زيارة عباس وحماس للسعودية: دلالات التزامن والتحول
أ. كريم قرط[1]
زار وفد رسمي من السلطة الفلسطينية المملكة العربية السعودية برئاسة الرئيس محمود عباس في 17 نيسان/أبريل بدعوة رسمية من المملكة، والتقى عباس خلال الزيارة بالملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وقد تزامنت زيارته مع زيارة وفد من حركة حماس إلى السعودية، حيث ضم الوفد رئيس مكتبها السياسي وعدد من قيادات الحركة، وذلك لأداء مناسك العمرة، بالإضافة إلى لقاء مسؤولين سعوديين كما أعلنت الحركة.
أثار هذا الحدث المركب العديد من التساؤلات حول توقيت الزيارتين وتزامنهما وأهدافهما، فالرئيس الفلسطيني الذي زار السعودية والتقى الأمير محمد بن سلمان سابقًا، كان قد طلب لقاء مسؤولين سعوديين على هامش مشاركته في القمة العربية-الصينية في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2022، غير أنّ طلبه لم يرد عليه بالقبول حينها، ومن ناحية أخرى، فالعلاقة بين السعودية وحماس وصلت حد القطيعة منذ عام 2014، عقب إصدار السعودية قرارًا بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين بـ”الإرهابية”، ومع أنّ القرار لم يشمل حماس بالاسم مباشرة، إلّا أنّ مصدرًا مقربًا من صنّاع القرار السعودي ذكر في حينه أنّ المرسوم الملكي يشمل أفرع الجماعة بدول أخرى، بما فيها حماس في فلسطين، ما نتج عنه حملة تضييقات واعتقالات سعودية لعدد من الفلسطينيين والأردنيين الذين كان لهم علاقة بحركة حماس، ومن ناحية ثالثة، يطرح تزامن زيارة وفدي السلطة الفلسطينية وحماس تكهنات بدخول السعودية على خط المصالحة الفلسطينية، أو سعيها إلى استعادة دورها في القضية الفلسطينية، وهو ما يطرح تساؤلات حول هدف السعودية من استضافة وفد حماس في ذات الوقت الذي تستضيف فيه وفد السلطة الفلسطينية، فمِن الواضح أنّ أبعاد الزيارتين مرتبطة بجملة التحولات في السياسة الخارجية للسعودية، وتوجهها لخفض الصراع في كثير من الملفات، وأيضًا بجملة التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة.
سياق الزيارتين: سياسة إدارة العلاقة سعودياً
أتت زيارة الوفدين الفلسطينيين في ظل مرحلة تشهد تطورات مهمة في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، فالملاحظ أنّ السعودية تسير في سياسة يمكن تسميتها بـ”التصالح” أو خفض صراعاتها في المنطقة، وأبرز معالم هذه السياسة هي المصالحة الخليجية عام 2021، ثم المصالحة مع تركيا، وأخيرًا وهو الحدث الأهم الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية في شهر آذار/مارس المنصرم، وعلى ما يبدو فإنّ الاتفاق مع إيران هو مقدمة لفتح قنوات تواصل وحوار مع الفاعلين الذي لهم علاقات مع إيران وحلفائها، خاصة النظام السوري، الذي تسعى السعودية إلى إعادته للجماعة العربية في قمة الرياض المزمع عقدها في شهر أيار/مايو الجاري، وجماعة أنصار الله الحوثي، التي تجري بينها وبين السعودية مفاوضات للتوصّل إلى حل الأزمة اليمنية، وحزب الله اللبناني، الذي تتردد أحاديث عن رغبة سعودية باستعادة علاقاتها معه.
انخرطت السعودية كما هو ملاحظ مثل باقي قوى الإقليم في إعادة قراءة الواقع السياسي، وبداية التعامل معه وفقًا لمستجداته من جانب، والمستقبل من جانب آخر، وذلك بفعل التغيرات التي أعقبت عشرية الربيع العربي، والتي أتت أيضًا استجابة للتطورات في النظام الدولي، مع اشتداد التنافس الصيني الأمريكي، وتراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، التي كان لها أثر كبير في دفع قوى الإقليم، ومن ضمنها السعودية، إلى إصلاح علاقاتها ببعضها، ومن ناحية أخرى، فالسياسية السعودية مدفوعة بالرؤية التنموية السعودية المعروفة بـ”رؤية 2030“، وهي رؤية طموحة نفذت السعودية الكثير من المشاريع في إطارها لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي، وجعلها أكثر تنوعًا وأقل اعتمادًا على النفط، غير أنّ تحقيق هذه الرؤية يتطلب الاستقرار الداخلي والخارجي، وإنهاء الأزمات التي تستنزف الموارد والأموال وتعطل جهود الاستثمار، فحرب اليمن كلّفت السعودية 265 مليار دولار على الأقل، فضلًا عن استهداف الحوثيين للأراضي السعودية عدة مرات، وعليه، فحلحلة الأزمات وتخفيض حدّة الصراعات في المنطقة ينصب في خدمة أهداف الخطة التنموية السعودية.
زيارة وفد حماس:
من الملاحظ أنّ الزخم الإعلامي الأهم حظيت به زيارة وفد حركة حماس للسعودية، في ضوء انقطاع العلاقة بين السعودية والحركة، ووصولها إلى مراحل حرجة على إثر اعتقال السعودية لعدد من أعضاء حماس ومناصريها في الأراضي السعودية، خاصة ممثلها فيها محمد الخضري عام 2019، الذي أُفرج عنه عام 2022، فزيارة وفد حماس الذي ضم أبرز قادتها: كرئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، ورئيسها في الخارج خالد مشعل، وأعضاء مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق، وخليل الحية، وآخرين؛ هي أول زيارة لوفد من الحركة منذ عام 2015، وقد جاءت بدعوة رسمية من السعودية، ومع أنّ هدف الزيارة الرئيس هو أداء مناسك العمرة، فإنّ مصادر في الحركة قالت إنها تأمل أن تكون الزيارة “بوابة لتحسين العلاقات مع الجانب السعودي، وتحريك المياه الراكدة”، ولم تخلُ الزيارة من لقاءات بين أعضاء الوفد ومسؤولين سعوديين لم يُعلن عن هويتهم، هدفت إلى إعادة قنوات الاتصال وفكفكة الملفات العالقة وإنهاء ملف المعتقلين الفلسطينيين في السعودية.
من الطبيعي في المرحلة الحالية أن تسعى السعودية لإعادة علاقاتها مع حماس نظرًا إلى عدة متغيرات؛ فالعلاقة بين السعودية وحماس مرتبطة بعدة تحولات، فضلًا عن كونها نابعة من سياسة “خفض الصراع”، لا سيما أنّ السعودية حلحلت أزماتها مع معظم القوى الحليفة أو المنفتحة على حماس، ومن أهمها قطر وتركيا وإيران وسورية، وإكمال هذا المسار يتطلب الانفتاح على جميع الفاعلين، نتيجة لتعقيد أزمات الإقليم وتداخل الفاعلين فيها.
يتمثّل الأمر الآخر بأنّ شبح الإخوان المسلمين، و”الإسلام السياسي” بشكل عام، قد تلاشى، ولم يعد يشكّل تهديدًا أو بديلًا لأنظمة الحكم العربية، فالملاحظ أنّ السعودية انقلبت في علاقتها جذريًا مع حماس في أوج هجومها على “الإسلام السياسي” الذي اعتُبرت حماس جزءًا منه.
أمّا التحول المهم والأخير؛ فهو بروز حماس كفاعل مركزي في القضية الفلسطينية، خاصة بعد معركة سيف القدس أيار 2021، فقد ظهر عقبها خالد مشعل رئيس حماس في الخارج في مقابلة على قناة العربية السعودية، ومع أنّ المقابلة لم تتجاوز 26 دقيقة، فإنها نظرًا إلى توقيتها وطبيعة العلاقة بين السعودية وحماس حملت دلالات حول إمكانية حدوث انفراج في العلاقات في حينها، إلّا أنّ المشهد الإقليمي حينها لم يكن قد دخل بعد في حقبة تصفير المشكلات التي نشهدها حاليًا.
يبدو أنّ السعودية استفادت من تجربة مصر في التعامل مع حركة حماس، خاصة أنّ العلاقات بين حماس ومصر توترت أكثر مما توترت مع السعودية، ومع ذلك لم تجد مصر بدًا من التعامل مع حماس، وقد أدركت عدة دول في المنطقة دور حركة حماس، كونها أصبحت أحد طرفي المعادلة في الوضع الفلسطيني، بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية، فالأردن التي قطعت علاقاتها مع حماس لسنوات طويلة أذنت لوفد الحركة الذي ضم إسماعيل هنية وخالد مشعل وغيرهم بالدخول إلى الأردن في آب/أغسطس 2021، أي عقب معركة سيف القدس، للمشاركة في تشييع القيادي السابق في الحركة إبراهيم غوشة، ما يشير إلى إدراك الدول العربية أنّ حماس طرف أساسي في القضية الفلسطينية يتوجب وجود قنوات اتصال معه، حتى لو كانت غير رسمية أو أمنية.
زيارة وفد السلطة الفلسطينية:
على الرغم من تزامن زيارة وفد السلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس عباس الذي يرافقه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات اللواء ماجد فرج، ومستشار الرئيس الدبلوماسي مجدي الخالدي، وسفير فلسطين لدى المملكة العربية السعودية باسم الآغا، مع زيارة وفد حماس؛ فإنه لم تحدث لقاءات بين الوفدين كما جرى التأكيد مسبقا بأن الزيارة غير مخصصة لبحث ملف المصالحة الفلسطينية، وهذا أمر متوقع، فالسعودية لم تصلح علاقاتها مع حركة حماس بعد، ما يعني أنها ليست في موقع وسيط، فضلا عن ذلك، لا يبدو أنّ السعودية معنية بهذا الملف في المرحلة الحالية، بناءً على فشل كل محاولات المصالحة السابقة منذ اتفاق مكة عام 2007، مرورًا باتفاقات ومباحثات القاهرة والشاطئ والدوحة وإسطنبول والجزائر وموسكو وغيرها.
أمًا هدف الزيارة المعلن، فهو بحث العدوان “الإسرائيلي” على الشعب الفلسطيني؛ فقبيل زيارة الرئيس عباس أعلن سفير فلسطين في السعودية أنّ الزيارة ستتركز في بحث العدوان على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة، وسبل التحرك لوضع حد لجرائم الاحتلال، وقد أوردت وكالة وفا أنّ الرئيس عباس أطلع ولي العهد السعودي على آخر التطورات السياسية للقضية الفلسطينية، والأوضاع في الأرض الفلسطينية المحتلة، غير أنّ أهم ما ورد في البيان هو “بحث الأوضاع في المنطقة، وسبل إنجاح القمة العربية القادمة في الرياض”، ولا تنفصل هذه الجزئية عن مسعى السعودية لإعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية في قمة الرياض، وحشد التأييد لهذه الخطوة، ويبدو أنّ الأمير محمد بن سلمان اجتمع بالرئيس عباس في هذا التوقيت بشكل أساسي لهذا الغرض، دون أن يعني ذلك أنّ الزيارة في حد ذاتها، وتزامنها مع زيارة وفد حماس، لا تحمل دلالات حول تحرك سعودي جديد تجاه القضية الفلسطينية، فالملاحظ أنّ لقاءات بن سلمان السابقة مع الرئيس عباس كانت تحمل في طياتها ضغطّا عليه، ومحاولة لإقناعه بالقبول بالتسوية المعروفة بـ”صفقة القرن”، على خلاف اللقاء الآنف، ما يشير إلى تحول في الموقف السعودي -ولو تكتيكيّا- في رؤيتها للقضية الفلسطينية وعلاقتها بأطرافها.
الخاتمة:
تظهر تحركات السعودية المتسارعة في سياستها الخارجية أنّ هناك سعيّا لديها لتنويع شراكاتها وعلاقاتها الدولية والإقليمية؛ فعلاقاتها الوطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لم تمنعها من تنمية علاقاتها مع الصين، التي تتوجت بزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للسعودية في كانون الأول/ديسمبر 2022 ، وسعيها إلى الانضمام إلى تكتل بريكس، وهذه ملامح سياسية براغماتية تضع المصلحة السعودية أولًا، وهذا يُقرأ على الصعيد الإقليمي أيضًا، فالسعودية لا تمانع التطبيع مع “إسرائيل” من حيث المبدأ، وإنما تسعى لتحقيق مصالح من وراء هذه الخطوة، إذ تشترط السعودية الحصول على ضمانات أمنية أمريكية، ومساعدة أمريكية لتخصيب اليورانيوم في المشروع النووي السعودي.
سيكون تنويع السعودية لعلاقاتها الخارجية دوليًا وإقليميًا عامل قوة، في ظل إدراكها أنً العلاقة مع الولايات المتحدة غير كافية وحدها لتحقيق مصالحها، وتراجع زخم التطبيع في ظل انشغال الولايات المتحدة عن المنطقة والأزمات السياسية التي تشهدها “إسرائيل”، وعليه، فدخول السعودية على خط القضية الفلسطينية، بتقوية علاقاتها وفتح قنوات تواصل مع طرفي المعادلة الفلسطينية، سيعطيها ورقة ضغط مهمة، خاصة أنّ التصاعد المستمر في القضية الفلسطينية، وجولات التصعيد المستمرة منذ معركة سيف القدس يظهران أنّ الفلسطيني ما زال فاعلًا مهمًا في قضيته، وأنّ محاولات تهميشه وإقصائه وتجاهله غير مجدية، وهذا الأمر الذي تستفيد منه حركة حماس، والتي تتحكم في تفاصيل قرار التصعيد والرد، خاصة في قطاع غزة، كما أن الدور السعودي الطموح في المنطقة لا يمكن أن ينفصل عن القضية الفلسطينية، التي تشكل عاملي استقرار وتصعيد دائمين للمنطقة كلها، وهذا ما يدفع السعودية إلى بناء علاقة متوازنة ومتنوعة مع أطرافها، ولعلّ تزامن زيارة وفدي السلطة الفلسطينية وحركة حماس للسعودية هو رسالة توازن في علاقاتها مع طرفي المعادلة.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله.