرر الإفراج عنهم، لا سيما قائمة الـ400 أسير، في انتهاك لبروتوكولات الشفافية والالتزام الزمني المنصوص عليها في الاتفاق.

وتفاقمت الخروقات في 23 شباط/فبراير، حين قررت إسرائيل تأجيل الدفعة السابعة من الإفراج عن الأسرى قبل دقائق من تنفيذ العملية، رغم صعود المعتقلين إلى الحافلات. وقد وصف المراقبون هذا التصرف بأنه “إذلال متعمد” يهدف إلى كسر الروح المعنوية، فيما أكدت هيئة شؤون الأسرى أن الاحتلال تعمد التلاعب بالقوائم وخرق الاتفاق بشكل سافر.

ورغم نص الاتفاق بشكل واضح على السماح بعودة النازحين، أخر الاحتلال الاسرائيلي عودة مئات الآلاف من سكان شمال قطاع غزة، مبررة ذلك بتأخير الإفراج عن الأسيرة الإسرائيلية “أربيل يهود”، رغم أن حركة حماس، عبر الوسيط القطري، أكدت أنها على قيد الحياة وأنها ستُسلم لاحقًا. واستغل الاحتلال هذا الملف ذريعة لتعليق بند العودة، ما حول الهدنة إلى سلسلة متواصلة من العراقيل الإسرائيلية المتعمدة.

التراجع عن اتفاق وقف إطلاق النار:

في الوقت الذي كانت فيه المرحلة الأولى من اتفاق الهدنة تقترب من نهايتها، كانت الوساطة الدولية – وخصوصًا الأمريكية – تدخل طورًا جديدًا، كاشفة عن تحوّل واضح في الموقف من دعم تنفيذ الاتفاق إلى إعادة صياغته ضمن مقترحات منفصلة مجتزأة، تفقده مضمونه الأصلي، وتخدم المصلحة الإسرائيلية.

ففي مطلع شباط/فبراير 2025، تقدم المبعوث الأمريكي لشؤون الرهائن، آدم بولر، بمقترح لحركة حماس يتضمن إطلاق سراح أسير يحمل الجنسية الأمريكية وأربعة جثامين إسرائيليين، مقابل تعهد الاحتلال بالدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق. حماس وافقت مبدئيًا على العرض، مشترطة التزامًا واضحًا بتنفيذ البنود التالية من الصفقة. لكن الاحتلال رفضت العرض كليًا، واعتبرته “غير متوازن”، ثم دفعت عبر اللوبي الإسرائيلي في واشنطن نحو إقالة آدم بولر من منصبه واستبعاده من ملف التفاوض، ما أدى إلى تنحيته عن واجهة التفاوض وعودة ستيف ويتكوف لتولي ملف مفاوضات التبادل بشكل مباشر.

وقد قدّم طرحًا جديدًا تمثل في إطلاق نصف الأسرى الأحياء ونصف الجثامين مقابل تهدئة مؤقتة لمدة خمسين يومًا فقط، دون التزام بأي مرحلة ثانية أو حديث عن وقف نهائي للعدوان. وقد اعتُبر هذا المقترح من قبل المقاومة محاولة مكشوفة لسحب ورقة الأسرى – وهي الورقة الأقوى التي بقيت في يد الفصائل – مقابل “هدوء بلا مقابل”، ينتهي بعودة الاحتلال إلى الإبادة الجماعية بعد عودة أسراه.

هذا الانقلاب في المقاربة التفاوضية لا يعد تفصيلًا عابرًا، بل نقطة تحول أساسية في مسار الهدنة، إذ كشفت المقترحات الأمريكية المعدّلة أن الاحتلال الاسرائيلي لم تكن تنوي أصلًا المضي في تنفيذ الاتفاق، بل كانت تسعى لإعادة هندسة شروطه بما يتوافق مع استراتيجيتها في غزة، لا سيما بعد أن استردت عددًا من أسراها الأحياء ورفات قتلاها. ومن هنا، بدأ مسار التفكيك العلني لبنود الاتفاق، عبر ربط استكمال التبادل بملفات أمنية غير منصوص عليها، مثل نزع السلاح المقاومة وضمانات أمنية دائمة للاحتلال الاسرائيلي، واستبعاد كلي للمرحلتين الثانية والثالثة. إذ انتقل الاحتلال من تكتيك المماطلة داخل النصوص إلى استراتيجية إسقاط النص بالكامل عبر التفاوض البديل، وتحويله إلى “صفقة من طرف واحد”، لا تحفظ للفلسطينيين أي حقوق سياسية أو إنسانية.

إرهاصات التوجه الإسرائيلي للعودة للحرب

خلال الهدنة كانت هناك العديد من المؤشرات والإرهاصات والتصريحات الإسرائيلية التي تشي بوجود نية إسرائيلية لخرق الاتفاق والعودة للحرب. وقد تنوعت هذه الإرهاصات بين استعدادات عسكرية وتصريحات رسمية، علاوة على تعطيل المفاوضات.   ففي بداية يناير/كانون الثاني 2025، جاء أول مؤشرات العودة للحرب من خلال تصريحات نتانياهو، إذ أعلن في 18 يناير في خطاب متلفز أن “إسرائيل تحتفظ بحق استئناف القتال في غزة بدعم أمريكي”، متعهداً بإعادة جميع الأسرى. وفي 23 من الشهر نفسه، صرّح نتنياهو بأن إسرائيل مستعدة لاستئناف الحرب في غزة “في أي لحظة”، مؤكداً أن “خططنا العملاتية جاهزة”. وفي 24 يناير، ألقى نتانياهو خطاباً أمام الكنيست أعلن فيه أن “الهدنة هي وسيلة مؤقتة لتحقيق النصر الكامل. لن تنتهي الحرب قبل أن نحقق أهدافنا: تدمير قدرات حماس، ونزع سلاحها، والسيطرة الأمنية الكاملة على غزة.”

من جانب آخر،  أوضح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أنه مقتنع تمامًا بأن “إسرائيل ستعود إلى الحرب في غزة فور انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار”. وقد وصف الصفقة التي أدت إلى الاتفاق وتبادل الأسرى والمحتجزين بأنها “كارثية وخطيرة على الأمن الإسرائيلي”، مؤكدًا أن عودة العمليات العسكرية ستحدث في بداية مارس/آذار المقبل. وأوضح سموتريتش في تصريحاته أنه قرر البقاء في الحكومة بعد اقتناعه بأن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب ملتزمان بإزالة حماس كقوة حاكمة من غزة، مشيرًا إلى أن “المحور المعتدل في المنطقة يطالب من إسرائيل، في مناقشات مغلقة، بتدمير حماس بالكامل”. كما ضغط الوزير على نتانياهو لعدم بدء المرحلة الثانية من الاتفاق والعودة للحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى، وقد هدد سابقًا بالانسحاب من الحكومة إذا لم يُستأنف القتال، على خلاف شريكه الائتلافي وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وممثلو كتلة “عوتسما يهوديت” الذين قدموا استقالاتهم احتجاجًا على المصادقة على الصفقة.

بموازاة ذلك، أخذت الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية تتصاعد؛ ففي 23 فبراير 2025، أعلن الجيش الإسرائيلي رفع “الاستعداد العملياتي” في المناطق المحيطة بقطاع غزة، وهو ما يعكس تحضير القوات الميدانية لاستئناف القتال. وفي ذات السياق، أشار تقرير نشره موقع “أكسيوس” الإخباري الأميركي إلى نقل “اسرائيل” لقنابل GBU-72 الخارقة للتحصينات، وهي أسلحة مصممة لاختراق الأنفاق والحصون تحت الأرض، مما أشعل المخاوف من تفاقم الوضع وتصعيد الحرب في غزة. ترافق ذلك مع تصريحات مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كتب عبر منصة تروث سوشيال: “يجب إنهاء المهمة، الأسلحة أُرسلت لهذا الغرض. إن لم تُحرر الرهائن الأميركيين، فستفتح “إسرائيل” جهنم على غزة.”

وتزامناً مع هذه التحركات العسكرية، جاءت ضغوط سياسية مكثفة لتغيير مسار الهدنة؛ ففي 4 مارس 2025، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بأن تل أبيب مستعدة للمضي في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار شرط نزع سلاح حركة حماس بالكامل، مع تهديد صريح بأنه “إذا أردنا العودة فسنفعل.” تعكس هذه التصريحات تحولاً واضحاً من مجرد وقف إطلاق النار إلى سياسة تنطوي على إعداد كامل للعودة للحرب. يُذكر أن هذه التحركات جاءت في إطار سلسلة من الانقسامات الداخلية التي أشعلتها الاحتجاجات والضغوط الناجمة عن فشل العمليات العسكرية في استعادة الأسرى أحياء، مما دفع المؤسسة الأمنية، بتنسيق مع الولايات المتحدة، للضغط على نتانياهو لقبول هدنة مؤقتة رغم الانشقاقات بين المسؤولين.

خطط التهجير خلال الهدنة

كان التطور الأهم في تطورات الأحداث خلال مرحلة الهدنة، هو اللقاء الذي جمع نتانياهو بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 5 فبراير/شباط، الذي طرح خلاله ترامب فكرته لتهجير قطاع غزة، التي عاد وأكدها في مناسبات مختلفة، مروجا لتحويلها لمشروع استثمار عقاري.

تلقّى الاحتلال الاسرائيلي هذا الطرح كغطاء سياسي دولي، وسرعان ما بدأت بالتعامل معه كجزء من استراتيجيتها الرسمية خلال سريان الهدنة. لم يمر وقت طويل حتى باشرت بخطوات تنفيذية لترجمة هذه الفكرة على أرض الواقع؛ ففي 18 فبراير 2025، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن إنشاء “دائرة الهجرة الطوعية” ضمن الوزارة، بهدف تسهيل هجرة سكان قطاع غزة إلى دول ثالثة، حيث تم عرض خطة أولية تشمل تقديم حزمة مساعدات للراغبين في الهجرة، تتضمن ترتيبات للمغادرة عبر البحر والجو والبر. وقد أشار كاتس  إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار التزام الاحتلال بالمقترح الأمريكي للسيطرة على القطاع الفلسطيني وتهجير سكانه.

وفي آواخر شهر يناير 2025، أي خلال المرحلة الأولى من الهدنة، صدرت وثيقة عن وزارة الاستخبارات الاسرائيلية نُشرت عبر الإعلام العبري قبل أن يتم سحبها بشكل كامل، ناقشت فيها آليات تشجيع الهجرة من قطاع غزة وأشارت في آخر نقطة أنه “من غير الممكن تنفيذ الهجرة القسرية من قطاع غزة إلا في ظروف حرب”، ما يعني أن خيار العودة إلى الحرب كان شرطاً ضرورياً من وجهة النظر الإسرائيلية لتنفيذ مخطط التهجير.

خاتمة:

لا تهدف الورقة إلى مناقشة إمكانيات نجاح المخطط الإسرائيلي المعلن، المدعوم أمريكيا، حول التهجير، أو أهداف الاحتلال الاسرائيلي من عودة الحرب، التي أخذت تُطرح على طاولة المفاوضات من قبيل نزع سلاح المقاومة وإبعاد قادتها وعناصرها وغير ذلك، وإنما هدفت هذه الورقة إلى محاولة فهم التطورات التي جرت خلال مرحلة الهدنة ووضعها في إطار تصور كامل في الجدل الدائر حول الأسباب التي جعل الاحتلال الاسرائيلي يعود إلى حرب الإبادة الجماعية، خاصة أن هناك أراء باتت تحمل المقاومة تبعات العودة للحرب بسبب التعثر في المفاوضات وبعض المظاهر التي رافقت عمليات التبادل. غير أن المقصود من ذلك، ليس اتخاذ موقف تبريري دفاعي تجاه تلك الآراء، وإنما وضع النقاش في إطاره الصحيح في محاولة لمواجهة الخطر الوجودي المحدق بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة على وجه الخصوص.

إذ لم يتعامل الاحتلال الاسرائيلي مع اتفاق وقف إطلاق النار كإطار مُلزم بحدوده الزمنية ومضامينه الإنسانية والسياسية، بل كمرحلة مؤقتة تستثمرها في استعادة زمام المبادرة، واستغلال المفاوضات والهدنة في إعادة أسراها وبما يخدم مشروعها الاستراتيجي الأشمل تجاه غزة. لذلك، لا تعد عودة الحرب مفاجِئة أو مرتبطة بفشل تفاوضي جزئي، بل هي نتيجة مباشرة لتوجه استراتيجي يعتبر أن أي تهدئة لا تفضي إلى تحقيق “أهداف الحرب” المعلنة وغير المعلنة، هي هدنة مؤقتة لتحقيق أهداف تكتيكية من بينها إعادة أسرى الاحتلال الذين عجز عن إعادتهم عن طريق الوسائل العسكرية خلال أكثر من عام ونصف من تاريخ الحرب، لتجريد المقاومة من آخر أوراق القوة التي تمتلكها وتعمل على استثمارها لوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من القطاع ووقف مخطط التهجير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى