الأسرى الفلسطينيون.. الموت البطيء نتيجة سياسة الإهمال الطبي

أ. كريم قرط[1]

أعادت حادثة استشهاد الأسير ناصر أبو حميد -المحكوم بسبعة مؤبدات وخمسين عامًا- سياسة الإهمال الطبي التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون في السجون “الإسرائيلية” إلى الواجهة، حيث أتى خبر اسشتهاده بعد أيام معدودة من الإعلان عن إصابة الأسير وليد دقة بسرطان في نخاع العظم، وقد أُعلن عن إصابة الأسير ناصر أبو حميد بسرطان الرئة للمرة الأولى في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2021، بعد مماطلة إدارة السجن وإهمالها في إجراء فحوص طبية له في وقت مبكر، وقد أخذت صحته بالتدهور السريع نتيجة الكشف المتأخر عن إصابته بالسرطان، وترافق ذلك مع رفض الاحتلال الإفراج المبكر عنه لمرتين، ليرتقي شهيدًا في صبيحة يوم الثلاثاء 20 كانون الأول/ديسمبر 2022.

يسلط هذا التقرير الضوء على سياسة الإهمال الطبي والموت البطيء التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، ويحاول أن يجيب على عدد من التساؤلات أهمها: ما هي الظروف الاعتقالية التي يعاني منها الأسرى الفلسطينيون، وما أهم مظاهرها؟ وهل ترتق المواقف السياسية والشعبية الفلسطينية لحجم معاناة الأسرى المرضى؟

بيئة من الإهمال الطبي:

يقبع الأسرى في سجون الاحتلال في ظل ظروف صحية سيئة ومحفزة لانتشار الأمراض؛ بسبب اكتظاظ السجون بأعداد كبيرة من الأسرى، وحرمانهم من أشعة الشمس المباشرة، إلى جانب حالة إهمال متعمد في المتابعة الصحية من قِبَل إدارة مصلحة سجون الاحتلال، حيث تعتبر نسبة الأسرى المرضى في السجون “الإسرائيلية” كبيرة جدًا، فحسب معطيات نادي الأسير الفلسطيني بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال نحو 4700 أسيرًا حتى نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر2022، وقد بلغ عدد الأسرى المرضى من بينهم نحو 600 أسير، من بينهم 200 أسير يعانون من أمراض مزمنة، منهم 22 أسيرًا مصاب بالسرطان والأورام المختلفة، بالإضافة إلى 15 أسيرًا مريضًا محتجز في مستشفى سجن الرملة بشكل دائم لصعوبة أوضاعهم الصحية.

تتغير هذه الأرقام من عام لآخر بناءً على معطيات مختلفة، ففي عام 2018 كان عدد الأسرى المرضى نحو 1800 أسير، بينهم 700 أسير بحاجة إلى تدخل علاجي عاجل، ويشير تقرير نادي الأسير إلى أن هذه الإحصائية تستند إلى من شُخّصوا طبيًا فقط، وقد يكون هناك المزيد من الأسرى المرضى، ولم يُشخّصوا نتيجة سياسة الإهمال الطبي،  كما أنَّ هناك أمراضًا مؤقتة أو غير مزمنة شائعة بين الأسرى مثل البواسير واضطرابات الجهاز الهضمي وهي غير مشمولة عادة في الإحصاءات لتقليل إدارة السجون من شأنها، وهو ما يعني أن نسبة الأسرى المرضى فعليًا تفوق ما تورده الإحصاءات الرسمية، وبشكل عام فالظروف الاعتقالية في السجون “الإسرائيلية” تكشف عن بيئة محفزة لانتشار الأمراض وتفاقمها بين الأسرى، ومن بين هذه الظروف:  

  • ظروف الاعتقال السيئة التي تتمثل في: قلة التهوية، والرطوبة الشديدة، والاكتظاظ الهائل، والحرمان من وسائل التدفئة شتاءً والتبريد صيفًا خاصة في السجون الصحرواية، وهي ظروف تؤثر على الأسرى الأصحّاء قبل المرضى.
  • استخدام العنف والاعتداء على الأسرى، بما فيهم المرضى؛ واستخدام الغاز لقمعهم؛ ما يفاقم خطورة حالتهم الصحية.
  • الإجراءات العقابية بحق الأسرى تزيد من تدهور أحوالهم النفسية والصحية، مثل الحرمان من الزيارات، والتفتيش الليلي المفاجئ، وإجبار الأسرى على خلع ملابسهم بطريقة مهينة، وزج الأسرى في زنازين العزل الانفرادي، عدا عن رحلة العذاب في البوسطة عند التنقل بين المحاكم والسجون.

تترافق ظروف الاعتقال السيئة مع سياسة إهمال طبي متعمدة بحق الأسرى، التي تتجلى أهم مظاهرها في:

  • المماطلة في تقديم العلاج والامتناع عن إجراء العمليات الجراحية للأسرى المرضى، إلا بعد تدهور صحته وضغوط الحركة الأسيرة.
  • عدم تقديم العلاج المناسب للأسرى المرضى حسب طبيعة المرض الذي يعانون منه.
  • عدم وجود أطباء مختصين داخل السجن، والاكتفاء بطبيب عام واحد.
  • افتقار عيادات السجون إلى وجود أطباء مناوبين ليلاً لعلاج الحالات الطارئة.
  • عدم توفر الأجهزة الطبية المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة من الأسرى، مثل: الأطراف الصناعية لفاقدي الأطراف، والنظارات الطبية.
  • عدم تقديم وجبات غذائية صحية مناسبة للأسرى، تتماشى مع الأمراض المزمنة التي يعانون منها.
  • عدم وجود غرف أو أقسام عزل للمرضى المصابين بأمراض معدية، مثل: التهابات الأمعاء الفيروسية الحادة والمعدية، والجرب.
  • نقل الأسرى المرضى إلى المستشفيات في البوسطة، وهم مكبلو الأيدي والأرجل في ظروف غير صحية.
  • حرمان الأسرى ذوي الأمراض المزمنة من أدويتهم.
  • افتقار مستشفى سجن الرملة، الذي ينقل إليه الأسرى المرضى، إلى المستلزمات والتجهيزات الطبية والصحية؛ حيث لا يختلف عن السجن في الإجراءات والمعاملة القاسية للأسرى المرضى.
  • تعاني الأسيرات من عدم وجود أخصائي أو أخصائية أمراض نسائية؛لا سيما وأن من بين الأسيرات من اعتقلن وهن حوامل، وبحاجة إلى متابعة صحية، خاصة أثناء الحمل وعند الولادة.
  • ·       استغلال الوضع الصحي للمعتقل، كأسلوب ضغط وتعذيب خلال التحقيق لانتزاع اعتراف منه.

أُعلن نتيجة لهذه السياسات عن إصابة 7 أسرى بالسرطان منذ شهر آب/أغسطس 2021 وحتى نهاية2022، وكان آخرهم الأسير وليد دقة، بينما لا يزال هناك عدد من الأسرى بانتظار تشخيص حالاتهم للتأكد من إصابتهم بالسرطان.

تنتهك “إسرائيل” بسياساتها تلك، مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالرعاية الصحية المقدمة للأسرى، التي نصت عليها اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة، واللتان تنص موادّهما على تقديم الرعاية الصحية التامّة للأسرى، وإجراء الفحوص الروتينية لهم وحمايتهم من مسببات الأمراض، وتزويدهم بالغذاء الصحي والمرافق الصحية الملائمة لظروفهم.

سياسة الموت البطيء:

تؤدي سياسات الاحتلال وظروف الاعتقال الآنفة إلى تدهور الوضع الصحي للأسرى، حيث يعيش -وخاصة الذين يعانون من الأمراض المنزمنة- في حال “احتضار” طويل الأمد أو عملية “موت بطيء” يؤدي بهم في نهاية المطاف إلى مقابر الأرقام التي يحتجز فيها الاحتلال جثامين الشهداء الفلسطينيين، فإدارة السجون على سبيل المثال لا تلتزم بإجراء الفحوص الدورية للأسرى والأسيرات، خاصة فحص سرطان الثدي، إذ إنّ الأسرى الذين يُعلن عن إصابتهم بالسرطان يكونوا قد عانوا لسنوات طويلة من تردي أوضاعهم الصحية، ولا تجري لهم إدارة السجون أيّ فحوص طبية لازمة إلا بعد استفحال المرض بأجسادهم، ووصول حالاتهم إلى مراحل ميؤوس منها، ما يؤدي إلى استشهادهم بعد فترة وجيزة من الإعلان عن إصابتهم بالمرض، فعمدل الانتظار الذي يحتاجه الأسير لإجراء عملية جراحية مستعجلة يترواح بين العام والعامين، كما ويضطر الأسرى للانتظار أشهرا طويلة لإجراء فحص طبي أو تلقي علاج بسيط، ما يزيد حالتهم الصحية سوءًا.

أدت سياسات الإهمال الطبي والإماتة البطيئة إلى استشهاد أكثر من 74 أسيرًا وأسيرةً فلسطينية في سجون الاحتلال من مجمل 232 شهيدًا للحركة الأسيرة منذ العام 1967، كان آخرهم الشهيد ناصر أبو حميد، غير أنّ استمرار الاحتلال بسياسة الإهمال الطبي سيبقي العدد قابلًا للزيادة في أيّ حين، ومع اسشتهاد الأسير أبو حميد ارتفع عدد جثامين الأسرى التي يحتجزها الاحتلال إلى 11 جثمانًا من بين مئات الجثامين التي يحتجزها الاحتلال في مقابر الأرقام والثلاجات، حيث تنتهج سلطات الاحتلال سياسة احتجاز جثامين الشهداء لاستغلاها كورقة ضغط في أيّ مفاوضات مستقبلية في إطار صفقات تبادل الأسرى، كما أصدرت المحكمة العليا “الإسرائيلية” في سنة 2019 قرارًا ينصّ على أنّ للقائد العسكري صلاحية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين ودفنهم مؤقتًا؛ لأغراض استعمالهم ليكونوا أوراق تفاوض مستقبلية، وعدا عن استشهاد الأسرى في السجون نتيجة الإهمال الطبي، فإن هناك العديد من الأسرى يستشهدون بعد الإفراج عنهم، لانتهاء أحكامهم، بمدة قصيرة نتيجة الأمراض التي أصيبوا بها في السجون.

مواقف ضعيفة:

مقابل هذه الانتهاكات وما يتعرض له الأسرى، لا تزال المواقف الفلسطينية ضعيفة من اتخاذ خطوات عملية تجبر الاحتلال على توفير أبسط الحقوق للأسرى الفلسطينيين من خلال الحصول على العلاج اللازم ، على الرغم من وضع هذه القضية على سلم الفصائل الفلسطينية المقاومة ضمن صفقات تبادل الأسرى، فعلى سبيل المثال، توالت بيانات النعي والتنديد عند أُعلن عن نبأ استشهاد الأسير أبو حميد من السلطة الفلسطينية ومختلف الفصائل وتحميلهم الاحتلال مسؤولية استشهاده نتيجة الإهمال الطبي، داعيين إلى محاسبة “إسرائيل” في المحاكم الدولية، بينما دعت الحكومة الفلسطينية الصليب الأحمر للضغط على “إسرائيل” للإفراج عن جثمان الشهيد، وأعلنت وزارة الخارجية الفلسطينية أنها تبذل جهودًا دولية للإفراج عن جثمانه، وبشكل عام، كانت بيانات الفصائل والسلطة الفلسطينية متشابهة في الديباجة قليلة المضمون، ولم تُستتبع بخطوات على الأرض.

أما على المستوى الشعبي؛ فقد شهدت عدة محافظات من بينها رام الله والبيرة والخليل وبيت لحم ونابلس وغزة إضرابًا شاملًا حدادًا على روح الشهيد، فيما أعلن الاتحاد العامّ للمعلمين الإضراب في المدارس كافة، وقد خرجت مظاهرة في رام الله متوجهة إلى مخيم الأمعري، مسقط رأس الشهيد، احتجاجًا على استشهاده، فيما شهدت بعض المناطق مواجهات مع قوات الاحتلال في الخليل ومخيم العروب، وبعيدًا عن الأوضاع في الشارع، فقد ظهرت حالة ملحوظة من التضامن والاحتجاج والحزن على وسائل التواصل الاجتماعي.

من الملاحظ أنَّ ردود الفعل الفلسطينية على المستويات الرسمية والفصائلية والشعبية دون المستوى المطلوب، فلم تخرج مسيرات جماهيرية ووقفات احتجاجية عارمة، ولم تشهد معظم مناطق التماس مواجهات مع قوات الاحتلال مع صدور دعوات للتوجه لنقاط التماس والاشتباك مع قوات الاحتلال.

ولذلك، لا بد من إيلاء قضية الأسرى وسياسة الإهمال الطبي المزيد من التركيز الإعلامي والنشاط الجماهيري، حتى تتحول إلى قضية رأي عام تشغل بال الشارع الفلسطيني ليل نهار، ليكون متفاعلًا معها على الدوام، وليس فقط عند استشهاد أحد الأسرى أو تردي صحة أحدهم.

أخيرًا..

إنَّ واقع الإهمال الطبي المتمثل في أنّ ربع الأسرى مرضى في سجون الاحتلال، من بينها أمراض مزمنة وخطيرة؛ هي مسألة تثير الاستغراب، وتتعدى كونها مسألة إهمال طبي إلى كونها سياسة ممنهجة تستهدف إسقام الأسرى بوسائل مختلفة؛ فالاكتظاظ في الأقسام والغرف، والحرمان من وسائل التدفئة في الشتاء ووسائل التبريد في الصيف خاصة في المعتقلات الصحراوية، والحرمان من حرية الحركة وممارسة النشاط الرياضي، وظروف التنقل في البوسطة والاحتجاز في نظارات المحاكم ومراكز التحقيق، وتأثير أجهزة التشويش على الهواتف التي تنشرها مصلحة السجون في السجون والأقسام كافة، والضغوط النفسية التي تولدها ظروف الاعتقال، والقمع الذي يتعرض له الأسرى في السجون، والتعذيب في التحقيق سواء أكان مادّيًا أو نفسيًا، وغيرها من الوسائل والظروف، هي كلها عوامل تؤدي إلى زيادة انتشار الأمراض بين الأسرى بمختلف أنواعها.

وعليه، إنَّ ما يواجهه الأسرى ليس سياسة إهمال طبي عشوائية، وإنما هي سياسة إماتة وإضعاف متعمدة، تستهدف إضعاف الحركة الأسيرة داخل السجون، وحرمان الشعب الفلسطيني من رموزه ومناضليه خارج السجون، الأمر الذي يتطلب مواجهة هذه السياسة على الأصعد كافة وبمختلف الوسائل القانونية والإعلامية والشعبية وغيرها حتى يغلق ملف الإهمال الطبي واستشهاد الأسرى جرّاءه.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى