العمليات العسكرية “الإسرائيلية” وحملات الاعتقالات في الضفة الغربية: قراءة في الدلالات والأهداف

سليمان بشارات[1]

بالتزامن مع الحرب على قطاع غزة، صعدت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” إجراءاتها في الضفة الغربية بشكل غير مسبوق، لتشتمل تنفيذ حملات اعتقال يومية واسعة، وإغلاق غالبية الشوارع الرئيسة بين المحافظات، ووضع السواتر الترابية والمكعبات الإسمنتية والبوابات الحديدية، لتسهيل تقطيع أوصال الضفة.

هذه الإجراءات غير المسبوقة بكثافتها وحجمها، تزامنت أيضًا مع عمليات عسكرية وهدم للمنازل وقتل للفلسطينيين في الضفة، وهو ما يطرح سؤالًا: هل هذه الإجراءات تأتي ضمن خطوة “إسرائيلية” مدروسة لتحقيق أهداف بحد ذاتها؟ أم أنها ناتجة عن حالة التخبط التي يعيشها الاحتلال في أعقاب ما أحدثته عملية طوفان الأقصى؟

حملات اعتقال مكثفة:

أصدر نادي الأسير الفلسطيني السبت 21 أكتوبر/تشرين الأول إحصائية قال فيها إن قوات الاحتلال اعتقلت ما يزيد عن 1000 فلسطينياً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري في الضفة، استهدفت فيها شخصيات قيادية واعتبارية وسياسية، من بينهم رئيس المجلس التشريعي عزيز دويك، ونواب في المجلس، وأسرى محررون، غالبيتهم محسوبين على حركة حماس أو مقربين ومؤيدين للمقاومة، إضافة لإعلاميين وناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقد تركزت عمليات الاعتقال منذ بداية الحملة على محافظة الخليل، ثم تلتها محافظتي بيت لحم ورام الله، فيما توزعت بقية الاعتقالات على غالبية محافظات الضفّة، حيث يبلغ معدلات الاعتقال اليومي ما بين 100-120 مواطنًا فلسطينيًا.

نفذ الاحتلال إلى جانب الاعتقالات في الضفة، حملة اعتقالات طالت قرابة 4 آلاف عامل فلسطيني من قطاع غزة كانوا يعملون داخل الأراضي المحتلة عام48، حيث أشار نادي الأسير الفلسطيني إلى أنّ عدد الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال قفز من قرابة 5 آلاف أسير قبل معركة طوفان الأقصى ليصل الآن إلى قرابة 10 آلاف أسير فلسطيني، وقد شرعت إدارة سجون الاحتلال بفرض العقوبات عليهم وحرمانهم من كثير من الحقوق داخل سجونها.

اجتياح مخيم نور شمس:

نفذت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” مع فجر الخميس19أكتوبر/تشرين الأول الجاري عملية عسكرية كبيرة في مخيم نور شمس بمحافظة طولكرم، تشبه إلى حد كبير العملية العسكرية التي نُفذت قبل قرابة الشهرين في مخيم جنين للاجئين، في محاولة منها لإنهاء المقاتلين المنخرطين في كتيبة طولكرم، والتي تضم مقاومين من تنظيمات مختلفة في مقدمتهم حركتي حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى، وعلى مدار 48 ساعة من العملية العسكرية، ارتقى 13 شهيداً، غالبيتهم من المدنيين والأطفال، فيما أحدث الاحتلال دمارًا واسعًا في البنية التحتية وتدمير العديد من مركبات المواطنين وضرر كبير في منازل المخيم، ليرتفع عدد الشهداء الذين ارتقوا في الضفة منذ 7أكتوبر/تشرين الأول إلى 83 شهيدًا و1400 جريحاً وفقا لإحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية.

في المقابل، تمكن المقاومون من التصدي للاجتياح “الإسرائيلي”، وإيقاع ضابط “إسرائيلي” قتيلًا، إلى جانب إصابة 9 من الجنود بإصابات مختلفة وفقًا لاعتراف قوات الاحتلال، فيما فشل الاحتلال بالوصول إلى المقاومين، وهو ما شكًل له صفعة أشبه بتلك التي تلقاها عقب اجتياحه لمخيم جنين، وقد برز مخيم طولكرم في الأسابيع القليلة الماضية كامتداد لنموذج مخيم جنين، حيث تبنى المقاومون العديد من عمليات إطلاق النار واستهداف المستوطنين وإيقاع العديد من القتلى والجرحى بهذه العمليات.

حصار وتقطيع للأوصال:

مع الساعات الأولى لصباح يوم7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، اتخذ قوات الاحتلال خطوات سريعة بفرض إغلاق شامل على الضفة، وإغلاق المنفذ الوحيد للسفر عبر الأردن، فيما شرعت بوضع السواتير الترابية والمكعبات الإسمنتية والبوابات الحديدة على مداخل المدن، ونصبت العشرات من الحواجز العسكرية على الشوارع الفراعية والترابية للحد من تنقل المواطنين الفلسطينيين، وهو ما شكّل حالة من الحصار شبه الكامل على الضفة، إضافة إلى ذلك، برزت في الأيام الأولى حالة من نفاذ الوقود من غالبية محطات التعبأة، وبات الحديث عن إمكانية منع الاحتلال من تزويد الضفة بالبضائع الرئيسة التي يتم توريدها من قبل الاحتلال أو عبر الموانيء والمعابر التي يسيطر عليها.

كل ذلك، في محاول لمنع أي تحرك شعبي متزامن مع انطلاق معركة طوفان الأقصى، ولكن رغم ذلك لم تتوقف المسيرات الرافضة للحرب على قطاع غزة في كافة المدن والبلدات الفلسطينية، حيث تشهد غالبية المدن وقفات احتجاجية ومسيرات استجابة لدعوات الفصائل ومؤسسات المجتمع المدني والناشطين، والتي تتحول جزء منها إلى مواجهات عند الحواجز “الإسرائيلية”.

أهداف “إسرائيلية” متعددة:

في محاولة لفهم السلوك “الإسرائيلي” المتصاعد في الضفة بشكل مواز للحرب على غزة، فإن ذلك يمكن فهمه من خلال عدة اعتبارات:

أولًا: الترابط الجغرافي وخشية الامتداد المقاوم: أظهرت حملات الاعتقال اليومية تركيز الاحتلال على الاعتقالات في جنوب الضفة عموما ومحافظة الخليل على وجه الخصوص، وهي بمعنى الامتداد الجغرافي الأقرب إلى قطاع غزة، الأمر الذي قد يُقرأ على أنّ هناك خشية “إسرائيلية” من أنّ عمليات عبور المقاومين من غزة كما حدث يوم 7أكتوبر/تشرين الأول، قد يضع افتراضية وصول بعض هذه المجموعات المقاومة مستقبلًا إلى الخليل أو امتدادها الجغرافي، وهو ما قد يشكل أولًا حاضنة حماية لهم من جانب، ومن جانب آخر تسهيل الانطلاق لاستهداف التجمعات الاستيطانية المقامة على أراضيها.

ثانياً: إعادة الثقة لجنود الاحتلال: فبعد أن اهتزت ثقتهم بأنفسهم وفقا لما وثقته مشاهد الفيديوهات التي بثتها المقاومة خلال تنفيذهم اقتحام المستوطنات في غلاف غزة، بات يعمد جنود الاحتلال الذين يقتحمون منازل المواطنين في الضفة خلال عمليات الاعتقال اليومية إلى تعريض المعتقلين للضرب المباشر، وشتمهم بألفاظ نابيه، ومحاولة تقليد بعضا من حركات المقاومين كالدعس على رؤوس المعتقلين كما حدث لجنودهم الذين تعرضوا للأسر على يد المقاومة.

ثالثاً: إعادة تعزيز استراتيجية الردع “الإسرائيلية”: تشير العديد من القراءات إلى أنّ نظرية الردع “الإسرائيلية” اهتزت في أعقاب معركة طوفان الأقصى، بل بالعكس منحت الشعب الفلسطيني إمكانية تعزيز المبادرة في المواجهة، وهذا ما بات يخشاه الاحتلال في الضفة، فشرع في تنفيذ مجموعة من الخطوات الاستباقية سواء عبر إغلاق الحواجز الرئيسة بين المحافظات، وفرض شبه الإغلاق الشامل واستعراض القوة بارتفاع وتيرة الاستهداف اليومي من عمليات القتل والاعتقال وهدم المنازل والعمليات العسكرية.

رابعاً: إضعاف ردة الفعل الشعبية من خلال تغييب القيادات أو المؤثرين والتخوف لتحولها لانتفاضة شعبية: فأيّ تحرك جماهيري في الضفة دون وجود القيادة أو المؤثرين لتوجيه هذا الحراك يبقى وليد ردات الفعل وعدم القدرة على إحداث حالة من الانضباطية والتوجيه المركز، وهذا ما سعت له “إسرائيل” في ظل غياب قرار سياسي من القيادة الفلسطينية، وغياب منظمة التحرير الفلسطينية والتنظيمات الشعبية وفي مقدمتها حركة فتح، ما يجعل الجماهير تشارك في الفعاليات كنوع من التفريغ الداخلي دون تحوله لنموذج منضبط في خطة جماهيرية متصاعدة.

خامساً: تغييب أو إضعاف النموذج الملهم كما جرى من استهداف لكتبتي طولكرم ومخيم جنين، حيث يدرك الاحتلال “الإسرائيلي” أنّ تحول هذا النموذج المقاوم لحالة الهامية في الضفة مع توفر البيئة العامة في ظل العدوان على قطاع غزة يمكن أن يتطور من حيث الأداء والاتساع الجغرافي، وبالتالي سعت إلى استغلال الفرصة للانقضاض على مخيم نور شمس واستهدافه وإلحاق الأضرار والخسائر الكبيرة لإشغال الناس بإعادة ترتيب احتياجاتهم.

سادساً: الحفاظ على الحالة السياسية القائمة في الضفة؛ فقد أظهرت العديد من المؤشرات الميدانية تحول عدد من المظاهرات إلى حالة احتجاجية مطالبة السلطة الفلسطينية بالتحرك أو الانخراط المباشر بالمواجهة، أو مطالبة الأجهزة الأمنية الفلسطينية للاشتباك مع الاحتلال، الأمر الذي يعيد للذاكرة “الإسرائيلية” أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقبلها هبة النفق، التي كان لانخراط أفراد الأمن الفلسطيني انعكاسات في تطورات الحالة الميدانية ونمط المواجهة، وهو ما لا تريد “إسرائيل” له أن يتكرر مرة أخرى في هذه التوقيت.

الخلاصة:

يدرك الاحتلال “الإسرائيلي” أنّ الضفة الغربية تشكل خزّانًا بشريًا يمكن أن يحدث مشهدًا مغايرًا في ميدان المواجهة في حالة الانخراط أو التصعيد ضد الاحتلال، الأمر الذي لا تريد له أن يحدث، وبهدف تحقيق ذلك، تسعى “إسرائيل” لرفع ما يمكن بتسميته بـ”تكلفة المقاومة” من خلال اعتقالات مئات المواطنين الفلسطينيين حتى يتحولوا لجزء من فاتورة الانجازات الميدانية لها من جانب، ومن جانب آخر سعيها لاستخدامهم في مرحلة للمساومة المستقبلية، سيما إذ ما تم فتح مفاوضات حول ملف صفقة لتبادل الأسرى الفلسطينيين بما تمتلك فصائل المقاومة من أسرى للاحتلال في قطاع غزة.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى