السلطة الفلسطينية “المتجددة”.. محاولة فهم التصورات “الإسرائيلية” ومآلاتها
أ. كريم قرط[1]
باتت عبارة “السلطة الفلسطينية المتجددة” تتردد كثيرًا في سياق الحديث عن “اليوم التالي” في غزة بعد إنهاء حكم حركة المقاومة الإسلامية- حماس- وفق تعبيرات الاحتلال وداعميه، لا سيما بعد أن نادى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في مقال رأي نشره في صحيفة واشنطن بوست، وبعيدًا عن إمكانية الاحتلال من تحقيق هدف القضاء على حركة حماس في هذا العدوان، فإنّ معنى السلطة المتجددة ليس واضحًا، إذ لم يقدم بايدن تصورًا لما يقصده بهذا المصطلح.
عادت الولايات المتحدة لتأكيد هذا الأمر في عدة مناسبات، حيث جاء في بيان لوزارة الخارجية الأمريكية في 13 ديسمبر/كانون الأول أنّ “السلطة الفلسطينية ليست في وضع يسمح لها بإدارة غزة، لكننا نعتقد أنها ممثل للشعب الفلسطيني، وأنه يجب إصلاحها وتنشيطها للمضي نحو إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة وحكمهما”، ويمكن أن تستشف مما رشح من لقاءات المسؤولين الأمريكيين مع الرئيس محمود عباس بعض ملامح هذا التجديد والإصلاح، حسب وجهة النظر الأمريكية، ومنها الحاجة إلى إصلاحات لمكافحة الفساد، وتمكين المجتمع المدني، ودعم الصحافة الحرة، وتشمل أيضا تنازل الرئيس عباس عن بعض صلاحياته في السلطة، بتعيين نائب له، وتسليم المزيد من الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء، وإدخال شخصيات جديدة إلى القيادة.
هذه المطالب الأمريكية التي تلاقي قبولًا لدى السلطة الفلسطينية، لا تعبّر عن وجهة النظر “الإسرائيلية” فيما يتعلق بتجديد السلطة الفلسطينية؛ فعلى المستوى السياسي الرسمي، عبّر رئيس وزراء حكومة الاحتلال بصراحة في أكثر من موضع، أنه لن يسمح بعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وأطلق مقولته الشهيرة “لا حماستان ولا فتحستان“، غير أن ذلك لا يعني أنّ هذا المستوى، ومعه المستويين الأمني والعسكري، لن يطالبوا بإحداث تغيير في السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، حتى لو لم تعد لقطاع غزة، لا سيما مع تصاعد النقد “الإسرائيلي” العلني للسلطة، واتهامها بأنها “شريكة في الإرهاب”، لأنها تموّل “الإرهابيين” وعائلاتهم، وتعلّم أبناءها “الإرهاب” أيضًا، إذ يمكن أن يكون هذا الهجوم المستمر على السلطة الفلسطينية وما يترافق معه من وقف لأموال المقاصة ومنع العمال الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل من التوجه إلى عملهم، حتى وإن كان بسبب الحرب، وغيرها من القيود المفروضة على الضفة الغربية، مقدمة لإجبار السلطة على إجراء تغييرات جوهرية في سياساتها وطبيعتها مقابل فكفكة هذه الأزمات.
بعيدًا عن إمكانية تحقيق هذا الأمر من عدمه، أو قبول السلطة الفلسطينية به، فإنه من المهم أن نحاول فهم التصور “الإسرائيلي” لمفهوم “السلطة المتجددة”، وقد بدأت عدد من مراكز الأبحاث والإعلام لدى الاحتلال بوضع ملامح لهذا التصور، وما يمكن للاحتلال المطالبة به في هذا الإطار، وسنحاول في هذا التقرير توضيح هذا التصور وملامحه بالاعتماد على منتجات هذه المراكز البحثية.
استيقاظ مفاجئ:
بدأت الإدارة الأمريكية على وقع أحداث 7 من أكتوبر بالحديث عن حلول لما سمي “اليوم التالي”، على حقيقة أنّ السلطة الفلسطينية تعاني من إشكاليات عميقة، مع تأكيدها أنها هي البديل الأنسب لحكم غزة إذا تحقق هدف القضاء على حماس، مع ضرورة إصلاح السلطة أولًا، وقد أظهرت استطلاعات الرأي تراجع تأييد السلطة وشعبيتها في الشارع الفلسطيني، حيث أظهر استطلاع رأي للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أنّ ما يقرب من 70% من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، وأنّ 90% من الفلسطينيين يرون أنّ الرئيس عباس يجب أن يستقيل، وقد أظهرت استطلاعات الرأي خلال السنوات السابقة تراجعًا مستمرًا في شعبية السلطة، إلّا أنّ الإدارة الأمريكية لم تكن تكترث بهذه النتائج ولا بمظاهر الفساد والاستبداد التي تعاني منها السلطة، وعادت الآن للمطالبة بالإصلاحات.
بدأت مراكز الأبحاث والإعلام “الإسرائيلي” بدورها تتحدث عن هذه الإشكاليات، ففي مقال على موقع “غلوبس” “الإسرائيلي” بعنوان “هكذا ستصبح الحرب في غزة الانفجار الكبير بالنسبة للسلطة الفلسطينية” يحاول الصحفي “أساف غلعاد” تسليط الضوء على الحكم الاستبدادي وفساد السلطة الفلسطينية، ويحاول أن يستوضح فيه البدائل المحتملة لوجود قيادة جديدة للسلطة تعتمد بشكل أساس على بعض الشخصيات الفلسطينية المقربة من “إسرائيل” وأمريكا، من الداخل والخارج، للوصول إلى سلطة تكنوقراط منزوعة السياسة، وقد أجرى “أساف” حوارات مع باحثين “إسرائيليين” شرحوا له إشكاليات السلطة، ومن أولئك البروفيسور “ميخائيل ميلشتاين”، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز “موشيه ديّان”، ويرى “ميلشتاين” أنّ السلطة الفلسطينية نظام استبدادي قمعي فاسد ومكروه من شعبه ولا تحظى بشعبية، وأنّ استطلاعات الرأي العام تتمنى رحيل أبو مازن، كما ويتهم شركاؤه بالفاسدين، ونعت حكومته بسماسرة تصاريح العمال في “إسرائيل”، وأنّ متوسط العمر في الحكومة الفلسطينية يتراوح بين 70 إلى 80 عامًا، ولا يرى الشباب إمكانية التعبير عن أنفسهم فيها.
يبدو هذا النقد الّلاذع للسلطة الفلسطينية مستغربًا، فكل إشكالياتها التي يتحدث عهنا الأمريكيون و”الإسرائيليون” هم السبب الحقيقي في وجودها، وهم فعليًا الذين عملوا على إيصال السلطة إلى هذا الوضع المزري من الضعف والترهل وتآكل الشرعية، فقد عمل الاحتلال طوال عمر السلطة على إضعافها وتحويلها إلى كيان مرتبط بدور وظيفي، على خلاف الهدف الذي نشأت لتحقيقه، وهو إقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967، ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن تكون أية حكومة مرتبطة بدور أمني معارض لتوجهات الشارع إلّا على هذه الشاكلة، وهذا ما يدركه “الإسرائيليون” والأمريكيون جيدًا، ومن الطبيعي أن لا تحظى السلطة بتأييد شعبي كبير؛ بسبب استمرارها في علاقتها مع الاحتلال، بالرغم من استمرار الاستيطان الذي أوشك على التهام الضفة، واعتداءات المستوطنين اليومية على الفلسطينيين، وكما هو معروف فإنّ التعارض بين الإرادة الشعبية وسياسة السلطة سيجعلها تميل إلى القمع والاستبداد لإخماد المعارضة لها ولسياساتها.
إنّ تصاعد النقد في هذه المرحلة لا يعني أنّ الإدارة الأمريكية والاحتلال يريدان إيجاد سلطة تحظى بتأيد شعبي وخالية من الاستبداد والفساد، وإنما هو مرتبط بمسعى تغيير السلطة الفلسطينية جذريًا حسب التصور “الإسرائيلي”، بما يخدم مصالح الاحتلال في إنهاء القضية الفلسطينية تحت ستار “إصلاح السلطة”.
التصور “الإسرائيلي”:
أصدر عدد من مراكز الأبحاث “الإسرائيلية” أوراقًا وضعوا فيها تصورات لمعنى السلطة المتجددة، ومع أنّ هذه التصورات لا تعبّر عن السياسة “الإسرائيلية” الرسمية، إلّا أنها تعطي تصورًا لما يدور في العقل “الإسرائيلي” حول مستقبل السلطة الفلسطينية؛ ففي ورقة للباحث في معهد أبحاث للأمن القومي “الإسرائيلي” “أودي ديكل”، بعنوان “نعم أو لا للسلطة الفلسطينية، يجب أن تكون لدى إسرائيل فطنة سياسية “، يرد أن على “إسرائيل” أن تضع شروطًا لإيجاد السلطة المتجددة، ومن هذه الشروط:
- سلطة مستقرة ومسؤولة، تعمل بفاعلية، ولا فساد فيها.
- اعتراف رسمي من السلطة بدولة “إسرائيل” دولةً قومية للشعب اليهودي، ووقف التحريض على العنف والتطرف، والمصادقة على جميع الالتزامات التي وقّعتها منظمة التحرير في إطار “أوسلو”، والالتزام بتطبيقها.
- تركيز احتكار القوة في يد السلطة، وأيضاً استمرار التنسيق الأمني الوطيد مع “إسرائيل”.
ويفصّل “ديكل” هذه الشروط أكثر في المجالات المستهدفة لإحداث التغييرات:
مجال الأمن: من خلال إعلان السلطة المجددة معارضة كل مقاومة مسلحة ضد “إسرائيل”، وتطبيق مبدأ “السلطة الواحدة، القانون الواحد والسلاح الواحد”، وتفكيك كل قوة مسلحة في مناطقها، ومنع حمل السلاح، وجمع السلاح غير القانوني، وأن تكون أجهزة الأمن الموحدة للسلطة القوة الوحيدة المسلحة بسلاح شرطي فقط، ويكون المنسق الأمني الأميركي هو مَن يقرر كيف تكون خطة تجهيز أجهزة أمن السلطة المطلوبة.
مجال التعليم: تحديث المناهج التعليمية، بحيث لا تتضمن أيّة مضامين ضد “إسرائيل” واليهود، ونشر التعليم عن التعايش، هذا بالإضافة إلى منع التحريض في وسائل الإعلام والمساجد ووسائل التواصل الاجتماعي.
مجال الاقتصاد: تشكيل منظومة تمنع توزيع الأموال على الأسرى والشهداء وعائلاتهم، واقتصارها على رواتب الموظفين، عبر رقابة فاعلة لمنع الفساد، كما يمكن للسلطة توقيع اتفاقيات تجارة حرة، وأن يكون لها عملة خاصة، ونظام ضرائب مستقل، بالإضافة إلى إدارة سياسات اقتصادية.
المجال الدولي: وقف شكاوى السلطة ضد “إسرائيل” في المحاكم الدولية.
غير أنّ “ديكل” لا يضع في تصوره أيّ مقابل يمكن أن تحصل عليه السلطة لقاء تنفيذ هذه الشروط، ما يعني أن تتحول السلطة إلى مجرّد أداة لإدارة السكان الفلسطينيين، أشبه ببلدية كبرى.
في ورقة موقف صادرة عن معهد القدس للاستراتيجية والأمن، من إعداد “كوبي ميخائيل” و”غابي سيبوني” بعنوان “عكس الوجهة – من قطاع غزة إلى الضفة الغربية“، يوضح الباحثان الهدف النهائي لمعنى السلطة المتجددة، وهو أن تتحول إلى “إدارات مدنية” وليس إدارة واحدة، تشمل تقسيم الضفة الغربية إلى عدة إدارات منفصلة تديرها هيئات تكنوقراط دون أية صلاحيات سياسية، وبسيطرة أمنية كاملة للاحتلال، وصولًا إلى إنهاء القضية الفلسطينية.
ورد في الورقة أنه من الصحيح محاولة بناء حكومة مدنية تكنوقراطية فلسطينية كنموذج لآلية جديدة يتم إنشاؤها في الضفة الغربية (سلطة فلسطينية متجددة)، فيما أن آلية الإدارة المدنية التي يتم إنشاؤها في غزة ستعمل بشكل مستقل ومنفصل، فضلًا عن فكرة تقسيم الضفة الغربية إلى عدة مناطق منفصلة للإدارة المدنية، بهدف تسريع عمليات التغيير التي تتطلبها الدولة اليهودية، فيما تُترك المسؤولية الأمنية الشاملة ل”إسرائيل”، وتُحل قوات الأمن التابعة للسلطة، وبناء على ذلك، سيتطلب هذا الأمر إحداث تغييرات مهمة في عدة جوانب:
- التغيير الكامل للمناهج التعليمية.
- منع الفساد والمحسوبية.
- إنهاء أهم عنصرين في العقلية الفلسطينية، اللذان يعملان على إدامة الصراع وهما، حق العودة وعدالة الكفاح المسلح، ولهذا الغرض، لا بد من تفكيك كافة أدوات إدامة ذكرى اللجوء الفلسطيني، وهذه الأدوات هي مخيمات اللاجئين نفسها، ومنظمة الأونروا.
أصدر نفس المعهد ورقة سياسات أخرى بعنوان “توصيات لسياسات إسرائيلية فيما يتعلق بـ”اليوم التالي“، وهي جهد مشترك لباحثي المعهد، ويشير الباحثون إلى أنه من بين الخيارات المختلفة لليوم التالي في غزة فإنّ خيار عودة السلطة من الناحية الأمنية هو الأفضل ل”إسرائيل”، لأن وجود قوات دولية أو عربية أو قوات ناتو ربما سيعيق حرية عمل جيش الاحتلال في قطاع غزة، ولكن وجود السلطة لن يعيق هذه الحرية، فالسلطة الفلسطينية معتادة على عمل قوات الاحتلال في مناطقها كما يرد في الورقة.
يعيد الباحثون تكرار الشروط التي يجب على السلطة تنفيذها حتى تكون سلطة متجددة، وهي وقف رواتب الأسرى وعائلاتهم، وتغيير مناهج التعليم، وإنهاء الأونروا، وتجريم حماس في القانون الفلسطيني، وغيرها من الشروط “الإسرائيلية” المتكررة، ولكن في ذات الورقة خُصص فصل للبروفيسور “أفرايم عنيفار” تحت عنوان: “دعوا السلطة الفلسطينية تفشل في غزة”، يجادل فيه أن وجود السلطة الفلسطينية الضعيفة والفاشلة هو ميزة ل”إسرائيل”، فهدف بايدن، حسب عنفيار، من تجديد السلطة هو عودتها إلى قطاع غزة، وإعادة توحيد الضفة الغربية مع غزة تمهيدًا لإقامة دولة فلسطينية، وعلى “الإسرائيليين” أن يتماشوا مع الطرح الأمريكي لأهمية دعمه ل”إسرائيل”، لا سيما بعد 7 أكتوبر، غير أنه يرى أن السلطة الفاشلة في الضفة حتمًا ستكون فاشلة في غزة، وبهذا تستطيع “إسرائيل” أن تحافظ على حرية عملها الأمني، والمطالبة بالاحتفاظ بمنطقة عازلة داخل القطاع، وأيضًا هذا الفشل الذي ستمنى به السلطة سيعيق إمكانية إنشاء دولة فلسطينية.
يفترض “عنيفار” فشل السلطة ومن ينوب عنها في غزة، ويعتبر أن فشلًا آخر للحركة الوطنية الفلسطينية هو أمر جيد ل”إسرائيل” في صراع الأجيال بين الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية، حيث أنّ سلسلة من الإخفاقات الفادحة والألم المتراكم ستجعل الفلسطينيين يدركون أنه من الأفضل عدم محاربة الصهاينة، وصولًا إلى أن يتخلى الفلسطينيون عن أحلامهم وفق تعبيره.
إمكانية التنفيذ:
تقترن قدرة الاحتلال على تطبيق تصوراته المتعددة فيما يتعلق بـ”اليوم التالي” عمومًا، و”السلطة المتجددة” خصوصًا، على نتائج العدوان الحالي، فقدرة الاحتلال على تحقيق أهدافه المتمثلة بالقضاء على حركة حماس وتفكيك حكمها ستكون هي الطريق التي يعبر منها لتنفيذ أهدافه حول مستقبل القضية الفلسطينية، فيما أنّ صمود المقاومة هو الكفيل بإفشال مخططاته.
لا يشير الواقع إلى أنّ الاحتلال قريب من تحقيق أهدافه، فدخول العدوان شهره الثالث والمقاومة الفلسطينية ما زالت تقاوم وتوقع الخسائر في صفوف قوات الاحتلال بصورة لم يكن يتوقعها مطلقَا، جعلت العديد من “الإسرائيليين” يبدأون بالتشكيك في قدرتهم على تحقيق أهداف العدوان، إذ قال مؤخرا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “الإسرائيلية” (أمان) السابق “أهارون زئيفي فركش” إن الأهداف التي حددها الاحتلال لحربه “ليست واقعية“، في حين قال أحد الضباط الكبار المتقاعد “إسحاق بريك” أنّ جيش الاحتلال لا يقدم أرقامًا حقيقية لواقع المعارك في قطاع غزة، وأنه يسعى لتحقيق صورة نصر، وهو ما زال بعيدًا عنه، ويقول أنه “كان من الأفضل أن تكون أكثر تواضعًا” فيما يتعلق بأهداف الحرب، ويضيف أنّ جيش الاحتلال لا يملك حلًا سحريًا لأنفاق المقاومة، التي سيحتاج لتدميرها سنوات طويلة وموارد ضخمة، وقد أكد أنّ العديد من الضباط الذين يقاتلون في غزة أخبروه أنه “سيكون من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، منع حماس من إعادة بناء نفسها، حتى بعد كل الدمار الذي ألحقه الجيش “الإسرائيلي” بقواعدها”.
تشير هذه التصريحات إلى أنّ هناك تشككًا “إسرائيليًا” متصاعدًا في إمكانية تحقيق أهداف العدوان، ويترافق ذلك مع تصاعد الضغط الشعبي “الإسرائيلي” على حكومة الاحتلال لعقد صفقة تبادل أسرى مع المقاومة، ما يصطدم بموقف المقاومة المعلن بأنها لن تذهب لصفقة إلّا بعد وقف العدوان، ومع مرور الوقت فإنّ هذا الضغط الشعبي سيتصاعد ويشكل مأزقًا حقيقًا لحكومة الاحتلال، قد يجبرها على إجراء تعديلات جوهرية على مسار العدوان.
من ناحية أخرى، فإنّ الاحتلال يواجه تهديدًا متصاعدًا باحتمال توسع الحرب وفتح جبهة جنوب لبنان، التي من المحتمل أن تشمل الجولان أيضًا، فضلًا عن الضغط المستمر المرشح للتصاعد في البحر الأحمر، لا سيما وأنّ جماعة أنصار الله الحوثية تربط وقف إغلاق البحر الأحمر في وجه السفن “الإسرائيلية” والمتعاملة معها بفك الحصار عن غزة ووقف العدوان، ويضاف إلى ذلك الوضع المضطرب في الضفة الغربية التي قد يؤدي استمرار الضغط ا”لإسرائيلي” عليها إلى حدوث احتجاجات واسعة، قد تكون موجهة ضد السلطة الفلسطينية أيضًا، في حال تماشت مع الاحتلال في مخططات “اليوم التالي”.
بعيدا عن ذلك كله، يناقش أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية في جنيف “ديفيد سيلفان” السعي الأمريكي لإيجاد “سلطة متجددة” لتحل محل حركات المقاومة الفلسطينية في مقال له بعنوان “السلطة الفلسطينية لن تنقذ غزة“، يخلص “سيلفان” إلى نتيجة بأنّ سياسة تهيئة “قوة ثالثة”، وهو هنا يشير إلى السلطة الفلسطينية، ظهر عبر التاريخ أنها مجرد أوهام وليست حلولًا، وهذا ما يسميه “الطريق المسدود”، ويسوق أمثلة تاريخية من صراعات مختلفة حاولت قوى الاستعمار خلالها أن تأتي بطرف محلي ثالث لتنصبه محلّ قوى المقاومة، غير أنه يقول أنها كلها باءت بالفشل، ويختصر هذه المعادلة بقوله إن “السلام يتم بين الأعداء، وليس بين الأصدقاء”. ولذلك على الولايات المتحدة و”إسرائيل” التوجه للتفاوض مع حماس لإنهاء الصراع، والبديل لذلك هو استمرار القتال لأشهر أو سنوات، ولكنه حتى إن تمكنت “إسرائيل” من القضاء على حماس، لن يجعل السلطة الفلسطينية أقوى وأكثر قدرة على إدارة قطاع غزة.
الخلاصة:
ما سبق استعراضه من تصورات “إسرائيلية” هو بعض من إنتاج مراكز الأبحاث “الإسرائيلية” التي بدأت مؤخرًا تنشط في وضع تصورات لمفهوم “السلطة المتجددة”، ومن المتوقع أنّ هذا الإنتاج البحثي سيتزايد خلال الفترة القادمة، غير أنّ ما سيصدر جديدًا لن يختلف في مضمونه عما صدر؛ فالتصورات السابقة التي استعرضناها هي نتاج لمركزين من المفترض أنهما مختلفان في الرؤية حول مستقبل القضية الفلسطينية، ففي حين كان معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي” ينادي بإقامة دولة فلسطينية، ضمن تصور معين، لمنع سيناريو “الدولة الواحدة ثنائية القومية”، فإن معهد القدس هو من المراكز البحثية ذات الأجندة اليمينية التي ترفض خيار الدولتين والدولة الواحدة أيضا. ومع ذلك فإن تصوارتهم لمستقبل السلطة الفلسطينية تكاد تكون متطابقة.
إن هذه التصورات هي فعليًا مخطط لإنهاء القضية الفلسطينية، تحت شعار “إصلاح السلطة”، وتحويلها إلى إدارات مدنية تابعة كليًا للاحتلال، بحيث يتحكم في اقتصادها ورواتبها ومؤسساتها، وتترك له السيطرة الأمنية الكاملة، وهذا التصور يعيدنا لتصور وزير مالية الاحتلال، المستوطن “بتسلإيل سموتريتش” في خطته المعروفة بـ”خطة الحسم”، وهي خطة أعاد فيها سموتريتش إنتاج طروحات صهيونية قديمة حول مستقبل الأراضي الفلسطينية، ونادي بتقسيم الضفة إلى عدة إدارات محلية مستقلة عن بعضها لتفكيك الشعب الفلسطيني ومنعه من تحقيق تطلعاته الوطنية، ويرى تطبيق هذا المخطط يترافق مع عملية “هجرة طوعية” ستتولى دولة الاحتلال تنفيذها وتعزيزها لإفراغ الضفة وغزة من أكبر قدر من الفلسطينيين، وقد بتنا نسمع في الآونة الأخيرة مصطلح “الهجرة الطوعية” يتردد كثيرا في النقاشات “الإسرائيلية”، حيث قال “نتانياهو” صراحة خلال اجتماع مغلق مع نواب حزب الليكود أنه بات يعمل على “خطة هجرة طوعية” وأنّ المشكلة الوحيدة التي تعترض تلك الخطة تكمن في الدول المستعدة لاستيعاب اللاجئين، وهو يعمل على حل هذه المشكلة، ومع أنّ حديث “نتانياهو” وغيره من قادة الاحتلال يقتصر حاليًا على قطاع غزة، إلّا أنّ هذا النمط من التهجير يسير على قدم وساق في الضفة الغربية، وإذا ما تمكن الاحتلال من تطبيق تصوره حول “السلطة المتجددة” في الضفة الغربية فإن التهجير سيتصاعد فيها أيضا.
ليس من المؤكد أن يتمكن الاحتلال من تنفيذ تصوراته “لليوم التالي” لأنه فعليَا ما زال عاجزَا عن تطبيق خططه “لليوم الحالي”، فما زالت المقاومة الفلسطينية وحلفاؤها قادرة على إفشال مخططات الاحتلال حاليَا ومستقبلَا، ولكن هذه التصورات من المهم أن تكون واضحة للطرف الفلسطيني الذي يبدي استعداده لتولي المسؤولية في “اليوم التالي”، وقبول فكرة التجديد الأمريكية “الإسرائيلية”، ففي نهاية المطاف لن تكون هذه المخططات سوى في سياق عملية إنهاء للقضية الفلسطينية.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله