تصاعد وتيرة عمليات الهدم في القدس: أسبابها وتداعياتها
حمدي حسين[1]
شهدت عمليات هدم منازل الفلسطينين في مدينة القدس تصاعدًا متسارعًا منذ بداية عام 2023، متزامنة مع تغييرات في أروقة الحكم “الإسرائيلي” والتوجهات اليمينية للحكومة، حيث تؤكد هذه الزيادة في عمليات الهدم على أنّ هنالك تصعيدا “إسرائيليا” موجه لهدم منازل ومنشآت الفلسطينيين يرجع لعوامل مختلفة، أبرزها سياسة الحكومة الحالية الأكثر تطرفاً بحق الفلسطينيين في القدس.
يناقش هذا التقرير واقع عمليات الهدم في مدينة القدس في ظل تزايدها وتصاعد الدعوات اليمينية لتوسيعها، وتداعيات ذلك على الفلسطينيين في القدس والنضال الفلسطيني، كما ويسلط الضوء على ذرائع الهدم “الإسرائيلية”، وطرق تنفيذها، وجهات التنفيذ، ومواقف الحكومة “الإسرائيلية” اليمينية والسلطة الفلسطينية منه.
خلفية إحصائية للهدم:
أظهرت الإحصائيات منذ بداية عام 2023 تصاعداً في عمليات الهدم التي ينفذها الاحتلال في أحياء محافظة القدس المحتلة، والتي تطال المنازل والمنشآت الفلسطينية، فقد بلغ مجموع عمليات الهدم في شهر يناير ما يقارب 39 مبنى ومنشأة خارج حدود الجدار في الاحياء المتاخمة للمدينة، منها منزلاً واحداً، فيما بلغ داخل أحياء المدينة التي تتبع لبلدية الاحتلال ما يقارب 21 مبنى ومنشأة، منها 14 مبنى سكني فقد بفعلها 31 فلسطينياً منازلهم.
نوع المبنى | العدد | عدد الأشخاص الذين فقدوا منازلهم | هدم من قبل سلطات الاحتلال | هدم ذاتي |
مبنى سكني | 14 | 31 | 6 | 8 |
مبنى غير سكني | 7 | 0 | 5 | 2 |
إحصائيات عملية الهدم في أحياء مدينة القدس في شهر يناير / كانون ثاني عام 2023
سُجلت أيضاً في محافظة القدس 37 عملية هدم خلال شهر شباط، منها 11 عملية هدم ذاتي قسري، كما شملت عمليات الهدم منازل مأهولة بالسكان وأخرى قيد الإنشاء، ومنشآت زراعية وحيوانية وتجارية، ونفذت سلطات الاحتلال عمليات تجريف لأراضِ وأسوار استنادية.
وفي عام 2022 سجل الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ما يقارب 128 حالة هدم لمباني سكنية، و176 حالة هدم لمنشآت في محافظة القدس، أمّا “بيتسيلم” فقد سجلت 151 حالة هدم في ذات العام داخل أحياء مدينة القدس، منها 84 حالة هدم لمساكن فلسطينية، فقد فيها 286 فلسطينياً مأواهم، و67 حالة هدم لمنشآت غير سكنية، وفي أحياء محافظة القدس المتاخمة للمدينة والواقعة خارج الجدار سُجلت 134 حالة هدم، منها 23 منزلاً فقد فيها 60 فلسطينياً مأواهم، و111 مبنى غير سكني.
نوع المبنى | العدد | عدد الأشخاص الذين فقدوا منازلهم | هدم من قبل سلطات الاحتلال | هدم ذاتي |
مبنى سكني | 84 | 286 | 32 | 52 |
مبنى غير سكني | 67 | 0 | 56 | 11 |
إحصائيات عملية الهدم في أحياء مدينة القدس عام 2022
ذرائع الهدم وجهات التنفيذ:
بدأت “إسرائيل” بسياسة الهدم في أحياء القدس منذ احتلالها عام 1967؛ بهدف خنق الفلسطينيين ومنع توسع الأحياء في اطار استمرار سياسة التهجير القسري التي ينتهجها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، حيث سُجل هدم أكثر من 2146 مسكن فلسطيني حتى أواخر عام 2021، إضافة إلى منشآت أخرى غير سكنية وتجارية، وتقترن عمليات الهدم بتقنين الحصول على تصاريح البناء التي تمنعها سلطات الاحتلال، رغم أنّ غالبيتها تقع في قلب الاحياء التي يسكنها الفلسطينيون، ولا تتوقف عمليات الهدم على المنازل بحجة عدم الترخيص، بل تتعداها إلى هدم المنشآت التجارية وورش العمل ومضارب البدو وحظائر المواشي.
تصنف سلطات الاحتلال ذرائع الهدم إلى أربعة: العسكري الذي يُنفَذ من خلال الجيش بذريعة حماية المستوطنين، وهو السائد داخل مدينة القدس، وفي المناطق المصنفة (ج)، وهنالك نوع آخر يسمى بـ “الهدم العقابي” الذي تسعى فيه “إسرائيل” إلى فرض العقاب الجماعي على العائلات الفلسطينية التي يخرج منها المقاومون لتنفيذ عمليات ضده، أمّا “الهدم الإداري” فهو الأكثر رواجاً في أحياء القدس، حيث تعمد “إسرائيل” إلى تنفيذ عمليات هدم بحجة عدم وجود ترخيص، وذلك من خلال قرار من رئيس بلدية القدس، ويختلف هذا النوع عن “الهدم القضائي” الذي يتم بعد صدور قرار عن المحاكم “الإسرائيلية” يقضي بالهدم، وقد صادق الاحتلال أيضاً على قانون “كامينتس” أواخر عام 2017، الذي يضع شروطًا تعجيزية أمام تمديد أوامر هدم المنازل “غير المرخصة”.
لا يكتفي الاحتلال بإصدار قرارات الهدم وتنفيذها، بل يجبر الفلسطينيين على دفع تكاليف عمليات الهدم الباهظة، مما يدفع الكثيرين منهم إلى تنفيذ الهدم بشكل ذاتي، فمنذ عام 2006 حتى أواخر 2021 سُجل أكثر من 550 عملية هدم ذاتي قام بها الفلسطينيون في مدينة القدس.
أثر الحكومة اليمينية المتطرفة على ملف الهدم في القدس:
تنقسم آراء الحكومة “الإسرائيلية” الحالية في موقفها إزاء وتيرة عمليات الهدم وتوقيتها في مدينة القدس، فهناك من يريد استمرار عمليات الهدم بالوتيرة والتوقيت المعتادين، مثل نتنياهو والشرطة، إذ يطالب وزير الأمن الداخلي “الإسرائيلي” “ايتمار بن غفير” برفع وتيرتها، وظهر ذلك في شهر شباط 2023 عندما دعا بن غفير إلى هدم مبنى سكني في حي وادي قدوم في بلدة سلوان يضم 14 عائلة فلسطينية (90 شخص)؛ ردًا على إحدى العمليات الفلسطينية، وكون المبنى “غير مرخص”، وقد رفض “نتنياهو” الضغط الدبلوماسي الأمريكي والأوروبي لمنع هذا الهدم، فيما رأى مفتش الشرطة “ياعاكوف شابتاي” بأن تنفيذ الهدم بهذه الوتيرة لا يمكن في ظل القيود العملياتية للشرطة، فقد استمر “بن غفير” في تصريحاته ومطالباته باستمرار هدم بيوت الفلسطينيين في القدس خلال شهر رمضان المبارك بشكل يغاير توجهات الحكومة “الإسرائيلية” خلال السنوات الأخيرة بتأجيل تنفيذ الهدم إلى ما بعد رمضان، حيث تضاف هذه التصريحات والأوامر الموجهة إلى الشرطة بتصريحات سابقة له بإطلاق عمليات هدم واسعة للمنازل في أحياء القدس الشرقية، وعاد مفتش الشرطة ووجه اتهاماته ل”بن غفير” بالتدخل في عمل الشرطة، وقدم بذلك تصريح خطي للمحكمة العليا “الإسرائيلية” التي تنظر في التماسات ضد تعيين “بن غفير” في منصب وزاري، فيما دعا قادة شرطة سابقون في حكومة الاحتلال نتنياهو إلى عزل “بن غفير” بعد قراراته الأخيرة بمواصلة عمليات الهدم في شهر رمضان، لأنه بذلك يسعى إلى إشعال انتفاضة جديدة.
ردود أفعال جهات فلسطينية على عمليات الهدم:
أدانت الخارجية الفلسطينية من خلال بيانها استمرار عمليات الهدم في القدس وتصريحات “بن غفير”، ودعت المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، واعتبرت بأن هذه العمليات من شأنها أن تشعل الساحة؛ لأنها تنطوي تحت جرائم الاحتلال الهادفة إلى التطهير العرقي والتهجير القسري للفلسطينيين في المدينة، وحمّلت حكومة “نتنياهو” المسؤولية، وأكدت على أنّ “وقف جميع الإجراءات أحادية الجانب غير القانونية هو المدخل للالتزام بتفاهمات العقبة ووقف التصعيد “الإسرائيلي” المتواصل”، فيما اعتبرت محافظة القدس “أنّ عمليات الهدم التي تنفذها قوات الاحتلال في القدس، تصعيد خطير وجريمة حرب، مؤكدة أنّ الاحتلال يقوم بعملية تهجير قسري وتطهير عرقي للمقدسيين”، وقالت بأنها تأتي في اطار الإجراءات المستمرة بحق الفلسطينيين، بدءً من التضييق عليهم في الحصول على تراخيص البناء وفرض الغرامات، ودعت الاتحاد الأوروبي إلى عدم الاكتفاء بالإدانة، والضغط على حكومة الاحتلال التي تتحمل مسؤولية هذه الأعمال.
على مستوى الفصائل الفلسطينية في غزة، فقد رأت بأنّ عمليات الهدم في أحياء القدس لن تحقق أهدافها في كسر الفلسطينيين، فحركة فتح على لسان المتحدث باسمها في قطاع غزة منذر الحايك رأت بأن الشعب الفلسطيني مصمم على الاستمرار في مشواره نحو الدولة والاستقلال، وأنّ هذه تجاوزات لن تحقق الأمن والاستقرار، فيما قالت حماس على لسان المتحدث باسمها عبد اللطيف القانوع بأنّ هدم منازل الشهداء لن يهدم شجاعة الشباب الفلسطيني المقاوم، فيما ارتأت الجيهة الشعبية لتحرير فلسطين بضرورة رفع ملف عمليات الهدم إلى المحافل الدولية، داعية حركة المقاطعة إلى إدراج هذا الملف في أعمالها لملاحقة الاحتلال دولياً.
تداعيات زيادة وتيرة الهدم:
أولًا: تعاظم التهديد الوجودي الواقع على أهل القدس الفلسطينيين البالغ عددهم 366 ألف في أحياء المدينة، وخصوصاً المناطق المستهدفة بالتضييق لغايات في داخل حكومة الاحتلال والفكر الصهيوني المتطرف، وهي: جبل المكبر الذي يخطط الاحتلال فيه لهدم 800 مبنى فلسطيني مقابل بناء 500 وحدة سكنية “إسرائيلية” ومحال تجارية، وفي جبل الزيتون (الطور) الذي يسعى الاحتلال إلى تنفيذ مشروع الحدائق القومية، وسلوان التي يدعي الاحتلال بأنها أقيمت على أنقاض “مدينة داود” ويسعى إلى إقامة “الحدائق التوراتية”، إضافة إلى وادي حلوة الذي يهدف الاحتلال إلى إقامة قطار هوائي يربط القدس الشرقية بالغربية، ويمر ايضاً عبر وادي الربابة، فيما يسعى الاحتلال إلى رفع وتيرة الهدم في بلدة شعفاط ومخيمها، في إطار التطهير العرقي وتقليص عدد الفلسطينيين فيهما، أمّا قرية صور باهر، فبحكم موقعها على الجدار الفاصل مع الضفة الغربية وخصوصاً وادي حمص، وبيت حنينا الواقعة على الطريق الواصل إلى رام الله، إضافة إلى استهداف حي الشيخ جراح وبلدة بيت صفافا ورأس العامود وغيرهم، وذلك في إطار السعي إلى تهويد مدينة القدس وأحيائها، وتغليب الميزان الديمغرافي لصالح اليهود، وتنفيذ مخطط مركز المدينة القاضي إلى تقنين الوجود الفلسطيني على مساحة 689 دونماً في القدس الشرقية، بحجة “الحفاظ على التخطيط العمراني”، وفي هذا الإطار تزداد العقبات أمام الشباب المقدسي الذي يفكر في الزواج والبناء، وينذر بنزوح الشباب خارج أحياء المدينة.
ثانيًا: تنفيذ مشروع القدس الكبرى من خلال استهداف أحياء وقرى الفلسطينيين الواقعة خارج الجدار، ومنع الفلسطينيين من التوسع فيها والبناء في المساحات الفارغة، وذلك لربط المستوطنات القريبة من المدينة بالتجمعات الاستيطانية، وهي تجمعات: مستوطنات “جفعون/جفعات زيئيف” وتجمع “معاليه أدوميم”، وتجمع “غوش عصيون”، بمدينة القدس وضم المساحات الجغرافية التي تحوي أيضاً مستوطنات صغيرة في هذا المخطط، وفي هذا السياق يستمر الاحتلال بتحجيم القرى والتجمعات الفلسطينية الواقعة في داخل هذا المخطط، وينفذ عمليات هدم للمنازل الفلسطينية بحجة البناء في مناطق (ج) أو في منطقة “الحديقة القومية”، ففي عام 2022 سُجلت 134 حالة هدم في هذه المناطق كما هو موضح في الجدول أدناه:
المنطقة | عدد المباني السكنية المهدمة | عدد المنشآت الغير سكنية | التجمع الاستيطاني |
الجيب | 0 | 7 | جفعون حداشاه/ جفعات زيئيف |
حي الخلايلة | 0 | 10 | جفعون حداشاه/جفعات زيئيف |
الرام | 0 | 3 | عطاروت |
الزعيم | 1 | 25 | معالية أدوميم وميشور أدوميم |
السواحرة الشرقية | 2 | 6 | نيئوت أدوميم/ معاليه أدوميم |
جبع | 6 | 14 | آدم |
حزما | 0 | 6 | بسجات زيئيف |
عناتا | 14 | 26 | تسفون يورشلايم/ معاليه أدوميم |
قلنديا | 0 | 14 | عطاروت |
عمليات هدم في تجمعات فلسطينية لحقيق مشروع القدس الكبرى
ثالثًا: اشتعال الساحة الفلسطينية من مدخل القدس، حيث يؤدي التوجه المستمر نحو تنفيذ عمليات الهدم إلى إحداث تراكمات قد تؤدي إلى إشعال الساحة الفلسطينية كما حدث عام 2021، انطلاقاً من حي الشيخ جراح، حيث أنّ الحديث عن عمليات الهدم يزداد مجتمعياً وإعلامياً في ظل الإمعان “الإسرائيلي” المباشر في تصفية الوجود الفلسطيني عبر تصريحات “بن غفير”، التي ترافقت مع دعوات لرفع وتيرة أعمال الهدم وأحكام العقاب الجماعي بحق الفلسطينيين، وربط ذلك بعمليات المقاومة التي يخرج منفذوها من أوساط المقدسيين.
الخلاصة:
يشكل ملف الهدم أحد أبرز القضايا التي تشغل بال المقدسيين اليوم وفي المرحلة القادمة، في ظل انتقال اليمين المتطرف إلى مركز صنع القرار وتنفيذه والضغط تجاه ذلك، وفي ظل قدرة الاحتلال على التفرّد بالمقدسيين المعزولين عن باقي المناطق الفلسطينية ومساعي كسر معادلة وحدة الساحات الفلسطينية المستمرة، بتحويل مركز المواجهة نحو الشمال في جنين ونابلس، في الوقت الذي يستمرالاحتلال بتنفيذ مخططاته على الأرض داخل القدس.
[1] باحث حاصل على درجتي الماجستير في السياسات العامة من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، وفي الدراسات الدولية من جامعة بيرزيت في فلسطين، وله عدد من الأبحاث والأوراق المنشورة.