استهداف الأطفال الفلسطينيين بالقتل..  دلالات الفعل وآليات المواجهة

د. سامر نجم الدين[1]

منذ بداية العام الجاري 2023 بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين جراء الاستهداف المباشر من قوات الاحتلال حوالي 197 شهيدًا، منهم 35 طفلًا، ارتقى 28 طفلًا في الضفة الغربية وحدها، منهم 13 في جنين، وبذلك يبلغ عدد الشهداء من الأطفال الذين ارتقوا منذ عام 2000 في الضفة وحدها ما يزيد عن 553 طفلًا، ما يثير تساؤلًا ما إن كان استهداف الاحتلال للأطفال ضمن سياسة ممنهجة؟ وما دلالات هذا الاستهداف؟

لقد أسبغت القواعد الدولية حماية خاصة للأطفال في النزاعات المسلحة، وجعلت من تجنب المساس بهم واجباً على الأطراف المتحاربة، بوصفهم من المدنيين المتمتعين بالحماية الدولية، وجعلت هذه الاتفاقيات المساس بهم جريمة يعاقب عليها القانون؛ فنصوص القانون الدولي الناظمة لذلك مثل اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1979، واتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، والمعروفة باتفاقية طوكيو وملحقاها الاختياريين، تعدّ نصوص حماية للطفل، وتحرم المساس به، وتصف خارطة طريق للتعامل معه أثناء الحروب، غير أنّ الاحتلال “الإسرائيلي” لا ينصاع عادة لقواعد القانون الدولي بالعموم، ومنها ما يتعلق بالأطفال، فاستهداف الجيل الناشئ من الفلسطينيين بالأسر والقتل بات واضحًا بأنه هدف على الأرض، ولو لم يكن معلناً على وسائل الإعلام.

يملك الفلسطينيون في السياق القانوني ما كانوا يفتقدوه بالأمس، وهي ماكنة الملاحقة، المتمثلة باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ فجرائم قتل الأطفال تعتبر جرائم وفق نظام روما لعام 1998، فبإمكانهم ملاحقة جنود الاحتلال وقادته عن جرائمهم تجاه الأطفال، إذ يمكن استغلال قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 3 آذار/مارس 2021، والذي اعتبر أنّ الأراضي الفلسطينية تدخل ضمن ولاية المحكمة الجنائية الدولية، ونَقَل فلسطين من مرحلة الدراسة الأولية إلى مرحلة التحقيق، لذلك فإنّ ممارسات الاحتلال المنظمة ضد الأطفال، والأرقام اللافتة لزيادة عدد الشهداء منهم منذ مطلع العام الجاري، تستدعي التحليل والنظر إلى الدلالات في سياق القانون الدولي والحماية المفترضة للأطفال.

أشكال الانتهاكات:

لا تقتصر الانتهاكات “الإسرائيلية” تجاه الأطفال الفلسطينيين على القتل فحسب، فهناك أشكال أخرى للإنتهاكات أكثر استخداماً تجاههم، أبرزها توقيف الأطفال، واحتجاز جثامين بعض الشهداء الأطفال، واستخدام الأطفال دروعًا بشرية في اقتحامات بعض المناطق، وغيرها من الانتهاكات، فوفقًا لإحصائيات الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين، فقد وُثِّق ما يزيد عن 20 حالة استخدام للأطفال دروعًا بشرية منذ عام 2006 حتى الان من قِبل جنود الاحتلال، فيما بلغ عدد الأطفال الذين تعرضوا للاعتقال منذ عام 2008 حتى نهاية 2022 ما يزيد عن 3546 طفلًا، إضافة إلى تعرض العشرات من الأطفال لاعتداءات المستوطنين في مختلف محافظات الضفة.

كل هذه الإنتهاكات تدلل على أنّ الجنود “الإسرائيليين” لا يضعون في اعتبارهم أيّة خصوصية لحماية الأطفال واحترام حقوقهم، بل نجد أنّ هناك سياسة منظمة لانتهاك حقوق الأطفال، وبِنِية مُبيَّتة ومسبقة من قِبَل الجنود.   

مرتكزات الحماية الدولية للأطفال الفلسطينيين:

يولي القانون الدولي الأطفال حماية خاصة ويحرم المساس بهم، بل ويلزم معاملتهم معاملة إنسانية، كما ويلزم أن يكون لهم موضع احترام خاص(م77/1 البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف)، بل إنه يجب إبعاد الأطفال بالقدر المستطاع عن أماكن الاستهداف ومراكز الأعمال العدائية، كونهم من المدنيين (م77/2 البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف)، ويجب ضمان عدم اشراكهم في العمليات الحربية (م38/2 من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989)، خصوصاً أنه لم يثبت بالمطلق مشاركة الأطفال الفلسطينيين في أيّة أعمال قتالية، لا بل إن المقاومة الفلسطينية تحرص كل الحرص على منع الفلسطينيين الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا من المشاركة بأيّة أعمال قتالية.

يعتبر استهداف الأطفال وقتلهم بشكل متعمد أثناء الحرب جريمة حرب وفق أحكام المادة (8/2/أ/1) من نظام روما الأساسي، خصوصاً وأن استهداف الأطفال يأتي في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم ، فهو قتل منظم واستهداف مقصود، كذلك يعتبر قتل الأطفال في غزة من خلال قصف منازل المدنيين جريمة حرب، وهو مخالفٌ لأحكام المادة (8/2/أ/20) من نظام روما الأساسي، حيث تُستَخدم أسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية تسبب بطبيعتها أضراراً زائدة أو آلاماً لا لزوم لها، أو تكون عشوائية بطبيعتها، خلافًا للقانون الدولي للمنازعات المسلحة، كذلك فإنّ القتل العمد يعتبر جريمة ضد الإنسانية وفق احكام المادة (7/1/أ) من نظام روما الأساسي، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ فلسطين انضمت بالفعل إلى المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 13/6/2014، وأنّ “إسرائيل” لا تزال ترفض الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما قد يفسر تلك الأريحية التي يتمتع بها الجنود “الإسرائيليون” أثناء ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين.

أسباب زيادة استهداف الأطفال:

بالرغم من أنّ سياسة الاستهداف “الإسرائيلية” للأطفال مستمرة منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، إلّا أنّه يمكن قراءة بعض العوامل التي تساهم في رفع نسب الاستهداف في الآونة الأخيرة، والمتمثلة في:

1. وصول اليمين المتطرف إلى سُدّة الحكم، إذ أسفرت الانتخابات “الإسرائيلية” الأخيرة إلى تشكيل ائتلاف حكومي بقيادة “بنيامين نيتنياهو”، وضم فيه اليميني المتطرف “إيتمار بن غفير” وزيراً للأمن القومي، والمتطرف “بتسلئيل سموتريتش” وزيراً للمالية، حيث أنّ قيادة سياسية عنيفة كهذه، لا شك في أنها ستغذي وحشية الاحتلال ودمويته، فقد باتت جميع الأهداف أمام جنود الاحتلال مفتوحة.

2. غياب قاعدة الدِقة والتحوّط في الأهداف، فمن المعلوم أنّ أهداف أيّ جيش يجب أن تكون عسكرية فقط، ولا بد من الابتعاد عن المدنيين والأعيان المدنية، وهو واجب إلزامي على المتحاربين، لا تَفَضُّل منهم، إلّا أنّ عشوائية الاستهداف من قِبل الجنود “الإسرائيليين” والطائرات والمدافع الحربية باتت واضحة، فالأعيان المدنية مثل المنازل والمدارس والمستشفيات وغيرها غَدت أهدافًا مباحة لجنود الاحتلال وطائراته؛ فاستهداف المنازل الواقعة في عمارات سكنية أو محاطة بالسكان كانت أحد أهم أهداف جيش الاحتلال في حربه الأخيره على غزة، ولم يحمِ هذه المنازل تواجدها في محيط سكني محرّم المساس به، وهذه المنازل تحوي عدد كبير من الأطفال، والاستهداف بالقنابل والصواريخ سيؤدي بالضرورة إلى قتلهم، خصوصاً وأنّ هذه النوعية من الأسلحة كبيرة الحجم والوزن والتأثير، وكثير منها محرّمٌ دولياً، وفي هذا رسالة واضحة إلى المقاومة في غزة بالذات، أن لا مكان آمن يحميهم من يد الاحتلال، حتّى منازلهم، وهي الرسالة ذاتها التي حاول الاحتلال إيصالها إلى المقاومة في مخيم جنين بقصف المنازل والمساجد، وتشريد الأُسر والعائلات بما فيها الأطفال، بيد أنّ هذه   الممارسات لا تعفي الجنود من المسؤولية الفردية، بسبب حداثة الأسلحة التي بحوزتهم والتطور التكنولوجي لديهم، لكن كما أسلفنا، فقاعدة التحوّط والدقة في الأهداف لا يطبقها جنود الاحتلال بسبب الضوء الأخضر في القتل من قيادتهم.

3. خلفية دينية تسمح بقتل الأطفال، إذ أصدر العديد من الحاخامات اليهود على مر التاريخ فتاوى تبيح قتل الفلسطينيين دون تمييز لسن أو جنس أو لغير ذلك، مثل الحاخام “إسحق غيزنبيرغ” والحاخام “إسحق يوسف”، كذلك ما ورد من إباحة القتل في كتاب “توراة الملك” أو “شريعة الملك” الذي ألّفه الحاخامان “يتسحاق شابيرا” و “يوسيف اليتسيور”، وهذا الالتزام التاريخي له العديد من الشواهد، ابتداءً من مجزرة دير ياسين وحتى يومنا هذا، فجنود الاحتلال لا يجدون رادع في قتل الأطفال، ولا يضبط سلوكهم قواعد الأخلاق أثناء الحرب.

4. الحرب على غزة، فمما لا شك فيه أنّ الحرب التي شنتها قوات الاحتلال على غزة، أو عملية السهم والدرع كما أسمتها “إسرائيل” في التاسع من أيار 2023، واستخدام القصف الممنهج في استهداف المنازل الفلسطينية، بادعاء وجود قادة للمقاومة فيها، أدى إلى وقوع عدد كبير من الأطفال ضحايا لهذا القصف، وبمقارنة أعداد الشهداء الأطفال منذ العام 2000 حتى اليوم، نجد أنّ السنوات التي تشن فيها “إسرائيل” حرباً على غزة تتضاعف فيها أعداد الشهداء الأطفال عن غيرها من السنوات، وهذا يدلل على حجم الإجرام الذي تستخدمة آلة الحرب “الإسرائيلية” في حروبها الستة على غزة.

– آلية مواجهة استهداف الأطفال الفلسطينيين:

يمكن للفلسطينيين أن يلجئوا إلى عدد من الآليات أو الخطوات لمواجهة استهداف الأطفال، وتتمثل أبرزها في:

1. التوجّه إلى محكمة الجنايات الدولية بشكل فردي أو من خلال وزارة الخارجية الفلسطينية، حيث أنّ الملاحقة الفردية لجرائم الجنود والقادة “الإسرائيليين” عن قتل الأطفال ستكون أكثر أثراً من أي توجّه آخر، وإن تمتع هذا التحرك بالجدية، يعني بالضرورة رسالة تحذيرية شديدة اللهجة للجنود والقادة “الإسرائيليين”، خصوصاً وأنّ جُلّ الجنود “الإسرائيليين” يحملون جنسيات أخرى إلى جانب جنسيتهم “الإسرائيلية”، وهذا سيجعل إمكانية ملاحقتهم بسبب جرائمهم ممكناً، سواء على أرض جنسيتهم الاخرى أو من خلال المحكمة الجنائية الدولية، أو قد يحدّ من جهة أخرى قدراتهم على السفر والتنقل، ممّا سيُسهم في عدم استهداف الجنود للأطفال إذا ما شعروا بامكانية الملاحقة، واهتز شعورهم بالأمان، من جانب آخر فأنه لا يوجد ما يشجع على التوجه إلى المحاكم “الإسرائيلية” بشأن جرائم ارتكبها الجنود “الإسرائليون”،- مع توجه بعض الفلسطينيين لذلك، خصوصاً من حملة هوية القدس أو الجنسية “الإسرائيلية”- كون المحاكم “الإسرائيلية” غير منصفة، ومعظم أحكامها تتسم بتخفيف الأحكام عن الجنود أو المستوطنين (مثل قضية حرق عائلة دوابشة في قرية دوما في نابلس، وقضية حرق الطفل أبو خضير في 2 تموز 2014 في شعفاط – القدس).

2. تكثيف النشاط الإعلامي حول ظاهرة قتل الأطفال على المستوى الدولي، من خلال التقارير المرئية أو الأفلام الوثائقية او التقارير المكتوبة المترجمة لأكثر من لغة، خصوصًا في ظل ميل عالمي للتعاطف مع الأطفال وحقوقهم، وانعكاس ذلك على الاتفاقيات الدوليه.

3. عدم اقتصار دور المؤسسات الحقوقية على توثيق الانتهاكات وإصدار التقارير فقط، بل يجب أن يكون لهم دور فاعل في تشجيع توجه الدولة والأفراد إلى المحاكم الدولية، وتشجيعهم على الملاحقة الفعلية لمرتكبي الجرائم في الدول التي تأخذ بمبدأ الاختصاص العالمي للجرائم الدولية، والتوعية الحقيقية لأهالي الضحايا بحقوقهم في هذ الاتجاه الدولي.

4. إطلاق سلاح التهديد من قِبل المقاومة في حال استهداف الأطفال وأماكن تواجدهم المحتلة، بالذات داخل الأعيان المدنية، فتهديدات المقاومة باتت تُؤخذ على محمل الجد من قِبل الاحتلال والمجتمع الدولي، وعلى المقاومة استغلال ذلك بأفضل صورة، وإعلان أنّ استهداف الأطفال خط أحمر يُفتح على الاحتلال حال تخطيه.

الخلاصة:

إنّ ازدياد استهداف الأطفال الفلسطينيين بالقتل والسجن والتشريد وغير ذلك من الممارسات، واتباع سياسة التخويف المبكر للأطفال لردعهم عن أيّة أعمال مقاومة مستقبلية، وزرع الخوف بداخلهم، ليس وليد الصدفة، إنّما هو نتاج دولة عسكرية ذات جذور دينية قائمة على التطرف في كل أفعالها، لذا فإنّ انعدام الردع يسهم في تمادي المجرم، ودم الفلسطيني طفلاً أو شاباً أو إمرأة، لا يزال بلا رادع حقيقي يمنع من استمراء إراقته، لذا لا بدّ من خطة فلسطينية متفق عليها وبظهير دولي لفضح جرائم الاحتلال ومحاكمة قادته وجنوده عن جرائمهم تجاه الأطفال الفلسطينيين.


[1] – أستاذ القانون في جامعة الخليل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى