الخيارات “الإسرائيلية” المعقدة في قطاع غزة

، ومسارعة الاحتلال في صياغة الواقع في ظل صمود المقاومة

أ. كريم قرط[1]

أعلنت دولة الاحتلال الحرب على الشعب الفلسطيني واضعة هدفًا كبيرًا لها، وهو “القضاء على حركة حماس”، غير أنّه بدا واضحًا منذ البداية أنّ الاحتلال ليس لديه تصور عن كيفية تحقيق هذا الهدف، بل إنّ هناك شكوكا في إمكانية تحقيقه، ولعل رئيس وزراء حكومة الاحتلال الأسبق “إيهود باراك” أفضل مَن عبّر عن تلك الشكوك، إذ صرّح في مقابلة أنّه لا يمكن القضاء على حماس بشكل كامل لأنها حركة “أيديولوجية، وهي موجودة في أحلام الناس وفي قلوبهم وفي عقولهم”، وهذا الرأي ليس حكرًا على “باراك”، إذ يمكن القول أنّ حكومة الاحتلال وخبرائها مدركون لهذه الحقيقة.

يتبدى لدى الاحتلال من هنا أنّ المشكلة ليست حماس، وإّنما هي قطاع غزة بأهله البالغ عددهم أكثر من مليونين و200 ألف مواطن، ما فتح الجدال حول “اليوم التالي” بعد القضاء على حماس، وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المبادرة لطرح هذا الموضوع عندما أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خلال زيارته لدولة الاحتلال واجتماعه مع “كابينت” الحرب “الإسرائيلي” في 18 أكتوبر/تشرين الأول، عن طرح أسئلة صعبة على قادة الاحتلال، حيث ورد أنّ “بايدن” قال لقادة الاحتلال خلال اجتماعه معهم: “ابدؤوا بالتفكير في ما سيحدث في اليوم التالي، كيف ترون بعد شهر أو شهرين أو عام – لديكم كل الشرعية والوقت للقتال – ولكن ماذا سيحدث في اليوم التالي؟”، ولعلّ هذا السعي الأمريكي لإيجاد ترتيب لمستقبل غزة جاء بعد أن تبين للولايات المتحدة ودولة الاحتلال أنّ هناك رفضًا عربيًا واسعًا لمسألة تهجير غزة إلى سيناء أو غيرها.

يثير هذا الموضوع عددًا كبيرا من الأسئلة حول البدائل التي طرحتها دولة الاحتلال بدعم أمريكي كامل لحل “مشكلة قطاع غزة”، وكذلك المعيقات التي تواجهها هذه البدائل، وما هو الخيار الذي تنفذه دولة الاحتلال حاليا على الأرض؟ على الرغم من أنّ دولة الاحتلال عزمت أمرها على التمسك بخيار التهجير حلًا نهائيًا لما تراه في قطاع غزة من مشكلة دائمة “لأمنها” وأمن “المشروع الصهيوني” برمته، وهذا الخيار تنفذه على الأرض دون الإعلان الرسمي عن تبنيه، مع إدراكها للرفض العربي، المصري والأردني تحديدًا، وحجم المخاطر التي ينطوي عليها هذا الخيار.

بدائل الاحتلال لمستقبل غزة

كتب البروفيسور الصهيوني “ميخائيل ميلشتاين”، المستشرق الذي شغل منصب مستشار “المنسق” بين عامي 2015 -2018، والباحث في معهد “موشيه ديان” المختص في دراسة العالم العربي والإسلامي، مقالًا بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بعنوان “من سيحكم غزة؟ هذه هي الخيارات، وكلهن سيئات“، ولعله كان من أوائل من تطرقوا إلى هذه المسألة لدى قادة الاحتلال وخبرائه، مستغلا خبرته المعرفية الاستشراقية التي شكّلها عن المجتمع الفلسطيني.

 استهل “ميلشتاين” مقاله بالتشكيك في إمكانية القضاء على حماس، إلّا أنّه في حال نجاح الاحتلال في القضاء على حماس، وهو الأمر غير المؤكد، فإنّ أمامه أربعة خيارات لمستقبل غزة، اثنان منهم سيئان، واثنان أكثر سوءّا، أما الأكثر سوء والواجب الامتناع عنهما، فهما:

  • احتلال قطاع غزة من جديد، وحكم “إسرائيلي” مستمر، وهذا الخيار سيكون له ثمن باهظ أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وهو شبيه لما حدث مع الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.
  • القضاء على حكم حماس والخروج سريعًا من غزة، وهذا سيخلف وراءه فراغًا سرعان ما يتحول إلى فوضى خطيرة أمنيًا.

أما الخياران السيئان:

  • إعادة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، ولكن تحقيق هذا الخيار يتطلب أن تتخلص حكومة “إسرائيل” من تصور أنّ السلطة الفلسطينية عدو أسوأ من حماس، وأيضا لا يبدو أنّ السلطة الفلسطينية التي تدير الضفة الغربية بصعوبة ستكون معنية بتولي هذه المهمة المعقدة، وإذا قبلت بهذه المهمة “على ظهر دبابة “إسرائيلية” فليس معلومًا كم من الوقت ستصمد.
  •  بلورة نظام سياسي بديل يدير غزة بناء على قيادات محلية (رؤساء بلديات، وجهاء، عشائر) بمشاركة السلطة الفلسطينية ودعم خارجي من مصر.

على الرغم من أنّ “ميلشتاين” يبدي ميله للخيار الأخير كأقل خيار سوءًا، إلّا أنّه مع ذلك يشكك في إمكانيته أيضّا، ما يعنيه ذلك هو أنّه كان واضحًا منذ البداية بأنّ الخيارات المطروحة أمام دولة الاحتلال لمستقبل غزة قليلة وصعبة، إن لم تكن مستحيلة التحقيق، غير أنّ دولة الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها دول غربية من أهمها بريطانيا وألمانيا حاولت تطبيق هذه الخيارات وغيرها، فمع كل مرة تتبين فيها استحالة أو صعوبة أحد الخيارات تنتقل هذه الدولة إلى خيار آخر.

خيار التهجير:

كان الخيار الأول الذي سعت دولة الاحتلال إلى تنفيذه بدعم أمريكي وغربي كامل هو تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، وكان الحديث حينها يدور حول تهجير مؤقت ريثما تنتهي دولة الاحتلال من مهمتها في القضاء على حركة حماس، إذ إن طرح هذا الخيار جاء قبل إقدام جيش الاحتلال على التوغل البري في قطاع غزة، وذلك لأنّ قادة الاحتلال كانوا يدركون صعوبة تنفيذ العملية البرية في ظل اكتظاظ القطاع بسكانه، غير أنّ خروج السكان منه يعني حتميًا عدم عودتهم إليه، وهذا هو الهدف النهائي للاحتلال.

لم يعلن أيّ من المسؤولين “الإسرائيلين” أو الغربيين، لا سيما الأمريكيين، صراحة عن فكرة تهجير الفلسطنيين من قطاع غزة إلى سيناء، إلّا أنّ هناك الكثير من التصريحات والدعوات غير الرسمية أو من مسؤولين متطرفين، دعت إلى تهجير سكان غزة، ومن ذلك دعوة الوزير “الإسرائيلي” “آفي دختر” الذي وصف نزوح الفلسطينيين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بـ”نكبة 2023“، غير أنّه منذ بداية الحرب، ومع تصاعد الحديث عن الغزو البري للقطاع، بدأت بعض الدوائر “الإسرائيلية” والأمريكية بالدعوة لتوفير ما تسمية “ممرات إنسانية آمنة” إلى سيناء لتجنيب المدنيين الفلسطينيين آثار الحرب، إضافة إلى اشتمال خطة الدعم المالي لأوكرانيا ودولة الاحتلال التي قدمها الرئيس الأمريكي “بايدن” للكونغرس الأمريكي على بند بقيمة 3.495 مليارات دولار، تحت عنوان “مساعدات الهجرة واللجوء“، وهي عبارة غامضة، ولكنها اقترنت مع الجهود الأمريكية لإقناع الدول العربية بتهجير أهالي غزة.

تولى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” مهمة الترويج لخيار التهجير، وذلك خلال جولة له امتدت من 11 إلى 16 أكتوبر/تشرين الثاني، ل 7 دول في المنطقة، بيد أنّه لم يصدر عنه أيّة تصريحات بهذا الخصوص، وإنّما أعلن في نهاية جولته أنّ الولايات المتحدة تعارض فكرة التهجير، غير أنّ الرفض المعلن شديد اللهجة المتكرر لدى عدد من الدول العربية لمسألة التهجير، خاصة مصر والأردن، يشي بحجم الضغوط التي مورست على هذه الدول للقبول بفكرة التهجير، ولعلّ أهمها إعلان مجلس الأمن القومي المصري الذي ترأس اجتماعه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 15 أكتوبر/تشرين الثاني، رفضه واستهجانه لسياسة التهجير، مؤكدًا أنّ الأمن القومي المصري خط أحمر، في إشارة إلى أنّ مخطط التهجير يشكل تهديدًا للأمن القومي المصري، وكذلك صدرت عن الأردن تصريحات متتالية توضح أنّ تهجير الفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة يعتبر إعلان حرب على الأردن، وقد جاءت إحداها على لسان رئيس الوزراء الأردني بشير الخصوانة.

بدائل متعددة مرفوضة:

بعد هذا الرفض العربي الصريح لمخطط التهجير، بدأت الولايات المتحدة على لسان رئيسها الذي زار دولة الاحتلال واجتمع مع “كابينت” حربها في 17 أكتوبر/تشرين الثاني بدعوة الاحتلال للتفكير في اليوم التالي، وقد طُرحت عدة مخططات منذ ذلك الحين لمستقبل غزة، من الواضح أنّ جميعها فشلت ولم تحظُ بأي قبول أو إجماع عربي، ومن تلك المخططات إعادة السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، أو تسليمه للإدارة المصرية، أو تسليمه لإدارة دولية عربية مشتركة، أو تسليمه لقوات الناتو والأمم المتحدة، أو إعادة الاحتلال “الإسرائيلي” للقطاع.

رُفضت كل المشاريع الأمريكية و”الإسرائيلية” فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة عربيًا وإقيمليًا، وبالتحديد من مصر والأردن، لأنهما سيكونان الأكثر تأثّرًا بتبعات أي سيناريوهات يحاول الاحتلال فرضها في قطاع غزة، حيث جاء أنّ السيسي أوضح لمدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “ويليام بيرنز” خلال زيارته للقاهرة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، ما يمكن أن يسمى اللاءات المصرية الأربعة، وهي: رفض تهجير سكان القطاع، ورفض إعادة “إسرائيل” احتلال قطاع غزة وإدارته، ورفض مقترح الإدارة المصرية للقطاع، ورفض قوات الناتو فيه أو أي قوات أجنبية أخرى فيه.

مع هذا الرفض العربي والإقليمي، أخذت الولايات المتحدة تتراجع شيئًا فشيئًا عن أطروحاتها المتنوعة لمحاولة إيجاد مخرج لدولة الاحتلال من المأزق الغزي، حيث قدّم “بلينكن” خلال وجوده في طوكيو لحضور قمة مجموعة السبع، ما يوصف  بـاللاءات الخمس، وهي “لا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، لا لاستخدام غزة منصة للإرهاب، لا لإعادة احتلال غزة بعد انتهاء الصراع، لا لحصار غزة، لا لتقليص أراضي غزة”، بيد أنّه لا يبدو أنّ دولة الاحتلال قد انصاعت لهذه المحاذير الأمريكية، فقد أعلن رئيس وزراء الاحتلال رفضه لفكرة عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة، إذ صّرح: “لن نقبل بعودة نظام يعلّم أولاده قتل اليهود وكراهيتهم، ويموّل الإرهابيين ولم يدن الفظائع في 7 تشرين الأول/ أكتوبر”. وفي المقابل أكّد إصراره على الاحتفاظ بسيطرة أمنية على قطاع غزة، تشمل “القدرة على دخول الجيش “الإسرائيلي” إلى القطاع متى يشاء لتصفية إرهابيين من الممكن أن ينشؤوا في القطاع”، وعارض في ذات الوقت فكرة تسليم القطاع لقوات دولية.

عاد نتانياهو ليؤكد موقفه بخصوص السلطة الفلسطينية واحتلال غزة في المؤتمر الذي عقده برفقة بني غانتس ويؤاف غلانت في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، إذ اختتمه بالقول: “لن أوافق على أن تدخل إلى غزة أية جهة تدفع الأموال للإرهاب والمخربين ولعائلاتهم وتربي الأطفال على قتل اليهود والقضاء على دولة “إسرائيل”، وبدون مثل هذا التحول في طابع الإدارة المدنية التي ستتواجد في غزة، فإنها مجرد مسألة وقت حتى تعود غزة للإرهاب ولن أقبل بذلك”، ويشير هنا إلى السلطة الفلسطينية التي تسري دعاية حولها لدى المستوطنين بأنها الوجه الآخر لحماس، ويضيف نتنياهو فيما يتعلق ببقاء سيطرة الاحتلال على غزة: “هناك شرط آخر أضعه لليوم التالي، بأن “جيش الدفاع” سيتمتع بحرية كاملة للتصرف في قطاع غزة في مواجهة كل تهديد، فقط بهذه الطريقة سنضمن نزع غزة من السلاح”.

على الرغم من أنّ هناك معارضة أمريكية لهذه المواقف “الإسرائيلية”، وتأكيدًا أمريكيًا على  وجود “قيادة فلسطينية واتحادًا لغزة مع الضفة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية”، إلّا أنّ هناك غموضًا في هذه المواقف، فقد أشار “بلينكن” إلى الحاجة إلى “فترة انتقالية ما” في نهاية الحرب، وأنّ دولة الاحتلال ستتولى لفترة غير محددة المسؤولية الأمنية الشاملة في غزة.

تحمل هذه العبارات درجة كبيرة من الغموض والمناورة، فهي تستبطن بداخلها إمكانيات كثيرة، من أهمها بقاء الاحتلال “الإسرائيلي” للقطاع، خاصة أنها تقول “لفترة غير محدودة”، كما أنّ فكرة المرحلة الانتقالية تعني مرحلة إعداد نظام لإدارة غزة لا تستبعد منه أيّ من الخيارات المطروحة، على أيّة حال لا يبدو أن هناك اختلافًا كبيرًا في وجهات النظر بين دولة الاحتلال والولايات المتحدة فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة.

معيقات كبيرة:

بدا واضحًا منذ البداية أنّ كل البدائل المطروحة غير قابلة للتطبيق، حسب ما وضّح “ميلشتاين” قبل أن يبدأ طرح هذه البدائل، غير أنّ التناول الكثيف للمخططات “الإسرائيلية” والأمريكية خلال أيام الحرب يثير علامات استفهام كبيرة، فهناك عوائق كثيرة أمام تنفيذ أيّ من هذه البدائل، ومن أهمها:

  • المعارضة العربية والإقليمية لمعظم هذه المخططات، وهذا الأمر مهم جدًا، لأنّ تنفيذ عدد منها يحتاج موافقة ومشاركة عربية.
  • ضعف السلطة الفلسطينية وتآكل شرعيتها وعجزها عن إدارة الضفة الغربية، فضلًا عن المساعي “الإسرائيلية” الواضحة للإمعان في تهميشها وإضعافها وحصرها في دور وظيفي محدد.
  • احتمال فتح جبهات حرب جديدة، لا سيما من طرف حزب الله، الذي أكّد أمينه العام حسن نصر الله أنّه لن يسمح بهزيمة المقاومة الفلسطينية وحماس تحديدًا.
  • العامل الأكثر تأثيرًا هو أنّ المقاومة ما زالت تقاوم، ويبدو بوضوح أنًها بعيدة جدًا عن الهزيمة العسكرية، وفي المقابل، لم يتمكن جيش الاحتلال من احتلال قطاع غزة ولا شماله حتى، فتقدمه بطيئ جدًا، ومناطق تقدمه هي مناطق مواجهة متصاعدة، وليست مناطق احتلال وتثبيت سيطرة.

أمام هذه المعيقات الصعبة جدا، يبدو أن الحديث عن مرحلة “ما بعد حماس” أو “اليوم التالي” هو حديث بعيد عن الواقع، وغير مؤكد الحدوث إن لم يحدث ما هو عكسه تماما، وقد قال “نتانياهو” في ضوء ذلك: “لن نتحدث عن مستقبل غزة إلّا بعد القضاء على حماس”.

عود على بدء:

تثبت الخبرة الطويلة والتجربة مع الاحتلال “الإسرائيلي” أنّ سياسته الدائمة هي طرح الخطط والرؤى وإشغال الجميع بنقاشها، بينما ينشغل هو في تشكيل الواقع على الأرض، فمنذ اتفاقية “أوسلو” عام 1993 طرح الاحتلال عشرات الخطط والمبادرات، وأعلن التزامه بحل الدولتين، ووقع اتفاقيات وخاض مفاوضات متعددة، ثم أوقف التفاوض وبدأ بطرح مبادرات جديدة، مثل السلام الاقتصادي ل”نتنياهو”، ومخطط ضم الضفة الغربية و”صفقة القرن”، وتقليص الصراع لرئيس الوزراء الأسبق “نفتالي بينت”، وخطة الحسم للوزير المستوطن “بتسلإيل سموترتيش”، وبينما كان الجميع منشغلًا بهذه المخططات والمقترحات، كان الاحتلال يفرض وقائع على الأرض ويعيد تشكيل الأمر الواقع بما يحقق غاياته النهائية المتعلقة بالاستيطان والتهجير في الضفة الغربية.

لا يختلف الواقع الحالي في قطاع غزة، فبينما تُشغل جميع الأطراف في مسألة ما بعد الحرب، يفرض الاحتلال وقائع على الأرض ستكون كفيلة برسم مستقبل القطاع ما بعد الحرب. فالتضارب وعدم الوضوح لدى الاحتلال في مستقبل قطاع غزة لا يتلعق فقط بأنه ليس لديه أهداف قابلة للتنفيذ، وإنما هي سياسة خلق الوقائع من خلال الميدان حتى لا تتعرض لانتقادات تعيق تنفيذ أهدافه، فعلى سبيل المثال، في بنية السردية الصهيونية حول أحداث النكبة عام 1948، تبرر دولة الاحتلال سبب تهجير الفلسطينيين بأنه جاء بناء على طلب القيادات العربية من الفلسطينيين الخروج من أراضيهم، وأنها لم يكن لديها خطة أو سياسة للتهجير.

الملاحظ الآن أنّ الاحتلال يركز جل مجهوده العسكري على شمال قطاع غزة، ولكن هذا المجهود يضمن تدمير كل مقومات الحياة فيه من بنى تحتية ومشافي ومحطات ومنزل وعمارات سكنية وغيرها الكثير، كما أنّه يفرض عليه حصارًا قاتلًا يضاعفه بارتكاب المجازر الإجرامية، وفي هذه الظروف ليس أمام الناس سوى النزوح جنوبًا أو انتظار الموت جوعًا وعطشًا وقصفًا، ومن المعروف أنّ الاحتلال سينتقل لتنفيذ غزوه البري للجنوب قريبًا، ما يعني أنه سيمارس نفس السياسات  هناك، وقد بدأ جيش الاحتلال بإلقاء مناشير على مناطق في خانيونس، شمال جنوب القطاع، تدعوهم إلى النزوح جنوبًا، والمخطط النهائي هو التهجير.

بطبيعة الحال، ترفض مصر خيار التهجير إلى سيناء رفضًا قاطعًا، ولكن قد لا يحدث التهجير بالصورة المتوقعة، وإنما كما طالب “سموتريتش” بـ”هجرة طوعية” إلى دول العالم. ومصطلح الهجرة الطوعية هو مجرد تلاعب بالألفاظ، فبعد تدمير كل مقومات الحياة في غزة وحرمان الناس من أبسط حقوقهم لن يكون أمامهم سوى الفرار من هذا الواقع إلى مكان آخر.

الخاتمة:

وقع الاحتلال في مأزق فيما يتعلق بطريقة التعامل مع قطاع غزة، ومع أنّ حل هذا المأزق بسيط جدًا، وهو تقديم تنازل لتلبية الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود 1967، إلّا أنّ الاحتلال تجاهل تمامًا هذا الحل، وأمات إمكانية تحقيقه، والآن تبحث له الولايات المتحدة عن مخرج من مأزقه وقلة خياراته في التعامل مع قطاع غزة، ومن الواضح أنّ الضفة الغربية خارج كل هذه الحسابات حاليًا، مع أنّ مأزق الاحتلال لا ينحصر في غزة، وإنّما يشمل الضفة الغربية بما فيها القدس أيضًا، وفي ظل الانشغال بمناقشة المخططات والأطروحات الأمريكية و”الإسرائيلية” لمرحلة ما بعد الحرب، ينشغل الاحتلال برسم مستقبل غزة والضفة الغربية من خلال العمل على الأرض وتهيئة ظروف التهجير، تحت مسمى “الهجرة الطوعية”، بـ”كي وعي” الشعب الفلسطيني وإرهابه ودفعه للتلسيم لآلة القتل والدمار الصهيونية، ليكون متقبلًا لفكرة الرحيل عن أرضه التي لم تعد صالحة للحياة.

مع ذلك، ليس من الضروري أن ينجح الاحتلال في مسعاه هذا أيضا، فالمعيقات التي واجهت كل البدائل التي طرحت سابقًا، بما فيها التهجير، تواجه هذا الخيار غير المعلن أيضًا، فكل شيء مرهون بنتائج الحرب ومدى قدرة دولة الاحتلال على المغامرة بدفع الجبهات الأخرى والدول العربية إلى خط المواجهة. ولكن ذلك يستدعي الوقوف في وجه هذا المخطط أيضًا، واتخاذ إجراءات لوقف القتل والتدمير الممنهج الهادف إلى إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى